أكثر من 20 عاماً كانت كفيلة بأن يفقد الجميع الأمل في العثور على طفل صغير ضل الطريق إلى منزل عائلته، ربما تعرض لمكروه تسبب في وفاته، أو وقع بين يدي شخص معدوم الضمير اتخذ قراراً بخطفه، ليحرم هذا الصغير من حياة كريمة كانت ستوفرها له عائلته.
سيناريوات عدة دارت في ذهن هذه العائلة، التي فقدت صغيرها وباتت عودته مستحيلة بعد مضي 24 عاماً على اختفائه، من دون أن يدرك أحد أن هذا الطفل الذي فُقد صغيراً سيأتي يوم يصير فيه شاباً ويبحث عن أهله.
أمل مستحيل
موقف يصعب تصوره وأمل قد يستحيل التعلق به، فكيف لشخص لا يدرك أي تفاصيل عن الماضي سوى ثلاث صور قد تحمل ملامح قريبة من شكله، أن يفكر ولو للحظة في البحث عن أسرته، ويسيطر عليه إحساس بأن هناك من لا يزال يبحث عنه، رغم كل هذه السنوات. ومن يصدق أن رسالة مؤلفة من بضع كلمات يرسلها شاب عبر مواقع التواصل الاجتماعي ستساهم في عودته الى أحضان أمه بعد 24 عاماً ضل خلالها الطريق إلى منزل عائلته. الرسالة التي حملت عنوان «رسالة من ابن لأمه بعد 20 عاماً»، كانت كفيلة بأن تصنع المستحيل، عندما قال فيها هذا الشاب الذي يعمل مهندساً: «اسمي أحمد ويمكن ميكونش اسمي، أنا أحمد يا أمي دي كل الصور اللي عندي وأنا صغير، واللي قدرت أحافظ عليها سنين فراقنا على أمل إنك تعرفيني لما تشوفيها».
رسالة الابن
وتابع الشاب يقول في رسالته التي تم تداولها بصورة مكثفة على مواقع التواصل الاجتماعي: «أنا تايه من 20 سنة، الناس اللي ربتني لقيتني في محطة مترو المطرية»، ولأنه كان يخاطب أمّاً ما زال قلبها ينبض بأمل العثور على صغيرها، أرسل اليها مجموعة من العلامات التي قد تساعدها في التعرف إليه بعد كل هذا العمر. قال أحمد وهو يخاطب أمه عبر رسالة أعاد نشرها مليون شخص عبر «فايسبوك»: «في يدي اليمنى علامة بين أصابعي مثل الختم وعلامة ثانية في صدري، أنا كبرت يا أمي وتعلمت وأصبح عمري 26 عاماً الآن، وكل ما أتمناه من ربي أني أشوفكم وأرجع لكم وأملي في ربي كبير». كل من قرأ الرسالة تعاطف معها، لكنه لم يتخيل أن صاحبها سيجد أهله بهذه السرعة، بعدما قرأها رجل فقد ابنه في الفترة نفسها، وما إن قرأ كلماتها المؤثرة حتى خفق قلبه، ليتجدد الأمل في داخله بالعثور على صغير خرج ولم يعد بعد.
مفاجأة مذهلة
عبدالله رحومة، مواطن مصري يقيم في السعودية حيث يعمل، كان الرجل الذي سارع الى الاتصال بأحمد عله يحصل منه على أي معلومة قد تؤكد أو تنفي كونه ابنه، لينهار الرجل بالبكاء بعدما عجز عن تمالك نفسه من هول الصدمة التي لم يتوقعها بعد أكثر من 20 عاماً. مجموعة من الأسئلة طرحها الأب، لتؤكد إجابات هذا الشاب أنه ابنه، فيدرك الأب في هذه اللحظة أنه عثر على ابنه، ذلك الطفل الذي ضل الطريق وعمره عامان ونصف العام، أثناء لهوه أمام منزله في إحدى قرى محافظة أسيوط.
ظنت الأسرة يومها أن صغيرها قد انزلقت قدمه على حافة النهر وسقط غريقاً، ورغم أن بحثهم عنه امتد الى محافظات الوجه البحري، إلا أنهم لم يجدوا أثراً للجثة، ليظل الأمل بعودته قائماً، من دون أن يتخيل أحدهم أنه موجود في القاهرة، فكيف لصغير في هذا العمر أن يقطع مئات الكيلومترات بمفرده ويصل إليها! في الوقت الذي كان الأب على متن طائرة قادمة إلى القاهرة لرؤية الابن العائد، كانت الأم تستقل القطار الآتي من الصعيد إلى القاهرة لرؤية هذا الشاب، الذي يقولون عنه إنه ابنها، غير مصدقة ما تسمع، رغم أن الصور والعلامات التي حملتها رسالته كانت كفيلة بتأكيد الأمر.
لقاء أسطوري
لم تُتح الأم لنفسها فرصة التعرف الى ابنها، حيث انهمرت دموعها فور رؤيته ليرتمي هو الآخر في أحضانها في مشهد كان كفيلاً بأن يُبكي الجميع. تحليل الحمض النووي كان ضرورياً آنذاك، للجزم بأن أحمد هو محمد، ولتؤكد النتيجة المعجزة التي لا يزال البعض عاجزاً عن تصديقها حتى الآن. سنوات أحمد، لم تكن مأسوية بصورة كاملة، حيث ساقه القدر إلى سيدة رحيمة اعتنت به وحاولت البحث عن أهله، وعندما فشلت قامت بتحرير محضر بالعثور عليه وأودعته إحدى دور الرعاية. عاش أحمد في هذه الدار سنوات عدة، قبل أن يُنقل إلى دار رعاية أخرى، وهناك تعرف إلى سيدة تكفلت برعايته والاعتناء به والإنفاق عليه، إلى أن دخل كلية نظم التكنولوجيا والمعلومات، وترك على أثرها الدار التي يقيم فيها، واستأجر شقة عقب نجاحه في الحصول على فرصة عمل مكنته من الإنفاق على نفسه.
حلم يتحقق
فور ظهور نتيجة تحليل الـ DNA، أعلن الأب عثوره على ابنه التائه منذ أكثر من 20 عاماً، ليعود إلى بلدته في الصعيد في زفة بالطبل البلدي وهو يمتطي صهوة جواد وكأنه عريس يزف إلى عروسه بعدما خرج أهل البلدة جميعاً لاستقباله. فرحة الأب لا توصف، فهذا الابن هو الولد الوحيد وسط خمس بنات، وهذا الأمر يعني الكثير لرجل ينتمي إلى عائلة صعيدية تشعر بالفخر لإنجاب البنين، في حين جلست الأم تحتضن صغيرها الذي صار شاباً غير مصدقة أنه عاد، تعجز الكلمات عن مساعدتها في وصف شعورها فتكتفي بقولها «الحمد لله».
سنوات الماضي
يقول أحمد: «بعد العثور عليَّ أُرسلت إلى دار لرعاية الأيتام، وهناك سُمّيت باسم لا يحمل أي هوية كإجراء متبع، ومن ثم بدأت أستوعب الأمر مع مرور السنين، وأدركت أنني بلا أمٍّ ولا أب، كما عرفت بقصة العثور عليَّ، لكن سنوات عمري وقتها كانت تعجز عن مساعدتي في التفكير». ويضيف: «لم أكن أملك وقتها أي وسيلة تساعدني في العثور على أسرتي، حتى وصلت الى مرحلة بت فيها قادراً على البحث عن أهلي، وكلّي ثقة بأنني سأعثر عليهم، حتى تحقق الحلم ووجدت أسرتي، وهي أسرة بسيطة لكنني في قمة السعادة بها، فمن حرم من حنان العائلة يدرك قيمة ما أنا فيه الآن».
يوضح أحمد أنه سيبدأ في اتخاذ إجراءات تغيير اسمه في كل أوراقه الرسمية، بعدما قام والده بتحرير محضر بالعثور عليه بعد فترة غياب امتدت 24 عاماً.