تسجيل الدخول

لا إسلام بدون أخلاق…البُعد الأخلاقي في عاشوراء

دين ودنيا
زاجل نيوز29 أغسطس 2020آخر تحديث : منذ 4 سنوات
لا إسلام بدون أخلاق…البُعد الأخلاقي في عاشوراء

إنَّ أيّ حدث تاريخيّ، مهما كان عظيماً، ينتهي بغياب أصحابه عن مسرح الحياة، ويصبح حديث تاريخ، ويدوّن في كتبه، لكن هناك من المحطات والأحداث في التاريخ ما لا يخبو ضوؤها ولا تشيخ أبداً مع الزمن، بل على العكس، هي في تجدّد مستمرّ..

وإنَّ أبرز هذه الأحداث التاريخية هي ثورة كربلاء، فتلك الثورة، رغم بُعدها الزمنيّ، لم تخمد نارها، بل نراها تتّقد أكثر كلَّما استعيدت سيرة الإمام الحسين وكلَّما حطَّت المناسبة برحالها كذكرى وعبرة بين يدي مريديها وعاشقيها.

قد نبالغ خلال إحياء الذكرى في تأكيد الجانب التاريخي وسرد الأحداث، وهذا لا يعني أننا ضد الحزن والعاطفة، فهذا ضروري أن يحصل لكن الأهم، وهو الهدف الأساس، في إحياء هذه الذكرى وإحياء أمر أهل البيت، هو أن نشدّهم إلى عصرنا، أن نؤكد أنهم ليسوا تاريخاً، بل حاضراً ومستقبلاً، وأن نحاكم الوقائع؛ وقائع العصر، وفق معايير كربلاء، ومن منظار رؤيتهم لقضايا الحق والعدل والظلم، والإيثار والعطاء.

إنَّ كربلاء ونهضة الحسين عطاءات مباركة في كلِّ عصر تعطي وتثمر عند تحوّلها إلى طاقة دفع وشحذ همم… إنَّ كلاً منا، ومن موقعه، مدعو، ونحن جميعاً مدعوون إلى إعادة إنتاج عاشوراء، وفي هذه الثورة الكثير الكثير مما علينا إعادة إنتاجه للاستفادة والعبرة.. بأن نأخذ عاشوراء كلاً متكاملاً.. إننا غالباً ما نأخذ من عاشوراء التضحية والفداء والاستشهاد.. وهذا ضروري لاستنهاض الهمم وتعزيز روح التضحية، لكن من دون أن نأخذ منها أبعادها الأخرى، ونحن بذلك لا نعي عاشوراء، ولا نعطيها حقها..

ونحن اليوم، وفي إطار موسم عاشوراء، سنتوقف عند بُعد مهم من أبعادها وعند واحدة من القيم التي عاشها الحسين وأصحابه، وهي قيمة الأخلاق.. فقيمة الأخلاق هي من أكثر القيم التي نحتاج إلى إعادة إنتاجها دوراً ومواصفات، لأنَّ هذه القيمة هي عمق الإسلام، فلا إسلام بدون أخلاق.. وهذا ما عبَّر عنه رسول الله # عندما اعتبر الدين هو حسن الخلق، وعندما قال: «إِنّما بُعثتُ لأُتمَمَ مكارمَ الأخلاق».. وفي الحديث: «عنوان صحيفة المؤمن حُسن خُلُقه»، «إنّ العَبدَ لَيَبلُغُ بحُسنِ خُلقِهِ عَظيمَ دَرَجاتِ الآخِرَةِ وشَرَفَ المَنازِل، وإنَّهُ لَضَعيفُ العِبادَةِ»..

إعادة الاعتبار للقيمة الأخلاقية

وكم نحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار للقيمة الأخلاقية، لتكون هي الطابع الذي يحكم واقعنا، بحيث تبدو حاضرة في الخطاب، وفي سمات الشخصية، وعلى أرض الواقع.. فنحن لا يمكن أن نفصل بين الدين والقيم الأخلاقية، فهي من عمق الدين، ولذلك، نؤكّد أنَّ الذين ينتهجون الإسلام لا يمكن أن يتعاملوا مع الآخرين، ولا سيَّما الذين يختلفون معهم بالتعامل السياسي التقليدي، عندما تكون أساليبهم كأساليب الآخرين.. نعم، لا بدَّ من أن يظهروا أقوياء لكن بروحية الرحمة والمحبة التي طبعت شخصية رسول الله # {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}..

وليس أفضل من الاستهداء بعلاقة الثورة الحسينية بالأخلاق لصياغة المنهج الإسلامي في علاقة السياسة بالأخلاق في ضوء الأهداف الرسالية، ومن خلال ذلك نحاكم الواقع..

وهنا، وفي محاولة لاستعادة موقع مفردة الأخلاق في ثورة الحسين، ماذا نرى؟ هل كان للتفكير بالأخلاق موقع وسط الدماء كما يُنَظِّرُ البعض؟

– أوَّل مظهر أخلاقيّ نستعيده هو التزام الحسين بالعهد، أي الصلح الذي كان بين أخيه الإمام الحسن ومعاوية. يومها، وبعد استشهاد الإمام الحسن، اتجهت الجماهير إلى الحسين تطالبه بخلع معاوية، واستلامه الحكم.. ولكن الحسين ردّ بالرفض، والسبب أن بين الإمام الحسن ومعاوية عهداً، وهو عهد الصلح، وسيظلّ قائماً ما دام معاوية حياً. فلماذا إذاً لم يخرج الحسين على معاوية؟

ببساطة، لأنه كان لا يفصل بين الأخلاق والسياسة، كان يرى الوفاء بالعهد مسؤولية، {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} لا يتجزأ..

– الأمر الثاني هو أن الإمام الحسين عندما انطلق لمواجهة الحاكم، وبالرغم من موقعه كإمام وحفيد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه لم يستخدم كل هذا الرصيد الديني الذي يملكه في نفوس الناس لإسقاطه، إنما حدد مشكلته بوضوح عندما قال ان صفات يزيد وعلاقاته لا تؤهله لقيادة أمر المسلمين… الحسين لم يصف يزيد بأنه رجل كافر، وعندما أعلن حُكمه (مثلي لا يبايع مثله)، كان حكماً سياسياً له بُعد أخلاقي، والصفات التي أوردها عن يزيد، لا تؤهله لأن يكون حاكماً في أي بلد، فكيف إذا كان هذا البلد إسلامياً؟

– والأخلاق في ثورة الحسين تجلَّت في شفافية دعوته ووضوحه وعدم مواربتها، فالحسين منذ خروجه من المدينة، حدَّد في وصيته أهداف نهضته: طلب الاصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قمة الأخلاق الثورية والسياسية والإنسانية

والحسين لم يُخفِ وراء الستار أهدافاً أخرى لنهضته ليعلنها فيما بعد أو يعمل على تحقيقها في السر، كان صادقاً وواضحاً مع المسلمين، ومع الذين يخرج عليهم.

فعلى امتداد رحلته من المدينة إلى كربلاء، كان ركبه يزداد عدداً ويتناقص، بحسب خيارات الملتحقين به وأهدافهم، ولكن الحسين لم يخادع ولم يناور لكسب المزيد من الأنصار بالإكثار من الوعود الوردية بالمناصب والمكاسب، بل نراه بعد استشهاد سفيره في الكوفة، يقول لأصحابه: «فمن أحب منكم الانصراف، فلينصرف ليس عليه منا ذمام»..

وهذا ما فعله ليلة العاشر من محرم حين خاطب أصحابه: «وإني أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإني قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ… فإن القوم إنما يطلبوني ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري».. ثم إنَّ الحسين الثائر لم يقف خلف هذه القاعدة.. لم يدفعها أمامه وهو في الخلف أبداً… أخلاق الحسين لم تسمح له إلا أن يكون واضحاً مع الذين معه.. (إن المعركة معي اذهبوا واتركوني ولم يقل تقدموا وقاتلوا من أجلي ومن أجل مشروعي).. وهذه قمة الأخلاق الثورية والأخلاق السياسية والإنسانية على السواء.. الحساسية تجاه حياة ودماء الذين وقفوا معك وآمنوا بمشروعك..

– على المستوى الإنساني، عندما وصل الحر الرياحي من جيش ابن زياد لقطع الطريق على الحسين، وكان الوقت ظهراً، وكان الحر شديداً، وكان جيش الحر عطشاً مجهداً، وخيوله تلهث من العطش… ورغم أنّ الحرّ أمر جيشه بإحكام الطوق حول موكب الحسين، فإنَّ الإمام أمر أصحابه بسقي الخيل والرجال ممن هم قادمون ليحاربوه.. قائلاً لهم أوسعوا لهم.. فالتعطيش والتجويع والتعذيب ليس لها في قاموس الحسين مكان، ومهما كانت الأسباب، لأن إنسانيتك في هذه الحال تكون على المحك..

هذه هي بعض أخلاق ثورة الحسين، هي الصّفاء والطّهر التي ميّزتها وأعطتها هذا البُعد الإنساني.. ففي هذه الثورة، لم يكن هناك فصل بين الأخلاق والسّياسة، فالفصل بين الأخلاق والسياسة لا مكان له في حياة الحسين وقراراته، وهذا ما ميَّز ثورة الحسين، وهو أنها لم تكن حركة مطلبية أو إصلاحية أو ثورية فاقدة للقيم وللروح، هي هذا الكلّ المتكامل، فلا يمكن أن نأخذ عاشوراء تضحية وشهادة من دون العلاقة بالله أو الصّلاة التي حصلت في العاشر أو الأخلاق أو القيم التي حكمت أصحاب الحسين.

ونحن نعاني في الواقع الذي نعيش فيه من هذا الفصل بين الأخلاق والسياسة، وبين الأخلاق وتفاصيل الحياة ووقائعها.. إن الشواهد تؤكد أن العلم من دون أخلاق يصبح خطراً ومدمراً.. والرياضة من دون أخلاق تصبح المنافسة فيها غير شريفة وهدّامة، والتجارة من دون أخلاق تصبح جشعاً واحتكاراً، وحتى الطبّ من دون أخلاق يصبح استغلالاً وقتلاً.. والأخطر حين تصبح السياسة من دون أخلاق، لأنَّ النتائج سوف تكون مدمّرة للمجتمع.. إن فكرة الوصول إلى الأهداف، مهما كانت الأثمان، أمر يجب رفضه، فالأساليب، كما الهدف، يجب أن يكونا على مستوى عالٍ من الوضوح والشّفافية.

في هذه الذكرى؛ ذكرى عاشوراء، فلتكن الدَّعوة إلى نبذ الفساد باسم الحسين، ونبذ انتهاك المحرمات والحرمات والكرامات الإنسانية باسم الحسين، ورفض الغشّ والازدواجيَّة والصفقات والمحصاصات. هذه المفردات كلها يجب أن تختفي أمام طهر عاشوراء وطهر الحسين.

وبذلك، لا تعود عاشوراء تخصّ الَّذين ينطلقون إلى ساحات القتال فقط، بل إلى السّاحات لتغيّرها.. إننا نحتاج إلى القيم والأخلاق لضمان شرعية التغيير وسلامته، ولتحصين قوى التغيير من الانحراف، وحتى لا تسم المصالح والشهوات والأطماع طابع الحياة، ولا يحصر الدين فقط في الطقوس والعبادات.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.