زاجل نيوز_عمان_18 مايو 2022_الكتاب يحتوي على ألوان شتى من إنتاجات جبران خليل جبران مثل القصة القصيرة والمقالات السياسية وكذلك بعض الخواطر الفلسفية، جمعها الأديب والمترجم محمد محمد عبد المجيد.
عاش كلحن عذب بين الموت والوحدة، عانى من الفقر في طفولته بسبب كسل والده الذي منعه من ارتياد المدرسة وبدلاً من ذلك كان كاهن القرية، الأب جرمانوس، يأتي لمنزله ويعلمه الإنجيل والعربية والسريانية. هكذا عاش الشاعر والفنان والكاتب جبران خليل جبران قبل أن يسافر برفقة والدته واخوته إلى أميركا وتحديداً بوسطن.
فتح العالم الغربي ذراعه لجبران وموهبته ورغم ذلك لم ينسى جبران “القرية” أبداً ونجدها مسرحاً للعديد من أعماله.
تنوعت أعمال جبران بين الشعر والرسم والرواية والقصة القصيرة وكذلك كتب المقالة، وفي هذا الكتاب الذي يحمل عنوان “جبران خليل جبران في عالم الرؤيا” الذي جمعه الأديب والمترجم محمد محمد عبد المجيد ومن إصدار “دار وتر” يحتوي على ألوان شتى من إنتاجات جبران مثل القصة القصيرة والمقالات السياسية وكذلك بعض الخواطر الفلسفية فقد امتازت كتابات جبران بسعة الخيال وعمق التفكير وغزارة الانتاج والأسلوب السهل الذي يجمع بين حرارة الوجدان وجمال الصورة وكذلك تأثره بالطبيعة؛ ففي عالم الرؤيا يكتب جبران عن الحرية والحب والتمرد عن طريق الأشباح الثلاثة:
في تلك الدقيقة وقفَ أحد الأشباح الثلاثة، وبصوتٍ خِلتُهُ آتيًا من أعماق البحر قال:
“الحياةُ بغير حب كشجرةٍ بغير أزهار ولا أثمار، والحب بغير الجمال كأزهار بغير عطر، وأثمار بغير بذور. الحياة والحب والجمال، ثلاثة أقانيم في ذاتٍ واحدة مستقلة مُطلَقة، لا تقبل التغيير ولا الانفصال”. قال هذا وجلس في مكانه، ثم انتصب الشبح الثاني، وبصوتٍ يُماثل هدير مياه غزيرة قال:
“الحياة بغير تمرُّد كالفصول بغير ربيع، والتمرُّد بغير حق كالربيع في الصحراء القاحلة الجرداء. الحياة والتمرد والحق، ثلاثة أقانيم في ذاتٍ واحدة لا تقبل الانفصال ولا التغيير”، ثم انتصب الشبح الثالث، وبصوتٍ كقصف الرعد قال:
“الحياة بغير الحرية جسمٍ بغير روح، والحرية بغير الفكر كالروح المشوشة. الحياة والحرية والفكر، ثلاثة أقانيم في ذات واحدة أزلية لا تزول ولا تضمحل”.
ثم وقف الأشباح الثلاثة، وبأصواتٍ هائلة قالوا معًا: “الحب وما يولده، والتمرُّد وما يوجده، والحرية وما تُنمِّيه. ثلاثة مظاهر من الله، والله ضمير العالم العاقل”,
وحدث إذ ذاك سكوت مُفعم بحفيف أجنحة غير منظورة وارتعاش أجسام أثيرية، فأغمضتُ عينيَّ مُصغيًا إلى صدى الأقوال التي سمعتها.
ولمَّا فتحتهما ونظرتُ ثانيةً لم أرَ غير البحر مُتَّشحًا بدثار الضباب، فاقتربتُ من الصخرة حيث كان الأشباح الثلاثة جالسين، فلم أرَ إلا عمودًا من البخور متصاعدًا نحو السماء.
إما في قصته “رجوع الحبيب” فكتب جبران عن شبح الموت الذي يحرم المنتصرين لذة الأنتصار؛ عن ثمن الانتصار الذي تُزهق لأجله الأرواح البريئة “بين أضلع ذلك الوادي حيث أشعة القمر تسترق خطواتها، سار موكب النصر وراء موكب الموت، وقد مشى أمامهما طيف الحب جاراً أجنحته المكسورة”.
إما في خاطرته “أنا غريب في هذا العالم” فقد كتب صاحب يسوع إبن الإنسان عن شعوره الدائم بالغربة منذ طفولته وحتى شبابه “انا غريب وقد جبت مشارف الأرض ومغاربها، فلم أجد مسقط رأسي ولا لقيت من يعرفني ولامن يسمع بي.
استيقظ في الصباح فأجدني مسجوناً في كهف مظلم، تتدلى الأفاعي من سقفه وتدب الحشرات في جنباته، ثم أخرج إلى النور فيتبعني خيال جسدي، أما خيالات نفسي فتسير أمامي إلى حيث لا أدري، باحثة عن أمور لا أفهمها، قابضة على أشياء لاحاجة لي بها، وعندما يجيء المساء أعود واضطجع على فراشي المصنوع من ريش النعام وشوك القتاد، فتراودني أفكار غريبة، وتتناولني أميال مزعجة مفرحة موجعة لذيذة. ولما ينتصف الليل تدخل علي من شقوق الكهف أشباح الأزمنة الغابرة وأرواح الأمم المنسية، فأحدق بها وتحدق بي، وأخاطبها مستفهماً فتجيبني مبتسمة، ثم أحاول القبض عليها فتتوارى مضمحلة كالدخان.
أنا غريب وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسي”.
وفي قصة يوحنا المجنون الذي رفص أستغلال الكهنة واتهموه بالجنون كتب جبران عن النظم البالية في المجتمع الشرقي
“في الشرق اليوم فكرتان متصارعتان: فكرة قديمة وفكرة جديدة. أما الفكرة القديمة فستغلب على أمرها لأنها منهوكة القوى محلولة العزم
وفي الشرق يقظة تراود النوم، واليقظة قاهرة لأن الشمس قائدها، والفجر جيشها.
وفي حقول الشرق، ولقد كان الشرق بالأمس مباني واسعة الأرجاء. يقف اليوم فتى الربيع منادياً سكان الأجداث ليهبوا ويسيروا مع الأيام. وإذا ما انشد الربيع أغنيته بعث مصروع الشتاء وخلع أكفانه ومشي.
وفي فضاء الشرق اهتزازات حية تنمو وتتمدد وتتوسع وتتناول النفوس المنتبهة الحساسة فتضمها إليها، وتحيط بالقلوب الأبية الشاعرة لتكتسبها.
وللشرق اليوم سيدان: سيد يأمر وينهي ويطاع ولكنه شيخ يحتضر.
وسيد ساكت بسكوت النواميس والأنظمة، هادئ بهدوء الحق، ولكنه جبار مفتول الساعدين، يعرف عزمه، ويثق بكيانه، ويؤمن بصلاحيته.
في الشرق اليوم رجلان، رجل الأمس، ورجل الغد، فأي منهما أنت أيها الشرقي؟”.
وفي قصة بنات الحرب صور لنا جبران ألآم الحب والحرب عن طريق رسالة حب وجدنها بنات البحر في جيوب ثوب يعود لأحد القتلى رسالة من حبيبة أظناها الشوق لحبيبها الغائب إلى الأبد.
“لما وحد الحب قلبينا وصرنا نتوقع ضم جسمين تجول فيهما روح واحدة نادتك الحرب، فأتبعتها مدفوعاً بعوامل الواجب والوطنية. ما هذا الواجب الذي يفرق بين المحبين ويرمل النساء وييتم الأطفال؟ ما هذه الوطنية التي من أجل أسباب صغيرة تدعو الحرب لتخريب البلاد؟ ما هذا الواجب المحتوم على القروي المسكين، والذي لايحفل به القوي وابن الشرف الموروث؟ إذا كان الواجب ينفي السلم من بين الأمم والوطنية تزعج سكينة حياة الإنسان فسلامٌ على الواجب والوطنية. لالا ياحبيبي لاتحفل بكلامي كن شجاعاً ومحباً لوطنك، ولاتسمع كلام ابنة أعماها الحب واضاع بصيرتها الفراق. إذا كان الحب لايرجعك إلي في هذه الحياة، فالحب يضمني إليك في الحياة الآتية”.
كذلك عن الأحلام التي رافقته منذ الطفولة صور لنا جبران لذة الحلم في خاطرته بين ليل وصباح “في اليقظة رأيت الحزن والأسى، فأين ذهبت أفراح الحلم ومسراته ؟ أين توارت بهجة المنام ؟ وكيف اضمحلت رسومه ؟ وكيف تتجلد النفس حتى يعيد النوم أشباح أمانيها وآمالها ؟”.
وفي قصة الشاعر البعلبكي كتب برمزية رائعة عن مايشبه ظاهرة تناسخ الأرواح: “كل ماتشتاقه الأرواح تبلغه الأرواح، فالناموس الذي يعيد بهجة الربيع بعد انقضاء الشتاء سيعيدك اميراً عظيماً ويعيده شاعراً كبيراً”.
وفي قصة “الشيطان” وصف صاحب آلهة الأرض العلاقة بين الشيطان والكُهان: “وأية وظيفة يسندها القوم لك إذا ألغيت وظيفة محاربة الشيطان بموت الشيطان ؟ إلا تعلم وأنت اللاهوتي المدقق – أن وجود الشيطان قد أوجد أعداءه الكهان ؟ وأن تلك العداوة القديمة هي اليد الخفية التي تنقل الفضة والذهب من جيوب المؤمنين إلى جيوب الوعاظ والمرشدين ؟”.
وكذلك يحتوي الكتاب على عدد من المقالات السياسية لصاحب الأرواح المتمردة مثل مقاله عن الأمم وذواتها الذي كتب فيه: “إن الذات اليونانية قد استيقظت في القرن العاشر قبل المسيح، ومشت بعزم وجلال في القرن الخامس قبل الميلاد، ولما بلغت عهد الناصري كانت قد ملت أحلام اليقظة فنامت على مضجع الأبدية، لتعانق احلام الأبدية.
أما الذات العربية فقد تجوهرت وشعرت بكيانها الشخصي في القرن الثالث قبل الإسلام، ولم تتمخض بالنبي محمد حتى انتصبت كالجبار، وثارت كالعاصفة، متغلبة على كل من يقف في سبيلها. ولما بلغت العباسيين تربعت على عرش منتصب فوق قواعد لا عداد لها، أولها في الهند، وآخر في الأندلس. ولما بلغت عصارى نهارها، وكانت الذات المغولية قد أخذت تنمو وتمتد من الشرق إلى الغرب، كرهت الذات العربية يقظتها ؛ فنامت ولكن نوماً خفيفاً متقطعاً. وقد تعود وتفيق ثانية لتبين ما بقي خفياً في نفسها كما عادت الذات الرومانية في زمن النهضة الإيطالية المعروفة بالرنسانس، وأكملت في البندقية وفلورنسا وميلان ما ابتدأت به، قبل أن تباغتها الشعوب التوتونية في بدء الأجيال المظلمة”.
وفي مقاله عن الجبابرة التي كتبها عن الحروب وخسائرها والتغيير الذي طرأ على العالم في الربع الأول من القرن العشرين:
“ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب.
لا ليس السكوت الذي يُحدثه الملل، كالسكوت الذي يوجده الألم.
أما أنا فقد سكت لأن آذان العالم قد انصرفتْ عن همس الضعفاء وأنينهم، إلى عويل الهاوية وضجَّتها، ومن الحكمة أن يسكت الضعيف عندما تتكلم القوى الكامنة في ضمير الوجود؛ تلك القوى التي لا ترضى بغير المدافع ألسنة، ولا تقنع بسوى القنابل ألفاظًا.
نحن الآن في زمنٍ أصغر صغائره أكبر من كبائر ما تقدمه؛ فالأمور التي كانت تشغل أفكارنا وأميالنا وعواطفنا قد انزوتْ في الظل. والمسائل والمشاكل التي كانت تتلاعب بآرائنا ومبادئنا قد توارتْ وراء نقابٍ من الإهمال. أما الأحلام المستحبة، والأشباح الجميلة التي كانت تَمِيسُ متنقلةً على مسارح وجداننا، فقد تبددتْ كالضباب، وحلَّ محلها جبابرة تسير كالعواصف، وتتمايل كالبحار، وتتنفس كالبراكين.
وما عسى أن يصيرَ إليه العالم بعد أن تنتهي الجبابرة من صراعها؟
هل يعود القروي إلى حقله فيلقي البذور حيث زرع الموت جماجم القتلى؟
هل يقود الراعي مواشيه إلى مروجٍ مزَّقت أديمها السيوف؟ ويوردها مناهل يمتزج ماؤها بنجيع الدماء؟
هل يركع العابد في هيكلٍ رقصت فيه الشياطين؟ ويردد الشاعر قصائده أمام كواكب حُجِبَتْ بالدخان؟ وينغم المنشد أغانيه في ليلٍ عانقت سكينته الأهوال؟
هل تجلس الأم بجانب سرير رضيعها مُرتلةً بالهدوء أغاني النوم، وهي لا ترتجف وَجَلًا مما سيجلبه الغد؟
هل يلتقي الحبيب بحبيبته ويتبادلان القُبل حيث التقى العدو بعدوه وتبادلا القذائف؟
وهل يعود نيسان إلى الأرض، ويستر بقميصه أعضاءها المكلومة؟
ليت شعري! هل يعود نيسان إلى الحقول؟
وماذا عسى تصير إليه بلادكم وبلادي! وأيٌّ من الجبابرة يضع يده في تلك التلال والهضبات التي أنبتتنا وسيَّرتنا رجالًا ونساءً أمام وجه الشمس!
هل تبقى سوريا مطروحةً بين مغائر الذئاب وحظائر الخنازير؟ أو يا تُرى تنتقل مع العاصفة إلى عرين الأسد أو ذروات النسر؟
وهل يطلع الفجر فوق قمم لبنان؟
كلما خلوتُ بنفسي أطرحُ عليها هذه السؤالات. غير أن النفس كالقضاء، تُبصر ولا تتكلم، وتسير ولكنها لا تلتفتْ؛ فهي ذات عيون تتجلَّى وأقدام تتسارع، أما لسانها فثقيل.
ومن منكم أيها الناس لم يسأل نفسَه في كل يومٍ وليلة عن مصير الأرض وسكانها، بعد أن تختمر الجبابرة من دموع الأرامل والأيتام؟”.
تميزت كتابات جبران بتنوعها مابين القوة والثورة على العقائد التي تقوم بإسم الدين ومابين ميوله للحب والأستمتاع بالحياة النقية.
توفي جبران خليل جبران في نيويورك في 10 أبريل/نيسان 1931 وهو في الـ 48 من عمره، بسبب المرض الذي عانى آخر سنوات حياته وهو السل وتليف الكبد.
أمنية جبران خليل جبران في أن يدفن بلبنان تحققت في العام 1932 أي بعد عام من وفاته، حيث دُفن في صومعته القديمة التي عرفت لاحقاً باسم متحف جبران، كما أوصى جبران بأن تكتب هذه الجملة على قبره بعد وفاته: ”أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فأغمض عينيك والتفت، تراني أمامك”.