في أفق عام 2020، سيعرف العالم ثورة تكنولوجية لم تشهدها البشرية من قبل؛ فبعد الجيل الرابع من الهاتف النقال وما تبعه من ابتكار تكنولوجي تمثل في الصبيب العالي، ساهم في ترسيخ موقع شبكة الأنترنت في حياتنا اليومية، تنكب شركات الاتصالات العالمية في الوقت الراهن على تطوير النسخة الخامسة من الهاتف النقال، وقد اتفقت جميعها على جعل 2020 سنة الانطلاقة الفعلية للجيل الجديد منه. هذه النسخة الجديدة ستنتج عنها ثورة تكنولوجية غير مسبوقة، ذات بعد اجتماعي واقتصادي عنوانها “ثورة الكل متصل ” (Tout connecté).
ما حققه الجيل الثالث من الهاتف النقال من طفرة نوعية في توسيع دائرة مستعملي النقال، إذ تجاوز العدد 2 مليار زبون عبر العالم، مرده بالأساس إلى ربط النقال بشبكة الأنترنيت. لقد نبه الجيل الثالث شركات الاتصال العالمية إلى الاهتمام الكبير للبشرية بخدمات الأنترنيت وشغفها الكبير بهذه الشبكة؛ الأمر الذي جعلها تفكر في كيفية معالجة مشكل الصبيب الذي أصبح عائقا أمام توسع خدمات الشبكة العنكبوتية. وزاد من حدة المشكل العدد الهائل من زبناء النقال الذي يتطلب صبيبا لا تستطيع التقنية المتاحة توفيره، وهو الأمر الذي يعني بالنسبة لشركات الاتصالات ضياع عدد كبير من الزبناء، يُترجَم بفقدان نسبة معتبرة من رقم معاملتها. تنضاف إلى هذا المعطى كثرة التطبيقات التي تستعمل الصور والفيديوهات التي تتطلب صبيبا أعلى. تمت معالجة المشكلة بطرح الجيل الرابع للنقال الذي أتى بمصطلح جديد في عالم الأنترنيت وهو “الصبيب العالي”(Haut débit).
ربط الهاتف النقال بالأنترنيت جعل مصير الشبكتين: النقال والأنترنيت مرتبطا بشكل عضوي حتى أصبح بإمكاننا الاعتقاد دون مجازفة أن مصير الواحدة رهين بمصير الأخرى. إلى حدود الجيل الرابع لم يكن الحديث سوى عن الربط بشبكة الأنترنيت من خلال الهاتف النقال أو الكومبيوتر، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بالربط أو الأنترنيت الافتراضي الذي تحتل فيه مواقع التواصل الاجتماعي مكانة مهيمنة. لكن مع الجيل الخامس ستعرف كل من شبكة النقال وشبكة الأنترنيت ثورة مزدوجة ستغير ملامح العالم، ليس الافتراضي وإنما العالم الذي نلمسه ونعيشه؛ فالهاتف النقال سيطرح مفهوم “الكل متصل”، بمعنى أن كل ما يتحرك في اليابسة سيصبح مرتبطا بالأنترنيت، كالسيارة والمنزل والبضائع، وفي المجال الفلاحي نجد الأبقار والماشية والضيعات الفلاحية، بل سيمتد هذا المفهوم إلى الإنسان كذالك.
وتفيد بعض الدراسات بأن الجيل الخامس سيسمح بربط 50 مليارا من الأشياء بالأنترنيت. أما الشبكة العنكبوتية فستشهد تطورا موازيا لما ستشهده شبكة النقال، إذ سيظهر للوجود مفهوم “أنترنيت الأشياء” (Internet des Objets)؛ وهو ما يعني أن خدمات الأنترنيت ستخرج من الفضاء الافتراضي لتشمل فضاء الواقع البشري. تطور سيكون متكاملا مع مفهوم “الكل متصل” الذي سيطرحه الجيل الخامس.
لتقريب الصورة أكثر إلى ذهن القارئ بخصوص ما سيحدث في المستقبل القريب بعد إنشاء شبكة الجيل الخامس سنتطرق للتحولات التي سيعرفها قطاع الصناعة وقطاع الفلاحة من خلال مثالين؛ الأول يخص المفهوم الجديد للسيارة المرتبطة بالأنترنيت، والثاني عنوانه البقرة المرتبطة بالأنترنيت:
1 – مع ثورة “الكل متصل” ستصبح السيارة التي نستعمل الآن سيارة تقليدية أمام سيارة الغد. فجميع مصنعي السيارات يسابقون الزمان لتطوير سيارة مرتبطة بالأنترنيت، يكون فيها دور السائق ثانويا، إذ ستكون جميع وظائف السيارة أوتوماتيكية وموجهة بتطبيقات الأنترنيت. وإذا كان الابتكار التكنولوجي في عالم السيارات يفتح المجال للتطوير بلا حدود، فإن الأمر في واقع الحال ليس كذلك؛ فسياقة السيارة مرتبطة بحياة البشر وبالمسؤولية المدنية، وهو ما جعل المشرع في القانون يدخل بشكل مبكر على الخط ملزما مصنعي السيارات بتعديل التكنولوجيا المستعملة حتى توافق القوانين المدنية. ومن ذلك ضرورة تواجد سائق خلف المقود قبل تحرك السيارة. هذا المعطى دفع مصنعي السيارات إلى ابتكار وتطوير مقود ذكي بإمكانه التعرف على لمست يد السائق، والتي في غيابها يتم إيقاف السيارة وتعطيل جميع تطبيقاتها. يندرج هذا الإجراء في إطار تحديد المسؤولية المدنية، إذ في غياب هذه المسؤولية سيجد القانون نفسه في محاكمة سيارة ذكية ارتكبت جنحة، وهي من المفارقات الغريبة التي أصبحت تتيحها التكنولوجية المتطورة. كما أن سيارة “الكل متصل” ستكون جميع وظائفها أوتوماتيكية، كالتعرف على علامات التشوير والإشارة الضوئية للتوقف أو التحرك، واستشعار الخطر الأمامي لاستعمال الفرملة والتوقف في الحين. هذا على سبيل المثال لا الحصر.
2 – أما المثال الثاني فنسوقه من مجال الفلاحة. عالم “الكل متصل” سيجعل مربي الأبقار يربطون قطيعهم بشبكة الأنترنيت عبر شريحة إلكترونية تستعمل الشبكة العنكبوتية. دور هذه الشريحة يتجلى في إرسال جميع المعطيات الخاصة بالبقرة، كحالتها الصحية (دقات القلب وحرارة جسمها مثلا) وكمية أكلها وكذلك كمية الحليب المتوفر في ضرعها، لتتحول البقرة من كائن حيواني إلى جملة من المعطيات يتم تخزينها في جهاز الكمبيوتر ومعالجتها حسب منظومة البيانات الضخمة (Big Data).
ووفق تصريح المدير التنفيذي لشركة هيواوي الصينية “كين خو” فإن الفلاحين الصينيين الذين شرعوا في ربط أبقارهم بشبكة الأنترنيت واستعمال منظومة البيانات الضخمة ساعدهم ذلك في تحقيق ربح إضافي بقيمة 420 دولارا لكل بقرة في السنة. وفي دراسة أنجزها معهد ماكينزي العالمي، فإن استخدام “أنترنيت الأشياء” واستعمال البيانات الضخمة يزيد من إنتاجية الشركات بمعدل 20% سنويا. كل هذه التكنولوجيا تصب في هدف واحد هو الزيادة في الإنتاج الذي يقابله ارتفاع في الرصيد البنكي.
الأكيد أن عالم “الكل متصل” الذي تسعى الشركات العالمية إلى إعلان ولادته في أفق 2020 تعترضه صعوبات تقنية تتمثل في توفير خدمة الأنترنيت في جميع الفضاءات لجعل الكل متصلا؛ وهو الأمر الذي من المفروض أن يتيحه الجيل الخامس. لكن هذا الأخير يحتاج كمية من الذبذبات تفوق بكثير ما هو متاح حاليا، علما أن هذه الذبذبات تستعملها قطاعات أخرى على رأسها الجيش والمعدات العسكرية، بالإضافة إلى مجال الطيران والبث التلفزي والإذاعي وغيره من المجالات. وهو ما سيجعل مستقبلا الذبذبات من الموارد النادرة التي ستتسبب في صراعات ونزاعات بين الدول.
ثورة “الكل متصل” ومفهوم “أنترنيت الأشياء” من المفاهيم المستقبلية التي ستحكم العالم بشساعته، لكن الأخطر في الموضوع هو موقع الدول النامية ودول العالم الثالث التي ستجد الهوة التكنولوجية تتعمق بينها وبين الدول الصناعية. هذه الهوة لن تقاس بالسنوات أو العقود كما هو الحال في وقتنا الحاصر، وإنما ستقاس بدون مبالغة بسنوات ضوئية. هذا المعطى سيعمق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين العالم المتقدم والعالم الثالث، كما سيجعل محاولات التنمية والتطور التكنولوجي الذي تنشده بعض البلدان العالم ثالثية لتقليص الهوة التكنولوجية مع العالم المتقدم تتراجع بشكل كبير إن لم تقم هذه الدول باستثمارات كبرى في تكنولوجيا الغد، التي تتطلب إعادة هيكلة النسيج الاقتصادي والتنموي.
وفي المجال الاقتصادي يكفي أن نشير إلى دراسة نشرها مؤخرا معهد ماكينزي العالمي يشير فيها إلى أن تكنولوجيا “أنترنيت الأشياء” ستضيف ما قيمته 11 تريليون دولار للاقتصاد العالمي كل عام مع حلول 2025. هذه القيمة الاقتصادية التي ستتيحها التكنولوجيا الجديدة، لن تستفيد منها إلا الدول التي استثمرت فيها بكثافة. وإذا علمنا أن دولا متقدمة أضحت تجد صعوبة في مواكبة ما يشهده العالم الصناعي من تطور تكنولوجي، وتجد موقعها بين نادي الدول المتقدمة مهددا بالتراجع كما هو حال فرنسا مثلا، ندرك مدى الخطر الذي يتهدد بلدان العالم الثالث والبلدان المصنفة “في طريق النمو”، ومنها المغرب، وندرك كذلك الهوة التكنولوجية التي ستتسع بشكل غير مسبوق بين العالم الصناعي والعالم الثالث.
ومما يدعم هذه الفرضية هو بلد صناعي كألمانيا التي استشعرت هي الأخرى خطورة الثورة التكنولوجية المقبلة على قطاعها الخاص رغم أنها من المساهمين في هذه الثورة التكنولوجية من خلال شركة سييمينس. لقد شرعت مؤخرا ألمانيا في تفعيل برنامج يقضي بتأهيل قطاعها الخاص، إذ كلفت العديد من مكاتب الدراسات بتأطير الشركات الخاصة وتنبيهها للأمور التي ستتغير في مجال تخصصها بحلول الثورة التكنولوجية القادمة؛ وذلك في أفق تأهيل الشركات الألمانية الخاصة حتى تكون مهيأة لاستقبال التحولات التكنولوجية، وبالتالي الحفاظ على موقعها في الاقتصادي العالمي وتدعيم حصتها في السوق الدولية أمام المنافسين الجدد. لكن هذا لن يمنع بعض الدول التي أدركت مبكرا أهمية التقنيات الحديثة للتواصل واستثمرت فيها كل طاقتها وأموالها من اللحاق بركب الدول الصناعية كالهند والبرازيل وتركيا مثلا، بل وتجاوز هذه الدول الصناعية والتفوق عليها كالصين وكوريا الجنوبية على سبيل المثال. أما الدول النامية فهي مطالبة بالاستثمار بكثافة وبدون تأخير في تكنولوجيا الغد لتفادي تعميق الهوة التكنولوجية مع العالم المتقدم. والدول التي تبحث عن إستراتيجية ذكية تسمح بحرق مراحل اللحاق بنادي الدول المتقدمة، كما فعلت الصين والهند، بإمكانها استغلال فرصة الثورة التكنولوجية لعام 2020 كرافعة لتطوير نسيجها الاقتصادي وفرصة لتقليص الهوة التكنولوجية مع العالم المتقدم، ولما لا اللحاق بالدول المصنعة.