روى البخاري ومسلم واللفظ له – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (إن الميت إذا وضع في قبره، إنه ليسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا).
استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث استنباطا على جواز المشي بين القبور بالنعال وعورض بحديث ظاهر الدلالة على المنع من لبس النعال في المقبرة وهو حديث بشير بن معبد الذي أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بلفظ : ” أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا يمشي في نعلين بين القبور، فقال: (يا صاحب السبتيتين ألقهما).
فهل بين الحديثين تعارض حاصل أم أنه توهم للتعارض بينهما من غير حقيقة ؟
فمن أهل العلم من منع من الاستدلال بحديث أنس على جواز المشي بالنعال في المقابر لأن الحديث ليس فيه سوى مجرد الإخبار بأن الميت يسمع قرع نعال الأحياء إذا انصرفوا عنه، وهذا لا يؤخذ منه جواز ولا حرمة جريا على عادة كثير من النصوص التي فيها الإخبار عن حصول أمر أو وقوع حدث من غير أن يستلزم حكما بجواز ولا غيره ومن ثم يطلب حكمه من دليل آخر.
قال الحافظ بن حجر: واستدل به على جواز المشي بين القبور بالنعال ولا دلالة فيه، وقال بن الجوزي ليس في الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر وذلك لا يقتضى إباحة ولا تحريما. انتهى
ومن أهل العلم من رأى أن في حديث أنس بن مالك دلالة مستنبطة على الجواز، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- أخبر بهذا الأمر ولم ينكره فدل على جوازه، وعلى هذا القول يحصل التعارض بين الحديثين ولا بد من الجمع بينهما.
وممن فهم الجواز من الحديث الإمام الطحاوي فقد قال: وقد روي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يدل على إباحة المشي بين القبور بالنعال، ثم ساق هذا الحديث، وجمع بينه وبين حديث صاحب السبتيتين بحمل النهي على حالة ما إذا كان فيهما نجس أو قذر وهو قول البيهقي وحكاه النووي كأحد وجوه الجمع بين الحديثين.
وأبعد ابن حزم بتخصيص النهي بالنعل السبتية فقط وجوز المشي بين القبور بغيرها على عادته في التمسك بظواهر النصوص، وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: وهو جمود شديد.
وحمل الخطابي وأبو عبيد حديث النهي على الخيلاء، قال أبو عبيد : وانما ذكرت السبتية لأن أكثرهم في الجاهلية كان يلبسها غير مدبوغة، الا أهل السعة منهم والشرف.
قال الحافظ: وأما قول الخطابي: يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الخيلاء فإنه متعقب بأن بن عمر كان يلبس النعال السبتية ويقول أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يلبسها وهو حديث صحيح.
ولكن -والله أعلم- بأن لبس النبي –صلى الله عليه وسلم- لها لا يمنع من نهيه عن لبسها في المقابر؛ لمنافاة ذلك لما ينبغي أن يكون عليه حال الداخل إلى المقبرة من الخضوع والتواضع فلا تعارض بين لبسه لها ونهيه عن لبسها عند دخول المقابر، والله أعلم.