أظهرت معطيات أولية للمحاكم الشرعية في البلاد، حول قضايا الأحوال الشخصية وملفات الزواج والطلاق، ارتفاعا مستمرا في حالات الطلاق في المجتمع العربي، إذ دلت المؤشرات على أن 40% من حالات الزواج وعقد القران تنتهي بالطلاق.
وتتشابه أسباب وظروف ودوافع الطلاق في مختلف المناطق والبلدات، والتي يلخصها مختصون وباحثون بالشريعة والأحوال الشخصية والإصلاح والوساطة؛ بالتأثر من البيئة المجتمعية والعالم الافتراضي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وعدم الوعي والإدراك لثقافة الحياة الزوجية، والفهم الخاطئ للحقوق والواجبات، وتراجُع دور الأسرة في البناء المجتمعي، والمفهوم الخاطئ للحريات والجهل بأحكام الشرع والدين.
ارتفاع نسب الطلاق: ناقوس خطر يُنذر العائلات العربية بالتفكك
ويُجمع الباحثون والمختصون، أن آفة الطلاق التي باتت تُهدد النسيج المجتمعي، هي نتاج سلوكيات ومفاهيم ومعتقدات ومتغيرات اجتماعية سلبية، ونتيجة للانكشاف على الحضارة الغربية، كما يرى المختصّون أن جميع الهيئات والمؤسسات والجمعيات التربوية والتعليمية والدينية في المجتمع العربي، يتحملن مسؤولية تداعيات واتّساع انتشار حالات الطلاق، إذ تشير المعطيات كذلك إلى أنه من بين 10 حالات زواج تُسَجّل رسميا في المحاكم الشرعية، تُسَجَّل 4 حالات طلاق. ويبلغ إجمالي معدل عدد المطلقين والمطلقات أكثر من 7 آلاف سنويا.
ويقدّر المسؤولون أن حالات ونسب الطلاق أعلى من ذلك بكثير، خاصة وأن الكثير من الملفات لم تُسجَّل ولم تصل للمحاكم الشرعية، إذ لا تشمل معطيات الزواج والطلاق ، حالات الطلاق التي تأتي ضمن الزواج بعقود مدنية أو الخطوبة دون عقد قران، مؤكدين الانتشار الواسع لظاهرة الخطوبة دون عقد رسمي وشرعي، إذ أن نسبة عالية من هذه الحالات تنتهي بالانفصال، إذ تجرى مراسيم الخطوبة دون عقد شرعي، بغرض ألا يتم التسجيل في البطاقة الشخصية للشاب أو الفتاة في بند الحالة الاجتماعية “مطلق/ ة”.
أزمة مجتمعية
أقر مدير المحاكم الشرعية، القاضي د. إياد زحالقة، بارتفاع نسب الطلاق في المجتمع العربي مؤكدا أنه من بين كل 10 عقود زواج رسمية تسجل في المحاكم الشرعية هناك 4 ملفات لحالات طلاق، لافتا إلى أن المجتمع العربي يقف أمام أزمة مجتمعية حقيقية تنذر بتفكيك النسيج الاجتماعي والأسري.
مدير المحاكم الشرعية، إياد زحالقة: الطلاق أزمة مجتمعية تنذر بتفكيك النسيج الاجتماعي والأسري
ارتفاع حالات الطلاق إلى انتقال المجتمع العربي من مجتمع تقليدي إلى “مجتمع حضاري سريع” تأثر بالحضارة الغربية بشكل سريع، دون أن يذوّت المجتمع هذه التغيرات والمتغيرات والمستحدثات السريعة، ودون أن يتعامل معها بشكل عقلاني، الأمر الذي أحدث انقلابا في مختلف المفاهيم المجتمعية ومنها الأحوال الشخصية.
ولفت مدير المحاكم الشرعية، إلى أن المحاكم تشغل وتستعين أيضا بمختصّين في الإصلاح والوساطة والتحكيم، بُغية احتواء ظاهرة الطلاق وفض النزاعات الأسرية دون الوصول لمرحلة الطلاق، بيد أن ذلك لم يمنع لجْمَ الظاهرة أو الحد منها، وذلك بسبب تعنُّت الزوجين والتمسك بالمواقف والتأثيرات من البيئة والمحيط، لا سيّما التأثُّر بأهل الزوجين، ناهيك عن المتغيرات السريعة التي تعصف في المجتمع العربي، الذي يواجه حالة من الإرباك والخلخلة وضعف البنية الاجتماعية والمجتمعية، وتراجع دور القيادات المجتمعية والجماهيرية في رأب الصدع الأسري.
ظاهرة الطلاق
أن “العائلة العربية تعاني اضطرابات وخللا في مكوناتها البنيوية في العلاقات والتواصل داخلها، وتُعاني من غياب تقاسم الأدوار بين الأب والأم وحتى الأولاد، وعدم استعداد أي طرف للتحمل والمعاناة والصبر وتقديم التنازلات من أجل الحفاظ على استمرارية العائلة، إذ يُلاحَظ اتساع ظاهرة الطلاق حتى لدى العائلات التي تضم أولادا، ولا يقتصر الطلاق على الخطوبة بعقد قران أو في سنوات الزواج الأولى”.
وأضاف: “لقد بات السائد في العلاقات الأسرية تفضيل الفردانية والمصلحة الشخصية على المصلحة الأسرية العامة، كما يلاحَظ تعزيز الأنانية لدى الفرد، سواء الزوج أو الزوجة، وتفضيل تحقيق الذاتية والمصلحة الخاصة حتى لو كان ذلك على حساب مصلحة الأسرة عامة والأولاد، ويُلاحظ عدم التفاني أو الاستعداد للتضحية في سبيل الاستقرار وتجاوز الخلافات من أجل الحفاظ على إطار العائلة”.
رأب الصدع
لا تقتصر حالات الطلاق على حدود الخطوبة وعقد القران، وفق ما أوضح المختص في الوساطة والإصلاح والتحكيم من قبل المحكمة الشرعية، الشيخ خيري إسكندر، الذي أكد أيضا أن “الخطير هو اتساع حالات الطلاق بين العائلات التي لديها أولاد، إذ باتت هذه نسبة مرتفعة في الأعوام الأخيرة، علما أن غالبية حالات الطلاق تسجل في السنوات الأولى للزواج”.
الشيخ خيري إسكندر: ازدياد حالات الطلاق في العائلات التي لديها الأولاد
أسباب الطلاق التي يتحمل مسؤوليتها الزوج والزوجة، عدا عن المؤثرات المحيطة والخارجية، مبينا أن السبب الرئيسي هو الجهل بالحقوق والواجبات للزوج أو الزوجة، وعدم المعرفة والجهل بالمتطلبات والتغييرات النفسية والاجتماعية لدى الإنسان وعدم تقبل الآخر، لافتا إلى أن استعمال أساليب الإصلاح والوساطة ومحاولة رأب الصدع لم تثمر في غالبية الخلافات الزوجية، وبقي الطلاق سيد الموقف.
كما أشار إلى أن الاختلافات وعدم الاستعداد لتقديم التنازلات والأنانية، سواء من الزوج أو الزوجة تُساهم في حالات الطلاق، فأحيانا يكون الزوج متعلما وأكاديميا وناجحا في عمله، لكنه غير متفهم ويهمل ويهمش الحياة الزوجية، ويقضي وقته في العمل دون رعاية الزوجة والأولاد، وبالمقابل قد نجد زوجة متعلمة وعاملة وراتبها يفوق دخل زوجها، وبالتالي تنظر إليه بفوقية وأنه يمكنها الاعتماد على ذاتها في توفير احتياجاتها المالية والاقتصادية.
تأهيل الأزواج
وللحد من ظاهرة الطلاق في المجتمع العربي، يقترح إسكندر اعتماد النموذج الماليزي في مكافحة ظاهرة الطلاق، وهو نموذج ساهم في تراجع الطلاق بنسبة 10% ، ودعا إلى تخصيص دورة للمقبلين على الزواج تُعنى بالثقافة الزوجية، والحقوق والواجبات، والتأهيل الأسري وتعاليم الشرع في الأحوال الشخصية، وسُبُل الحياة الزوجية والمجتمعية، وآليات الاتصال والتواصل بين الزوجين، وكيفية مواجهة التحديات والصعوبات والمشاكل الأسرية، وبذلك يعرف المقبل على الزواج ما ينتظره في السراء والضراء.
وتتفق الناشطة الاجتماعية، سناء أبو عصبة- وتد، الحاصلة على دبلوم في الشريعة، مع طرح الشيخ إسكندر في استعراض أسباب ظاهرة الطلاق وسُبُل الحد منها، وتشدد على ضرورة إجراء دورات تأهيل خاصة للمقبلين على الزواج في المجتمع العربي، وذلك بغرض وقف التدهور الحاصل في كل ما يتعلق في الأحوال الشخصية ووقف التفكك المجتمعي.
استقلال اقتصادي
وبينت سناء أبو عصبة- وتد، وجود أسباب تتعلق بتصرفات الزوج أو الزوجة وتأثيرات شبكات التواصل الاجتماعي، على مختلف أنواعها، والهرب لقضاء الوقت في العالم الافتراضي دون مواجهة أب طرف للآخر، ما يؤدي إلى إهمال حياة الأسرة والمنزل وعدم تحمل المسؤولية، الأمر الذي يقود إلى حالة من العناد وسرعة الغضب وتدخل الأهل في حياة الزوجين وأمور المنزل.
سناء أبو عصبة وتد: المجتمع العربي يعيش الكثير من التناقضات وحالة انفصال وانفصام
وترى أن مختلف الأسباب متداخلة وتكمل بعضها البعض، لكنها أكدت بأن المفهوم الخاطئ للتعاليم الدينية والشرعية والحريات، سواء للشاب أو الشابة، والتهرب من تحمل المسؤولية تبقي الحسم في اتخاذ القرار للانفصال والطلاق، كما أن تدخل الأهل في الحياة الزوجية غالبا ما يؤدي إلى تعقيد المشكلة بين الزوجين.
وتعتقد أن الاستقلال الاقتصادي الذي تعيشه المرأة منحها الحصانة، حيث ما عاد يربكها الانفصال والطلاق، إذ باتت على قناعة بأنها يمكنها أن تتدبر أمورها واحتياجاتها بدون زوج وأب للأولاد الذين هم بحاجة ماسة إلى الأم والأب للتربية والتنشئة، بغض النظر عن المقومات والمتطلبات الاقتصادية.
فضلا عن ذلك، ترى أبو عصبة أنّ الرجل يتعامل مع المرأة على أنه سيد البيت وهي خادمة! رغم أنها خرجت لسوق العمل، فما عادت المرأة تتحمله وتفضّل الطلاق خاصة وأنها تشعر بالاستقلال الاقتصادي، وبالمقابل، هناك حالات كثيرة تكون المرأة متعلمة ولديها شهادات أعلى من زوجها ودخلها بالمثل، إذ تعامله بنوع من الفوقية، نظرا لأنه يمكنها تدبر أمورها دونه.
حرب الأزواج!
وأوضحت أبو عصبة، أن الأخطر والمقلق في ملفات الطلاق هو انفصال عائلات مع أولاد، فمن ناحية “الحرب” بين الزوجين يكون ضحيتها الأولاد، فما عاد هناك اكتراث، سواء للرجل أو المرأة، لما يقوله المجتمع الذي ما عاد منغلقا على ذاته حيال الطلاق، كما أن الطلاق بات تقليعة وتقليدا أعمى بغرض تحقيق الذات.
ولفتت إلى أن المجتمع العربي يعيش الكثير من التناقضات وحالة انفصال وانفصام، إذ انكشف على متغيرات الحضارة الغربية واكتسب الكثير من الأمور التي ليست بالضرورة صحيحة أو ملائمة للمجتمع الذي سارع بالتقليد وما استوعب أو احتوى هذه المتغيرات ويطبق الحرية بالمفهوم الخاطئ، وفي المقابل يعاني المجتمع من جهل في التعاليم الدينية التي أضحت شعارا يمتطيه البعض، بحسب مصلحته واحتياجاته.
وبينت أبو عصبة أن المجتمع العربي، يعاني كالعائلة العربية، من انعدام القدرات والخلل في الاتصال والتواصل المجتمعي والأسري، إذ يهمين الكلام والحديث دون الأعمال والأفعال، ويتم تغليب القطيعة على التواصل وفهم الآخر وبالتالي، فإن مشاكل التواصل تؤدي إلى العنف الأسري والمجتمعي.
منطلقات شخصية
ومن جانبه، يرى إمام المسجد في زيمر، الشيخ عماد غانم، الذي يتحضر لإنهاء الدراسة في موضوعَي المرافعة الشرعية والإرشاد الأسري السلوكي والنفسي، أن ارتفاع نسب الطلاق مؤشر خطير يدل على فساد المجتمع العربي، لافتا إلى أن غالبية الأسر العربية تعاني من الإرباك في العلاقات والتواصل، إذ يُلحظ التراجع في الوعي لأهمية الشراكة الزوجية وتراجع الاهتمامات في مكانة الأسرة في ظل غياب ثقافة الحياة الزوجية.
الشيخ عماد غانم: غالبية الأسر العربية تعاني من الإرباك في العلاقات والتواصل
إن “الشراكة الزوجية ما عادت مبنية على المرجعية والشريعة الدينية أو العادات والتقاليد التي كان من خلالها يتم احتواء المشاكل وحلها، بل إن المرجعية الآن أضحت المنطلقات الشخصية للزوج أو الزوجة مع جهل بالحقوق والواجبات لكل طرف منهما يتمسك بمواقفه ولا يعرف أن يقدم تنازلات”.
وختم غانم بالقول إن “قضايا الأحوال الشخصية تواجه الكثير من التحديات في ظل غياب التربية للقيم العائلية والمجتمعية، فإلى جانب التعاليم الدينية والشرعية التي يجب تذويتها لدى أفراد المجتمع بكل ما يتعلق بالنكاح ومكافحة الطلاق، لا بد أيضا من مواكبة المتغيرات والبيئة المحيطة بدمج علوم الاجتماع والسلوك لتأهيل الأزواج وتمكينهم من مواجهة الصعوبات الحياتية وتغييب خيار الطلاق عن الحياة الزوجية”.