تسجيل الدخول

قصة قصيرة ذلك الماضي الجميل

2019-06-18T12:25:29+02:00
2019-06-18T13:29:06+02:00
واحة الأدب
زاجل نيوز18 يونيو 2019آخر تحديث : منذ 5 سنوات
قصة قصيرة ذلك الماضي الجميل

كانت ليلةً مُبرِقةً مُرعِدة، والأمُّ وأطفالُها العشَرةُ يتدفَّؤونَ بالخوفِ ويتغذَّونَ بالأُمنياتِ، وينتظرونَ مجيءَ الأبِ من السوقِ لعلّ وعسى.
أمّا الأبُ المنتظَر، الحارسُ الليليُّ في سوقِ القامشلي، فكانَ يُحضِّرُ لهم مفاجأة. لقد استأجرَ دكّانَ سجنِ البلدة، كي يدعمَ راتبَهُ الضئيلَ ويُريحَ ضميرَهُ الذي يعذِّبُهُ جوعُ أُسرتِهِ وعُريُها. ولَمّا كان موظّفاً عندَ الدولة، ولا يَحقُّ لـه أن يمارسَ عملاً آخَرَ غيرَ الحراسة، فقد جعلَ عقدَ الإيجارِ باسمِ زوجتِهِ ووقّعَ بدلاً منها.
هكذا جاءَهم في ذاك المساءِ متفائلاً على غيرِ عادتِهِ، ومبشِّراً بالنبأِ العظيم.
وقبلَ أن يقدّمَ الأبُ التفاصيل، فهِمها ابنُهُ سالِمٌ واندفعَ يشرحُ لأهلِه:
ـ أنا سأشتغلُ في الدكان. سأداومُ في المدرسةِ كالعادة، وأعملَ في الدكّانِ بعدَ الدوام.
اعترضَت الأمُّ قائلةً: ودراستُك؟
ـ دراستي لن تتغيَّر. أنا الأوَّلُ في صفّي دائماً وأحفظُ دروسي كلَّها من أفواهِ الأساتذة.
وتابعَ الأبُ يشجّعُ ابنَهُ ويُقنِعُ الأمّ:
ـ ثم إنه في الصفِّ الرابعِ وهو صفٌّ هَيِّن. وعندَما يصيرُ في الصفِّ الخامسِ صفِّ الشهادة، يَحُلُّ مَحَلَّهُ في الدكّانِ أحدُ إخوَتِه، الأكبرُ أو الأصغرُ لا فرق، ويتمكّنُ سالِمٌ من التفوّقِ في الشهادة.
وما كادَ الأبُ يطمئنُّ إلى أنهُ رتَّبَ المسألة، حتى عاجلَهُ سالِمٌ بسؤالٍ يدلّ على الحرصِ في أمورِ المالِ والتجارة:
ـ لكنْ، من سيشتغلُ في الدكّانِ أثناءَ دوامي في المدرسة؟
أجابهُ الأبُ مسرِّحاً بصرَهُ في البعيد:
ـ ستبقى مغلقة، فالسجناءُ لا يستعجلونَ شيئاً، والزمنُ عندَهم دونَ قيمة.
من يومِها صارَ سالِمٌ ينطلقُ من المدرسةِ فوراً إلى الدكّان، وصارَ غداؤهُ أحسنَ من غداءِ البيتِ وأطيب، فهو كأفضلِ ما يشتهيهِ السجناءُ: خبزٌ وحلاوةٌ أو خبزٌ وجبن، وربّما خبزٌ وجبنٌ وحلاوةٌ أيضاً. أمّا في حالاتِ النعمةِ الزائدةِ والترف، فهو خبزٌ وسردين.
كان معظمُ السجناءِ فقراء، يكتفونَ بما تقدِّمُهُ الدولةُ لهم من طعامٍ وشاي. لكنّ بعضَهم كانوا يشتهونَ تنويعَ طعامِهم أو الترفيهَ عن أنفسِهم بشراءِ طعامٍ آخَر. وكانَ في الدكّانِ ـ حسبَ طلباتِهم ـ خبزٌ ومعلَّباتٌ وأطعمةٌ ناشفة، ولا سيّما الجبنُ والتمرُ والحلاوة، تلك الأغذيةُ التي تناسبُ السجناءَ كما تناسبُ الدَرَكَ المقيمينَ في مخفرِ السجنِ وهو نفسُهُ مخفرُ مركزِ المنطقة، وكانوا يزيدونَ عن عشرة.
أحضرَ سالِمٌ مرّةً كيساً من البرتقالِ بعدَ طلباتٍ كثيرةٍ من السجناءِ، فاشترى أحدُهم رِطلاً وآخَرُ نصفَ رِطل، واختفى بقيّةُ المطالِبينَ بالبرتقال. واكتشفَ سالِمٌ أنّ معظَمَ المطالِبينَ بالبرتقالِ جماعةٌ صغيرةٌ من الأصدِقاء ليس أكثر، وطلبُهم هو طلبٌ واحدٌ وليس أكثر. من يومِها لم يعدْ يغامِرُ بشراءِ الخضَرِ والفاكهةِ إلاّ على قدرِ طلبِ السجينِ، على أن يُحضِرَ لـه الطلبَ في اليومِ التالي بعدَ خروجِهِ من المدرسة.
حين انتهى العامُ الدراسيُّ تفرّغَ سالِمٌ للدكّانِ وصارَ يقدِّمُ لأبيهِ كلَّ مساءٍ أرباحَهُ اليوميّة، التي لو جُمِعَتْ في شهرٍ لكانت أكبرَ من راتبِ الأب، فأصبحَ سالِمٌ جَملَ الْمَحامِل حقّاً ومُطعِمَ أهلِه.
ما كانَ يجهلُهُ أهلُ سالِم، هو الإرهاقُ الذي كان يعانيهِ في حرِّ الجزيرةِ اللاهب. كانت سلّتهُ معلّقةً طولَ النهار إلى زَندِهِ المنثني إلى صدرِه، وهو يسعى بين السوقِ والدكّانِ لتلبيةِ مطالِبِ السجناءِ المتجدِّدة، الذين شجَّعَهم عليها تفرّغُه لهم طولَ النهار.
ولم يكنْ يصعبُ عليهِ التعاملُ مع السجناءِ رغمَ صِغَرِ سنّه. إنهم خلفَ القضبان، عاجزون عن الأذى إن فكّروا فيه. لكنّ بعضَهم كانَ يمارسُ في السجن ما اعتادَ عليهِ قبلَهُ من النصب والاحتيال، كأن يطلبَ شيئاً ويأخذَهُ ولا يدفعَ ثمنَهُ زاعماً أنه دفعَهُ مسبقاً، لكنّها كانت حالاتٍ قليلة.
معظمُ السجناءِ كانوا طيّبينَ صادقين. وكانت طيبتُهم وصِدقُهم سبباً لِحَيْرةِ الدكّانيّ الصغيرِ الدائمة. كان في نفسِهِ يتساءل: ما داموا طيّبينَ فكيفَ أصبحوا خلفَ القضبان؟
ويوماً بعدَ يوم، بدأتْ تنشأُ بينَهُ وبينَهم صداقةٌ وأحاديث، عرَفَ منها أسبابَ سجنِ الكثيرين. بعضُهم اشتركَ في مشاجرةٍ على البيادر، وما أكثرَ المشاجراتِ على البيادرِ وقتَ الحصاد. وبعضُهم أطلقَ النارَ على أغنامٍ ترعى في زرعِه، ومنهم مَن تورّطَ في مشكلةٍ عائليّةٍ تطوّرَت إلى معركةٍ عنيفة.
قليلٌ من السجناءِ كانوا بعيدينَ عن صداقةِ سالمِ ومحادثتِه، وكانوا بين زملائهم أيضاً وحيدينَ منعزلين. أولئكَ هم المجرمونَ جرائمَ فظيعةٍ أو دنيئة، يخجلونَ من التحدّثِ عنها، ويحتقرُها الناسُ والمساجين.
ولقد سمعَ سالِمٌ من سكّانِ (خلفِ القضبانِ) قصصاً كثيرة، عن ظروفِ حياتِهم وأسبابِ سجنِهم. قصصٌ متنوّعةٌ غريبةٌ عجيبة، لكنّها تلتقي في فكرةٍ واحدةٍ هي أنهم أبرياءُ مظلومون. كان سالِمٌ يصدِّقُ تلك القصص، لكنه ـ في دخيلةِ نفسِه ـ يختلفُ مع أصحابِها في تفسيرِهم لها واعتقادِهم بأنهم أبرياء. إنه يؤمنُ إيماناً مطلَقاً بأنّ البريءَ لا يدخلُ السجن، وبأنّ الإنسانَ لا يُعاقَبُ إلاّ إن ارتكبَ ما يوجِبُ العقوبةَ مهما كانَ جُرمُهُ تافهاً، ولا يُعاقَبُ إلا‍ّ على قدْرِ جُرمِهِ لا أكثر ولا أقلّ. لكنّ إيمانَهُ هذا تغيّرَ في ذلك الصيف.
كانَ يوماً جهنّميّاً من قلْبِ تمّوز. الوقتُ بعدَ الظهيرة، وقد نامَ كلّ مَن في السجنِ أو احتجبوا وسكنوا في ظلالِ الغرف. لم يكنْ أحدٌ من السجناءِ ليزعِجَ نفسَهُ أو سالِماً بطلبِ شيء، فتغدّى الدكّانيُّ الصغيرُ وجلسَ على درَجِ السجنِ في ظلِّ شجرةِ السندِيانِ الضخمة، يتبرّدُ ويتمتّعُ بمنظر نباتاتِ الحديقة.
اقتربَت من الحديقةِ سيارةُ جِيب حديثةُ الطِرازِ لكنّها معفّرةٌ بالتراب، مما يعني أنها لأحدِ أغنياءِ الريف، الذين يشترونَ سيّارات حديثةً كلّما حصلوا على مَوسمٍ جيّد. توقّفَت السيارةُ ونزلَ صاحبُها وثلاثةٌ من الدَرَكِ يقتادونَ رجُلاً كهلاً رثَّ الثيابِ معفَّراً بالترابِ مقيّدَ اليدينِ بالحديد.
عرَفَ سالِمٌ صاحبَ السيّارةِ لكثرةِ زياراتِهِ للسجنِ ومخفرِ الدرك. إنه إقطاعيٌّ شهير يملِكُ عشَراتِ القُرى، متوسِّطُ العُمرِ مَهيبٌ وسيمُ الملامح، ذو وجهٍ أبيضَ مُتَورِّدٍ بحُمرةِ العافية، وشعرٍ فضّيٍّ نصفِ أشيَب.
تقدّمَ السيّدُ نحوَ بابِ المبنى الوحيدِ الكبير، أنيقاً هادئاً رافعَ الرأسِ فخمَ الثياب. وسارَ الدركُ خلفَهُ يلكمونَ المعتقَلَ ويلكُزونهُ بأعقابِ البنادق:
ـ امشِ يا كلب. تحرّك. هيّا.
وكانَ المعتقَلُ يتلفّتُ بينهم صارخاً باكياً:
ـ ماذا فعلتُ يا ناس؟ أنا مظلوم، يا بشَر.
فيجيبُهُ أحدُهم بضربةٍ من قبضتِهِ والآخرَ بدَفعةٍ بعقبِ البندقيّةِ وقد اختلطَ صوتاهما:
ـ اخرسْ يا لصّ.. اخرس.
كانوا يفعلونَ ذلك بحقدٍ ظاهرٍ وكأنه أجرمَ بحقِّهم أعظمَ جريمة، ويرفعونَ أصواتَهم عمداً كي يسمعَ السيّدُ الذي يسيرُ أمامَهم دون التفات. وقد تعوّدَ سامرٌ على هذه المناظِر، وأدركَ أنّ الدركَ يتبارَونَ في إظهارِ الانحيازِ للسيّدِ والاجتهادِ في خدمتِه، طمعاً في كَسبِ رضاهُ وربّما عطاياه.
وكانَ رئيسُ المخفرِ الذي يحملُ رتبةَ رقيبٍ ينظرُ من النافذةِ إلى القادِمين، فأسرعَ يرتِّبُ عُدَّة الشُغلِ على طاولتِه: الهاتفَ والمِقلَمَةَ وحافظةَ الأوراقِ ودفترَ الضبط، وهو دفترٌ كبيرٌ لتسجيلِ الشكاوى والوقائعِ وشهاداتِ الشهود. وبعدَ ترتيبِ هذه الأشياءِ بسرعةٍ حملَ اللافتةَ النحاسيةَ التي حُفِرَتْ عليها عبارةُ “رئيس المخفر”، ومسَحَها بكُمِّ سُترتِه.
دخلَ السيّدُ إلى غرفةِ الرقيبِ رئيسِ المخفَر، ووقفَ الباقونَ في البابِ ينتظرونَ الأوامر. كان للغرفةِ بابٌ ثانٍ مقابلٌ لبابِ الدكانِ وهو الآنَ مفتوحٌ للتهوية، فدخلَ سالِمٌ دكّانَهُ وجلسَ فيها متظاهراً بالبراءة، لكنْ ليرى ويسمع.
نهضَ الرقيبُ للسيّدِ الإقطاعيِّ مرحّباً باسماً مادّاً يديهِ ليأخذَهُ بالأحضان، ثم جلسَ أمامَهُ متخلّياً عن طاولتِه.
تبادلَ الرقيبُ والسيّدُ الأسئلةَ المعتادةَ عن الصحةِ والأحوالِ والعِيال، ثم نظر الرقيبُ إلى سالِمٍ هاتفاً:
هاتِ بارداً يا ولد.
فأسرعَ إليهِما بزجاجتينِ مثلّجتينِ من المياهِ الغازيّةِ (الكازوز)، أخذَ إحداهما الرقيبُ وقدّمَها للإقطاعيِّ بنفسِه، ثمّ مدّ يدَهُ إلى جيبِهِ فأسرعَ الإقطاعيُّ يمسِكُهُ ويمنعُهُ قائلاً:
ـ لا بالله. لا يجوز.
ثم دفعَ المالَ لسالِمٍ دونَ أن ينظرَ إليه كأنه يحتقرُ هذا المبلغَ التافهَ من المالِ والولدَ الذي دفعَهُ إليه.
خرجَ سالِمٌ من البابِ وأرادَ أن يغلِقَهُ تأدُّباً لأنه يكشفُ المشهدَ على دكّانِه، لكنّ الرقيبَ والسيّدَ قالا في وقتٍ واحد:
ـ لا داعي، دعنا نتهوّى.
وحينَ جلسَ سالمٌ في مكانِهِ المعتادِ في الدكان، كان السيّدُ يهمِسُ للرقيبِ مشيراً إلى البابِ الثاني حيثُ يقفُ المتّهَمُ وحرّاسُهُ الثلاثة. ثم غمزَ بعينِهِ وتضاحكَ الرجُلانِ وقالَ رئيسُ المخفر:
ـ لا تشغلْ بالَكَ، سأدبِّرُه.
ثم نادى نحو الخارج:
ـ أدخِلوا البطلَ حتى نرى.
أدخلَ الدركُ المتّهمَ فأمرَهم رئيسُ المخفر:
ـ فُكّوا يديه.
أسرعَ أحدُهم يفكُّ قيدَ الحديدِ ويعلّقُهُ على علاقةٍ في الجدار، بينما كانَ الرقيبُ يأمرُ أحد الدركيّينِ الآخَرين:
ـ يا جاسِم، افتحْ دفترَ الضَبط.
أسرعَ الدركيُّ جاسمٌ منهمكاً؛ فتحَ دفترَ الضَبطِ وأمسَكَ قلمَ الحبرِ المشكوك بِجيبِ سُترتِهِ وتهيّأَ للعمل.
ارتعبَ المتّهمُ مما يجري لأنه لا يعرفُ ما معنى كلِّ هذا وما هي نتيجتُه، فمسحَ العرقَ عن وجههِ وقالَ للرقيب:
ـ سيّدي، أنا مظلوم. لم أسرِقْ شيئاً والله.
فصرخَ الرقيبُ في وجهِه:
ـ تكذِّبُ سيّدَكَ يا كلب؟
فتابعَ المتّهم:
ـ سيدي، لا تقلْ: كلب. أنا لم أسرِق واسألوا حرّاسَ البيادر. اسألوا القريةَ كلَّها.
قالَ الرقيبُ للسيّدِ بلهجةٍ ساخرة:
ـ صاحبُنا لن يعترف.
ثم أمرَ الدركَ الثلاثة:
ـ خذوهُ وليِّنوا لسانَهُ حتى يعترف. وعندَما يعترفُ تماماَ أحضِروهُ ليبصُمَ على دفترِ الضبط.
أسرعَ الدركُ لاقتيادِ الرجُلِ فثبَتَ واقفاً وقال:
ـ سيدي، لا تأخذوني، دعوني أحكي.
قالَ الرقيب: سوف تكذب.
قال الرجُل: واللهِ سأحكي الحقيقة.
قالَ الرقيب: احكِ لي، وإذا صدَقتَ فسوف أعفو عنك، وأطلبُ من السيّدِ أن يعفوَ عنكَ أيضاً.
تحرّكَ المتّهمُ قليلاً ليخلصَ من قبضةِ الدركيّينِ ويواجهَ رئيسَ المخفر، ومسحَ العرقَ عن وجههِ وصمتَ لحظةً ثم قال:
ـ يا سيّدي، كلّنا في القرية أتباعُ السيّد، رجالُنا ونساؤنا وأولادُنا وشيوخُنا. نخدمُهُ بعيونِنا ونخدمُ الأرض، وهو يُطعِمُنا من فضلِهِ وفضلِ الله. وهو يعطينا مؤونةَ العامِ كلِّهِ من الطحينِ والبرغلِ والعدَسِ والسكّرِ والشايِ أيضاً، وإذا احتجْنا في الشتاءِ إلى المزيدِ أعطانا من مَؤونتِه. فلماذا أسرقُ من البيدرِ كيسَ عدَسٍ، وماذا أستفيدُ من هذه السرِقة؟!
أجابَ الرقيبُ مبتسماً بسخريةٍ خفيفة:
ـ وما أدراني؟ اسألْ نفسَك.
قالَ الفلاّح:
ـ يا سيّدي أين سأبيعُ كيسَ العدَس؟ أهلُ القريةِ إن أرادوه فلن يجرؤوا على شرائه، فهل سأحمِلُهُ على ظهري في الليلِ خمسينَ كيلو متراً لأبيعَهُ في القامشلي؟! هذا غيرُ معقول.
قالَ الرقيبُ بلهجةِ العاقلِ الناصح:
ـ فلماذا سرقتَهُ إذن؟ لماذا؟
قال الفلاّحُ بلهجةٍ توحي بأنهُ يغامِرُ بروحِه:
ـ سيدي، سأحكي وليكنْ ما يكون. السيّدُ يريدُ أن يتزوّجَ ابنتي ونحنُ لا نريد.
قال الرقيب وقد بدأ يتفاءلُ بأنه استدرجَ ضحيّتَهُ إلى الموضوعِ الذي يريدُه:
ـ من أنتم؟ ولماذا ترفضون؟
ـ أنا وزوجتي وابنتي. يعني كلُّنا.
قالَ الرقيبُ وهو يتصنّعُ هيئةَ المندهِش:
ـ وهل يوجدُ في الدنيا كلِّها فلاحٌ عاقلٌ يرفضُ مصاهرةَ سيّدِه؟ إنهُ يشرّفُكَ بهذا الزواجِ يا أحمق.
فقالَ الفلاّحُ بحقدٍ وألَم:
ـ سوف يطلِّقُها بعدَ عامٍ كما فعلَ بغيرِها ونصبحُ بلا شرفٍ ولا كرامة. هذه عادتُهُ في كلِّ موسِم، وهو يتقصَّدُ بناتي لأنهنَّ جميلات.
أجابَ الرقيبُ كأنه يتحدّثُ عن شراءِ خروفٍ وبيعِه:
ـ جميلات، غير جميلات، هذا من الله. والزواجُ والطلاقُ مِن شرعِ الله؛ الزواجُ من حقِّ الرجُلِ والطلاقُ من حقِّه.
قالَ الفلاّحُ وقد شجّعَهُ أنّ الرقيبَ يناقشُه:
ـ وأنا سأخالفُ شرعَ الله وأدخلُ النار.
قالَ الرقيبُ وهو ينهض:
ـ تدخلُ النارَ، تدخلُ جهنّمَ، هذا ليس شأني: لكنّكَ سرقتَ كيسَ العدَس.
قالَ الفلاّحُ بثباتٍ وهو يضبطُ نفسَه:
ـ لم أسرِقْ أيَّ شيء.
صفَعَهُ الرقيبُ فجأةً وهو يقول:
تكذّبُني أنا بعدَما كذّبتَ سيّدَك؟!
قال الفلاّحُ ثائراً:
ـ أكذّبُ الدنيا كلَّها، ولن أقدّمَ بناتي لـه بإرادتي ولا غصباً عنّي.
وانتهى ذلك التحقيقُ بكلمةٍ حاسمةٍ من الرقيب:
ـ خذوه.
أخذوهُ إلى غرفةِ التعذيبِ التي كتبوا عليها: “غرفة التحقيق”. ألقَوهُ أرضاً على ظهرِهِ ورفعوا رجليهِ وقيّدوهما بحزامِ خَصرِه، ثم بدؤوا يحقّقونَ معَهُ كما يُرضي سيّدَه: فَلَقاً بالخيزراناتِ التي يسوقونَ بها خيولَهم ويشتهرُ بحملِها كلّ خيّال. ومع صراخِهِ وآلامِهِ كان المحقّقونَ يتكاثرون، وكلّما تعبَ بعضُهم من ضربِهِ تناوبَهُ الآخَرون. وكان يكفُّ عن الصراخِ لفقدانِه الإحساسَ بقدميهِ أو لغيابِهِ عن الوعي، فكانوا يحملونهُ من كتفيه ويشحطونهُ شحطاً إلى المراحيض، فيدلقونَ الماءَ على رأسِهِ وقدميهِ حتى يعودَ الإحساسُ إليه، ثم يُجبِرونهُ على العودةِ مشياً إلى غرفةِ “التحقيقِ” كي يتابعوا الشُغل مع المتّهم.
لم يكنْ مطلوباً “من هذا المجرمِ” أن يعترفَ بشيءٍ بل أن يعتذرَ من سيّدِه، وبالتالي أن يقبلَ بتزويجِهِ ابنتَه. لكنّهُ كان أصلبَ من الصخرِ وأجبَرَ من الجبابِرة؛ كلّما أُهينَ ثارتْ كرامتُه، وكلّما أمعَنوا في العنادِ أمعنَ أكثر، وكلّما شتموهُ شتمَهم وشتمَ الإقطاعيَّ ورئيسَ المخفر. وكلّما هدّدوهُ بقتلِهِ هدّدَهم ـ إن ظلَّ حيّاً ـ بقتلِهم ثأراً ولو بعدَ حين.
أحسَّ سالِمٌ أنّ قلبَهُ سينفجر، فأغلقَ بابَ الدكّانِ كي يذهبَ إلى البيت، وأسرعَ إليهِ رئيسُ المخفرِ منفعِلاً متعرِّقاً كأنهُ هو الذي كانَ تحتَ الفلق:
ـ سالِم، سالِم. اذهبْ إلى السوقِ واشترِ لنا ربطةَ خيزرانات، عشر خيزراناتٍ أو عشرين.. وأجرتُكَ جاهزة.
ودسَّ الرقيبُ يدهُ في جيبِ بنطالِهِ فسبقَهُ الإقطاعيُّ بيدٍ ممدودةٍ إلى سالِمٍ بمئةِ ليرةٍ وهو يقولُ بابتسامةِ تحبُّب:
ـ خذها، وخلِّ الباقي لنفسِك.
لكنّ سالِماً تجمّدَ من هذا الطلب، فقالَ رئيسُ المخفرِ يشجّعُه:
ـ لا تخجل، خذْها من عمِّك.
قالَ سالِم مرتبكاً.
ـ لا أريد.
فبادرَ الإقطاعيُّ يتقرّبُ إليهِ بالحديثِ عن معرفتِهِ بابيه:
ـ أنتَ ابنُ حارسِ السوق؟
فأجابَهُ رئيسُ المخفر:
ـ ولدٌ حَمويٌّ، مثلُ أبيه.
لفظَ الرقيبُ كلمةَ “حَمويّ” بافتخار، فقد كانَ هو حَمويّاً أيضاً، وكانَ أبو سالِمٍ مشهوراً بشجاعتِه، فهو الوحيدُ من حُرّاسِ السوقِ الذي يواجهُ المسلَّحينَ من لصوصِ الليلِ والسكّيرينَ دونَ أن يستخدِمَ سلاحَه. لكنّ ما غابَ عن بالِ الرقيبِ أنّ سالِماً وأباهُ ليسا مثلَهُ أو مثلَ دركِه، لأن سالِماً نظرَ إلى الإقطاعيِّ والرقيبِ بصمتٍ وكأنه لم يفهم، ثم انصرفَ خارجاً دونَ التفات.
في البيتِ خاطبَهُ أبوهُ بلهجةِ الصديق:
ـ لقد هربْتَ يا سالِمُ لكنْ لا تخجلْ من هربِك. المهمُّ أنكَ رفضتَ ذاك الطلب. غداً سأصحبُكَ إلى الدكانِ وأبقى فيها معكَ طولَ النهار، وإن سمعتُ من رئيسِ المخفرِ أيّةَ كلمةً بحقِّك، فسوفَ أُنهي عَقدَ إيجارِها وأمري إلى الله.
في اليومِ التالي بكّرَ سالِمٌ وأبوهُ إلى الدكّان. وكانَ سالِمٌ مشغولَ البالِ لا على نفسِهِ بل على مصيرِ المتّهمِ بكيسِ العدَس. كانَ المخفرُ على غيرِ العادةِ صامتاً صمتَ القبور. والدرَكُ يتحرّكونَ مُطرِقينَ بأبصارِهم إلى الأرض. وحينَ انشغلَ الأبُ بفتحِ الدكّانَ ذهبَ سالِمٌ إلى حاجزِ القضبانِ وسألَ السجينَ الصَيّاحَ
ـ هل سجنوا أمسِ رجُلاً متّهَماً بكيسِ عدَس؟
اضطربَ الصيّاحُ وارتعشَ جفناه، ثم ضبطَ حُزنَهُ وهو يقول:
ـ هنا يوضَعُ الموقوفونَ بأمرِ القاضي والمحكومونَ بشكلٍّ نِهائيّ. أما الموقوفونَ بأمرِ الشرطةِ فيوضَعونَ في غرفةِ النَّظارة([6]).
قالَ سالِمٌ منصرفاً:
ـ سأرى في النظارة.
فقالَ الصياحُ:
ـ لا داعي. البقيّةُ في حياتِك.
عادَ سالِمٌ إلى أبيه، وهو يشعُرُ بالدُوارِ والغَثيانِ وأبلغَهُ ما حدَث، فأطرقَ الأبُ مهموماً بضعَ لحظات، ثم نهضَ إلى بابِ الدكانَ وهو يقول:
ـ سأغلِقُها وأمري إلى الله.
قالَ سالِم:
ـ لا يا أبي. سأبقى فيها. وسوف نعيش.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.