مناسباتٌ عديدة تؤكِّد المؤكَّد: الشيخ إمام حاضرٌ بكلّيته الفنية في وجدانٍ عام، مفتوحٍ على ذوقٍ شبابيّ يتماهى به، ويعثر على بعضٍ منه في مفرداته المصقولة في ألحانٍ تضع اللغة البسيطة في مصافٍ تأمّليٍّ. «الشربة العجيبة»، عنوان إحدى أغنياته، تُصبح مدخلاً إلى سهرةٍ معه عبر صوت ساندي شمعون. تُصبح إضافةً نوعية على المؤكَّد، إذ تستعيد منه مفاصل من حيلته الغنائية في مواجهة طغيان، أو في سرد قصّة، أو في معاينة حالة.
سهرةٌ تقول، ببساطة شديدة، إن نصّاً غنائياً (كلمات وألحاناً وصوتاً وأداءً) منذ سنين، قادرٌ على أن يمتلك انفعالاً أو وعياً في نحو 90 دقيقة، لن تكون كافية لإشباع رغبةٍ في متعةِ عين وقلب وروح، بقدر ما تجعل المسافة الزمنية القصيرة هذه نوعاً من اطمئنانٍ إلى براعة اللغة في كسر الزمن، وفي تطويعه لمصلحةٍ تنبع من شوقٍ إلى سماعٍ يتحرّر من بلادة الارتهان إلى فراغِ الراهن. وهذا، إذْ يُضاف إليه صوتٌ شبابيّ يُمسِك مفاتيح العالم الغنائيّ للشيخ إمام، يُصبح شكلاً من أشكال التواصل مع بساطة المفردات في رسم مُصابٍ يتكرّر، وفي تفادي الاستسلام إلى هوله، وفي مواجهةٍ ساخرةٍ وبديعةٍ لـ «حتميةِ» حصولِه الدائم.
لن تخرج أمسية «الشربة العجيبة» من حيويتها الخفرة في استعادة اشتغالات فنانٍ، يحمل ـ في نبرته المتناغمة ونُطقٍ يعلو فوق المُصاب هذا كي يُعرّيه بسخرية أو تفكيك أو بوحٍ ـ أزمنة متداخلة، يبقى هو الأقدر على اختزال منعطفاتها ومنابعها ومساراتها، في نصّه «الطازج»، كما في البساطة المذهلة والجميلة للنصّ هذا. فالنغم، كما الكلمة، يترادفان معاً في صُنع جمالٍ يتوق إلى استكمال خطابه الفني، فيجد في أصواتٍ شبابية ملاذاً ومتابعةً. وهذا حاصلٌ في «الشربة العجيبة» مع ساندي شمعون وفرقتها الموسيقية، إذ يتحوّل مشهد الأمسية إلى فصلٍ من سيرة الراهن في ارتباطه الوثيق بالشيخ إمام، خصوصاً أن شمعون تُقدِّم أمسية سابقة على هذه (11 حزيران 2014)، تتّخذ من «أفراح وأحزان القرد» متّكَأً لامتدادِ الصوت إلى رحاب الأصل، ولجعل الصوت نفسه انعكاساً لقوّة جمالٍ واقعيّ في أغنية الشيخ إمام ولحنه ونبرته.
تضع ساندي شمعون نفسها في ما هو حيويّ، تستلّ جمالياته من نتاجٍ غزيرٍ لثنائيّ (الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم) لا يزال (النتاج والثنائيّ معاً) «شاغل الناس». والناس، إذ يأتون إلى الصالة لسماعٍ لن يخلو من متعة، ينشغلون بالأصل لأن الصوت الآنيّ مُرافقٌ بديع لرحلة استعادة بعض الأصل وبهائه. ذلك أن لصوت ساندي شمعون نبرة إن تبدو مألوفة، فلأن التناغم بينها وبين الأصل مُشبع بأصالة المغنى وأصوله. هذا دليلٌ على أن «الشربة العجيبة» لن تبقى استعادة عابرة لنتاجٍ شعبيّ فقط، بل لحظة متعة يمنحها صوتٌ شبابيّ يرتفع بالأذن إلى نوعٍ من صفاء، ويأخذ معنى النصّ إلى راهنٍ يبدو ولادةً أخرى لمُصاب يتكرّر. والنصّ المختار للأمسية، بأغنياته الـ 15، فصلٌ من أعمال فنان تجد في صوت شابّة إتقان اللغة في بوحٍ يضع السخرية في مرتبة الكشف، ويجعل الضحكة ردّاً على قسوة العيش.
في «الشربة العجيبة» لحظةٌ أو أكثر، تتيح للمستمع شيئاً من نباهة الارتقاء إلى أجمل بساطة وسخرية.
(]) أمسية ثانية لـ «الشربة العجيبة» 9.30 مساء اليوم الثلاثاء، 23 شباط 2016، في «مترو المدينة» (بناية سارولا)، بعد أولى مُقامة في المكان نفسه مساء الثلاثاء، 16 شباط 2016. غناء: ساندي شمعون. الفرقة الموسيقية مؤلّفة من عماد حشيشو (عود) وأحمد خطيب (إيقاع) وعلي حوت (إيقـــاع) وسمــــاح أبو المنى (أكورديون). إنتاج: «مترو المدينة».
الأغنــيات الـ 15 المختارة للأمسية: جارتنا، نويت أصلّي، ميكي، علّي بحبو، بوتيكات، أحزان القرد، غابة، حلاولا، الأخلاق، يا خواجة يا ويكا، لو علقولي المشنقة، أوقة المجنونة، الشربة العجيبة، العيسوي بيه، القواد الفصيح.