كنت قد قررت أن يكون حفل Scorpions في المجمع الرياضي الأولمبي بموسكو آخر حفل أحضره هناك، بعد الانطباع الذي خلفه ستينغ. لكنني أعدت النظر في قراري هذا بعد حفل الفرقة الألمانية الأشهر.
في الحقيقة، ثمة قاسم مشترك بين الحفلتين. ما أن خرجت من المترو حتى التقطت عيني الراغبين بالحصول على تذكرة، فراودتني فكرة بيع تذكرتي لأحدهم، حتى أنني ارتأيت لجزء من الثانية أن أتخذ من هذا الأمر مهنة، ولكني سرعان ما عدلت عن هذه الخطوة.. أو بالأحرى لم آخذ هذه الفكرة، التي أتحفتني بها واحدة من بنات أفكاري، على محمل الجد، أنا أقترح.. وأنا ضد.
بدأ الحفل بفرقة روك غير مشهورة، ظننت في بادئ الأمر أنها من لبنان، بسبب علم كان معلقا على المنصة، فانتابني إحساس بالسعادة، ليتبين أن الفرقة من البيرو، ولا عجب أن يقع التباس كهذا لتشابه علمي البلدين، لا سيما وأن العلم البيرواني كان معلقا بشكل غير صحيح. ولكن لا بأس.. فالمهم أن يكون الإعلان عن حفل “سكوربيونز” هو الصحيح.
أنهت الفرقة وصلتها في غضون نصف ساعة، أثبتت فيها أنها تتمتع بمستوى عال يخولها لإحياء حفل منفرد، واختتمتها على نحو تقليدي.. سيلفي والجمهور خلفي، ليتحول الـ “سيلفي” إلى بطل الموقف، فانهمك الجمهور في حوارات جانبية لأكثر من نصف ساعة، يلقي خلالها نظرة عابرة على عقارب الساعة في انتظار خروج “العقارب”.
“دوبري فيتشر موسكفا”. بهذه التحية أعلن كلاوس ماينه، رئيس فرقة “سكوربيونز”، بداية الحفل المنتظر، فرد الجمهور التحية بأحسن منها، فكان استقبالا صاخبا يليق بالفرقة الألمانية ومؤسسها المخضرم، الذي كان يعرب طوال الحفل عن مشاعر الحب الكبير الذي يكنه لموسكو ولروسيا، وهي دون شك مشاعر صادقة عبّر عنها الفنان في واحدة من أشهر أعماله.
انطلقت الموسيقى وأصوات المغنيين في الحفل الذي يندرج في إطار جولة تحمل عنوان Crazy World، والذي شهد تفاعلا رائعا من قِبل الجمهور، فتتمنى لو أن هذا الحفل لا ينتهي حتى لو أنك تتعرف على شيء من إبداعات سكوربيونز ربما تسمعها لأول مرة.
كانت البهجة حاضرة في الضوء والصورة، وتجلى ذلك بأداء الفرقة الألمانية إحدى أغانيها، على خلفية علم روسيا.. الذي ظهر فجأة على شاشة عملاقة.
في أثناء الحفل، تواصل كلاوس ماينه مع الحضور مشاركا إياه بشيء من ذكرياته.. وذلك حين قال إنه كان في جولة مع أصدقائه في ألمانيا عام 1979، وأعرب لإحدى رفيقاته حينئذ عن أمنيته قائلا: ربما يا صغيرتي سنذهب ذات يوم بالسيارة إلى روسيا. إنه حب قديم لروسيا لا يتردد الفنان الألماني بالتعبير عنه، لا سيما من خلال إبداعاته ومواقفه.. فقد زرع شجرة وسط العاصمة الروسية في عام 2015 ليربط اسمه وإلى الأبد باسم معشوقته.. موسكو.
غنت الفرقة العديد من أغانيها، المشهورة والمشهورة جدا، منها Always Somewhere وBlackout وThe Zoo وEye Of The Storm.. إلا أن غالبية الحضور بكل تأكيد كان ينتظر الماسة الكبيرة في عقد اللؤلؤ.. أغنية wind of change، لتتجلى روعة التواصل بين كل من كان في المجمع الأولمبي وتتجسد في طاقة إيجابية مفعمة بأجمل المشاعر.. حتى أنك تجد نفسك تتفاعل مع هذه التحفة الفنية وتردد كلماتها..
Take me to the magic of the moment on a glory night
Where the children of tomorrow share their dreams with you and me.. لتسمع صوتا من أعماقك يردد.. آمين.
ما من شك أن لهذه الأغنية سحرها الخاص، إذ أنها تخاطب ضمير كل محب للسلام في كوكبنا، ولكن ما من شك أيضا أن لهذه الأغنية رونقها الخاص في روسيا حيث كتبها كلاوس ماينه وهو يتجول بين أرجاء حديقة غوركي التي يتغنى بها، وبالقرب من الكرملين وفي الساحة الحمراء، ما جعلها تتمتع بمكانة في وجدان الروس، الذين إما ولدوا على أنسام “رياح التغيير” أو عاصروا ذلك التغيير الذي يبدو هو أيضا قابلا للتغيير.
تدفعك كلمات هذه الأغنية للعودة بالزمن إلى الوراء وأنت تتساءل.. هل دُفنت الذكريات في الماضي حقا؟ هل ستغني البلالايكا ما يريد قوله الغيتار؟ تلقائيا.. تشعر نفسك أحد أعضاء هذه الفرقة العظيمة وأنت تقف مع من حولك وتغني في أكابيلا، في مشهد مهيب تهتز له أرجاء القاعة الضخمة.
لم يقتصر التفاعل العاطفي مع سكوربيونز على wind of change، إذ تلتها أغاني big city nights وsend me an angel، وبالطبع الأغنية التي جاءت في النهاية، علما أنها حاضرة بقوة التواصل مع الفرقة منذ بداية الحفل وهي.. rock you like a hurricane، التي أبدع المايسترو النمساوي كريستيان كولونوفيتس بتوزيعها في ألبوم أطلقته سكوربيونز عام 2000.
واستمرت حالة الألفة بين الفرقة والجمهور عندما طلب كلاوس ماينه مشاركته الاحتفال بعيد ميلاد قارع الدرامز، السويدي اليوناني الأصل ميكي دي، فانطلقت حناجر الجميع بـ happy birthday to you، وليرد الفنان بوصلة قدمها، وهو المحتفى به، هدية للجمهور.
انتهى الحفل.. ولكن الجمهور المتعطش لم يكن ليغادر المكان ببساطة فصفق طويلا، ليخرج أعضاء الـ سكوربيونز مجددا ويغنوا.. وليس مهمّا أي أغنية كانت هذه المرة، ليُختتم الحفل ويغادر الجمهور القاعة بينما كان كثير يلقي نظرة على المنصة كي لا يضيع فرصة جديدة للتواصل مع “العقارب”.
تدرك في لحظات كهذه كم رائع هذا الإنسان الذي ينبض بقلب محب للسلام.. وكم هو جميل هذا الإنسان عندما يبتسم وصدى الفن الصادق يتردد بين جنبات روحه.