تسجيل الدخول

الرواية العربية.. بداية وإرهاصات

واحة الأدب
زاجل نيوز23 يوليو 2016آخر تحديث : منذ 8 سنوات
الرواية العربية.. بداية وإرهاصات

60189801591770752
تتَّسم الروايات المؤلفة في بدايات عصر النهضة بتكدُّس الأحداث، وغلبة السرد على الحوار، وكثرة المصادفات والأحداث الغريبة، والتحليق في عالم الخيال، ووضوح الغرض الأخلاقي أو التعليمي، وتدخُّل المؤلف في سياق الأحداث بتعليقاته المباشرة، والاستشهاد بين الحين والحين بالأمثال والحِكم وأبيات الشعر… إلخ.

وفي كل بلد عربي يقف مؤرخو الرواية ونُقَّادها عادةً عند إحدى الروايات، بوصفها البداية الحقيقية للرواية الفنية الجيدة، ففي مصر يُحددون هذه البداية برواية محمد حسين هيكل: “زينب”، التي ظهرت في بدايات العقد الثاني من القرن العشرين؛ لِما فيها من تصوير دقيق للريف المصري بمناظره الطبيعية، وحقوله وطيوره وبيوته، وعاداته وتقاليده، ومعالجتها بعض القضايا المهمة؛ كالعلاقة بين الفلاحين ومالك الأرض، والعلاقة العاطفية بين زينب وحامد ابن المالك الذي كانت تشتغل مع سائر الفلاحين في أرضه، وبينها وبين إبراهيم الذي كانت تحبه ولكن لم يكتب لها الزواج منه، بل تزوَّجت “حسن” رغم أنها لم تكن متعلقةً به، وكذلك التطور الفكري لحامد الطالب المُطَّلع على كُتب الفلسفة والاجتماع وما أشبه، إلى جانب أسلوب القصة العصري البسيط الخالي من السجع والجناس، والزخارف البديعية الأخرى، وإن لم تعد ريادة هيكل لفن الرواية أمرًا يحظى بالإجماع؛ إذ يشير بعض الدارسين إلى أن “زينب” قد سبَقتها قَصص أخرى جيدة فنًّا ومضمونًا؛ كـ”عذراء دنشواي”؛ لمحمود ظاهر حقي، و”فتاة مصر”؛ ليعقوب صروف.

وتتجسد البداية الناضجة للفن الروائي في بلاد الرافدين في محمود أحمد السيد وروايته: “جلال حامد” (1928م)، التي تأتي ثالثة في ترتيب ما أصدره من أعمال روائية؛ إذ سبقتها روايتا “في سبيل الزواج” (1921م) و”مصير الضعفاء” (1922م)، وهي تدور حول ثورة العراق عام 1920م، ورحيل البطل إلى الهند وعودته بعد فشل الثورة المذكورة، وتعكس آراء الكاتب السياسية والاجتماعية والأدبية، من مثل: حق العُمَّال في الإضراب لتحسين أوضاعهم، وحق المرأة في الحرية والتعليم، وفي أن يكون لها رأي في زواجها… إلخ، فضلاً عن أنها لا تَهيم في أَوْدية الخيال كما يقول مؤلفها، وإن لم تخلُ من بعض العيوب.

أما في سوريا، فتُعد رواية “نهم”؛ لشكيب الجابري الصادرة سنة 1936م، هي البداية الفنية الحقيقية للرواية السورية، وهي رواية ذات اتجاه رومانسي كبقية روايات ذلك المؤلف، الذي كان آخر ما كتَبه في هذا المضمار هو “وداعًا يا أفاميا” (1960م)، ويبرر في حوادثها التي تجري في برلين الانحلال الجنسي، رغم ما تُعالجه من القضايا الوطنية، وتمثِّل رواية توفيق يوسف عواد “الرغيف” (1939م) عند النُّقاد ومؤرخي الرواية – نقطةً متميزةً في حفل الرواية اللبنانية، وموضوعها جهود بعض الشبان الوطنيين في إيقاظ الروح القومية والمطالبة بحق العرب في عيشة كريمة، والكفاح ضد العثمانيين والإقطاعيين المحليين لبلوغ هاتين الغايتين، ويقوم رغيف الخبز بدور مهم في الرواية؛ إذ يمثل المطلب الثاني إلى جانب الحرية، وقد سبَقت رواية عواد أعمالٌ روائية لأمين الريحاني وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة وكرم ملحم كرم وغيرهم، وهذه الروايات هي التي مهَّدت السبيل لـ”رغيف” عواد، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن تلك الرواية قد خلت من العيوب، فما من نتاج بشري يخلو من الثغرات، وبخاصة إذا كان رائدًا في مجاله.

ويتريَّث د. إبراهيم السعافين عند رواية عبدالحليم عباس: “فتاة من فلسطين”، واضعًا إياها في محل الريادة من مسيرة الرواية في الأردن، وهي “تقوم على تمجيد وَحدة الأمة في الشدائد والخطوب العظيمة”، وتعالج مأساة فلسطين، رابطةً “القضية السياسية القومية بالمسألة الاجتماعية”، في إطار قصة حبٍّ بين بطلي الرواية اللذين يُقدمان على الزواج في تحدٍّ لـ “التقاليد السائدة التي تجعل زواج أبناء العمومة مقدَّمًا على زواج الأغراب أو المتباعدين”.

ويذكر د. سلطان بن سعد القحطاني في كتابه: “الرواية في المملكة العربية السعودية – نشأتها وتطورها”، أن معظم الباحثين والنُّقاد يعدون “ثمن التضحية” (1959م)؛ لحامد دمنهوري، أوَّلَ رواية سعودية جمعت معظم العناصر الفنية للرواية، إن لم تكن كلها، وهي رواية تُصوِّر الصراع الذي يدور في نفس البطل بين بقائه في بلده، مع الاكتفاء بالقدر الذي حصَّله من التعليم، وبين سفره إلى القاهرة؛ لإكمال تعليمه هناك، وكذلك بين حبِّه لخطيبته غير المتعلمة التي خلَّفها وراءه في السعودية، وحبِّه لزميلته القاهرية الجميلة التي تتمتَّع بالجاه والمال والتعليم الجامعي.

أما في السودان، فينصب الثناء الحقيقي للدكتور سيد حامد النساج في كتابه: “بانوراما الرواية العربية الحديثة” على “الطيب صالح” وأعماله القَصصية، قائلاً: “إن الرواية العربية تبلغ قمة نُضجها في السودان” على يديه؛ إذ تجمع بين النكهة المحلية ومسايرة التقدُّم العصري في الفن الروائي، كما أن مقدرته على وصْف القرية السودانية؛ بناسها وعاداتها وتقاليدها، والمؤثرات المدنية الوافدة عليها، ومَزْج الوقائع بالخرافة والأسطورة – قد بلغت من البراعة حدًّا بعيدًا، علاوةً على النفحة الصوفية التي يَمسح بها على عالمه.

وبالنسبة للرواية التونسية، فإن د. النساج أيضًا في كتابه المذكور لا يعترف من الناحية الفنية بشيء منها قبل رواية “جولة حول حانات البحر المتوسط” (1935م)؛ لعلي الدوعاجي، الذي يؤكد أنه “أبو القصة التونسية الحديثة بلا منازع”، نافيًا أن تكون “الهيفاء وسراج الليل”؛ لصالح السويسي (1906م)، أو “الساحرة التونسية”؛ للصادق الرزوقي (1910م)، أو “فكاهة في مجلس قضاء”؛ لمحمد مناشو (نفس العام) وأمثالها – روايات بالمعنى الفني الصحيح، بل هي – في رأيه – أعمال ساذجة تُعَد أقربَ إلى المقال أو الصورة الفكاهية منها إلى العمل القصصي، وتتناوَل رواية الدوعاجي موضوع الالتقاء بين حضارتي الشرق والغرب، مع الرمز لكل منهما بامرأة يُخصص البطل لأُولاهما جانبه الوجداني، وللثانية جانبه الجسدي، وتدور معظم حواراتها على الجنس ووصْف النساء في أماكن وحالات مختلفة بأسلوب ساخر في كثير من الأحيان.

كذلك يؤكد الدكتور النساج أن ظهور الرواية الجزائرية ذات المستوى الفني الجيد، قد تأخر إلى سبعينيات القرن الماضي، حين صدرت لعبدالحميد بن هدوقة روايتا “ريح الجنوب” و”نهاية الأمس” (1971م، 1974م على التوالي)، وللطاهر وطار “اللاز” و”الزلزال” (1974م)، و”الحوات والقصر” (1978م)، ويُعجب الأستاذ الدكتور بالطاهر وطار إعجابًا عظيمًا، عادًّا روايته: “اللاز” نقطة تحوُّلٍ في مسيرة الرواية الجزائرية.

وبالنسبة للمغرب، نجد كذلك د. النساج يختص الأستاذ عبدالكريم غلاب باهتمام زائد، مبرزًا تحمُّس هذا الكاتب المغربي للرواية تحمُّسًا يبلغ حدَّ العشق، ذاكرًا الأعمال الروائية التي أبدعتها يراعته: “دفنا الماضي” (1966م)، و”المعلم علي” (1971م)، و”سبعة أبواب”، كما يلفت انتباهنا إلى ما لاحظَه من تشابه بين الكاتب المغربي في شغفه البادي في رواياته بمدينة فاس، والأستاذ نجيب محفوظ في اهتمامه الشديد بقاهرة المعز؛ إذ يحرص كلاهما على تصوير البيئة المكانية، فضلاً عن تشابههما في موضوعات رواياتهما وأحداثها وشخصيَّاتها.
••••

والآن إلى بعض نماذج الفن القصصي في القديم وفي الحديث، فمن كتاب “العقد الفريد”؛ لابن عبدربه (246 – 328هـ)، نختار النص التالي:
“حدثني أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن الأجدع الكوفي بهيت، قال: حدثني إبراهيم بن علي مولى بني هاشم، قال: حدثنا ثقات شيوخنا: أن جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني، لَما أراد أن يُسلم، كتَب إلى عمر بن الخطاب من الشام يُعلمه بذلك، يستأذنه في القدوم عليه، فسُرَّ بذلك عمر والمسلمون، فكتب إليه: أن اقدَم، ولك ما لنا، وعليك ما علينا، فخرج جبلة في خمسمائة فارس من عك وجفنة، فلما دنا من المدينة، ألبسهم ثياب الوشي المنسوج بالذهب والفضة، ولبِس يومئذ جبلة تاجه، وفيه قرط مارية، وهي جدته، فلم يبق يومئذ بالمدينة أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان، وفرِح المسلمون بقدومه وإسلامه، حتى حضر الموسم من عامه ذلك مع عمر بن الخطاب، فبينما هو يطوف بالبيت، إذ وطئ على إزاره رجل من بني فزارة، فحلَّه، فالتفتَ إليه جبلة مغضبًا، فلطَمه فهشَّم أنفه، فاستعدى عليه الفزاري عمر بن الخطاب، فبعَث إليه، فقال: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطَمت أخاك هذا الفزاري، فهشَّمت أنفه؟ فقال: إنه وطئ إزاري، فحلَّه، ولولا حُرمة هذا البيت، لأخذت الذي في عيناه، فقال له عمر: أما أنت، فقد أقررت، فإما أن تُرضيه، وإلا أقَدته منك، قال: أتُقيده مني وأنا مَلِك وهو سُوقة؟ قال: يا جبلة، إنه قد جمعك وإياه الإسلام، فما تَفضله بشيء إلا بالعافية، قال: والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعزَّ مني في الجاهلية، قال عمر: دعْ عنك ذلك، قال: إذًا أتنصَّر، قال: إن تنصَّرت، ضرَبت عنقك، قال: واجتمع قوم جبلة وبنو فزارة، فكادت تكون فتنة، فقال جبلة: أخِّرني إلى غد يا أمير المؤمنين، قال: ذلك لك، فلما كان جُنح الليل، خرج هو وأصحابه، فلم يَئن حتى دخل القسطنطينية على هرقل، فتنصَّر وأقام عنده، وأعظمَ هرقل قدوم جبلة، وسُرَّ بذلك، وأقطعه الأموال والأراضي والرباع.

فلما بعث عمر بن الخطاب رسولاً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، أجابه إلى المصالحة على غير الإسلام، فلما أراد أن يكتب جواب عمر، قال للرسول: ألقيت ابن عمك هذا الذي ببلدنا (يعني جبلة)، الذي أتانا راغبًا في ديننا؟

قال: ما لقيته.
قال: الْقَه، ثم ائتني، أعطِك جواب كتابك.

وذهب الرسول إلى باب جبلة، فإذا عليه من القهارمة والحُجَّاب، والبهجة وكثرة الجمع، مثل ما على باب هرقل، قال الرسول: فلم أزَل أتلطَّف في الإذن حتى أذِن لي، فدخلت عليه، فرأيت رجلاً أصهبَ اللحية ذا سبالٍ، وكان عهدي به أسمر أسودَ اللحية والرأس، فنظرت إليه فأنكرته، فإذا هو قد دعا بسحالة الذهب، فذرَّها في لحيته حتى عاد أصهبَ، وهو قاعد على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسود من ذهب، فلما عرَفني رفَعني معه في السرير، فجعل يسائلني عن المسلمين، فذكرت خيرًا، وقلت: قد أضعفوا أضعافًا على ما تعرف.

فقال: كيف ترَكت عمر بن الخطاب؟
قلت: بخير.

فرأيت الغم قد تبيَّن فيه لما ذكرت له من سلامة عمر، قال: فانحدرت عن السرير، فقال: لِم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها؟ قلت: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن هذا، قال: نعم، صلى الله عليه وسلم، ولكن نقِّ قلبك من الدَّنس، ولا تُبالِ علامَ قعَدت، فلما سمِعته يقول: صلى الله عليه وسلم، طمِعت فيه، فقلت له: وَيْحك يا جَبلة، ألا تُسلِم وقد عرَفت الإسلام وفضله؟

قال: أبعد ما كان مني؟
قلت: نعم، قد فعل رجل من بني فزارة أكثر مما فعَلت، ارتدَّ عن الإسلام وضرَب وجوه المسلمين بالسيف، ثم رجع إلى الإسلام، وقُبِل ذلك منه، وخلَّفته بالمدينة مسلمًا.

قال: ذرني من هذا، إن كنت تضمن لي أن يُزوِّجني عمر ابنته، ويُوليني الأمر من بعده، رجَعت إلى الإسلام.
قلت: ضمِنت لك التزوج، ولم أضمن لك الإمرة.

قال: فأومَأ إلى خادم بين يديه، فذهب مسرعًا، فإذا خدم قد جاؤوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوُضِعت ونُصِبت موائد الذهب وصحاف الفضة، وقال لي: كُلْ، فقبَضت يدي وقلت: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة، فقال: نعم، صلى الله عليه وسلم، ولكن نقِّ قلبك، وكُلْ فيما أحبَبت.

قال: فأكل في الذهب والفضة، وأكلت في الخليج، فلما رُفِع الطعام، جيء بطساس الفضة وأباريق الذهب، وأومأ إلى خادم بين يديه، فمر مسرعًا، فسمعت حسًّا، فالتفتُّ، فإذا خدَمٌ معهن الكراسي مُرصعة بالجواهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره، ثم سمعت حسًّا، فإذا عشر جوار قد أقبلنَ مطمومات الشعر، متكسرات في الحلي، عليهنَّ ثياب الديباج، فلم أر وجوهًا قطُّ أحسن منهن، فأقعَدهن على الكراسي عن يمينه، ثم سمِعت حسًّا، فإذا عشر جوار أُخر، فأجلسهنَّ على الكراسي عن يساره، ثم سمعت حسًّا، فإذا جارية كأنها الشمس حُسنًا، وعلى رأسها تاج، وعلى ذلك التاج طائر لم أرَ أحسن منه، وفي يدها اليمنى جام فيه مسك وعنبر، وفي يدها اليسرى جام فيه ماء ورد، فأومأت إلى الطائر، أو قال: فصفَّرت بالطائر، فوقع في جام ماء الورد، فاضطرَب فيه، ثم أومأت إليه، أو قال: فصفَّرت به، فطار حتى نزل على صليب في تاج جبلة، فلم يَزل يُرفرف حتى نفضَ ماء ريشه عليه، وضحِك جبلة من شدة السرور حتى بدت أنيابه، ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه، فقال: بالله أطْرِبْنَني، فاندفعْنَ يَقُلنَ:

لله دَرُّ عصابة نادَمتهم
يومًا بجِلَّقَ في الزمان الأوَّلِ
يَسقون من وَرْد البَريص عليهم
بَرَدَى يُصَفِّق بالرحيق السَّلْسلِ
أَولاد جَفنةَ حول قبر أبيهم
قبرِ ابن ماريةَ الكريم المُفْضلِ
يُغْشَون حتى ما تَهِرُّ كلابُهم
لا يَسألون عن السَّواد المُقبلِ
بِيضُ الوجوه كريمةٌ أحسابُهم
شُمُّ الأُنوف من الطِّراز الأوَّلِ

قال: فضحِك حتى بدَت نواجذه، ثم قال: أتدري من قائل هذا؟
قلت: لا.
قال: قائله حسان بن ثابت، شاعر رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

ثم التفت إلى الجواري اللاتي عن يساره، فقال: بالله أبْكيننا.
اندفعن يَقلن:

لِمَن الدارُ أقْفَرتْ بِمَعَانِ
بَيْن أعلى اليَرموك فالخَمَّانِ؟
ذاك مَغْنًى لآلِ جَفنةَ في الدَّهْ
رِ محلاًّ لحادث الأزْمانِ
قَد أراني هناك دَهْرًا مَكينًا
عِند ذي التاج مَقعدي ومكاني
ودَنا الفِصح فالولائد يَنْظِمْ
نَ سِراعًا أَكِلَّةَ المَرْجانِ
لَم يُعَلَّلْنَ بِالمَغافير والصَّمْ
غِ ولا نَقْفِ حَنظلِ الشَّرْيانِ

قال: فبكى حتى جعَلت الدموع تسيل على لِحيته، ثم قال: أتدري من قائل هذا؟
قلت: لا أدري.
قال: حسان بن ثابت.

ثم أنشأ يقول:

تنصَّرتِ الأشراف من عارِ لَطْمةٍ
وما كان فيها لو صبَرتُ لها ضَرَرْ
تَكَنَّفَني منها لَجاجٌ ونَخْوَةٌ
وبِعْتُ لها العينَ الصحيحة بالعَوَرْ
فيا ليت أُمي لم تَلِدني وليتني
رجَعت إلى الأمر الذي قال لي عُمرْ
ويا لَيتني أرعى المَخاضَ بقَفْرةٍ
وكنتُ أسيرًا في رَبيعةَ أو مُضَرْ
ويا لَيت لي بالشام أَدنى مَعيشةٍ
أُجالس قومي ذاهبَ السَّمع والبصرْ

ثم سألني عن حسان: أحيٌّ هو؟
قلت: نعم، تركته حيًّا.

فأمَر لي بكسوة ومال ونوق موقرة برًّا، ثم قال لي: إن وجدته حيًّا، فادفَع إليه الهدية، وأقْرِئه سلامي، وإن وجدته ميتًا، فادفعها إلى أهله، وانْحَر الجِمال على قبره.

فلما قدِمت على عمر، أخبَرته خبر جبلة وما دعوته إليه من الإسلام، والشرط الذي شرطه، وأني ضمِنت له التزوج، ولم أضمَن له الإمرة، فقال: هلا ضمِنت له الإمرة؟ فإذا أفاء الله به الإسلام، قضى عليه بحُكمه – عز وجل – ثم ذكرت له الهدية التي أهداها إلى حسان بن ثابت.

فبعث إليه وقد كُفَّ بصرُه، فأُتِي به وقائد يقوده، فلما دخل، قال: يا أمير المؤمنين، إني لأجد رياح آل جَفنة عندك.

قال: نعم، هذا رجل أقبل من عنده.

قال: هات يا ابن أخي؛ إنه كريم من كِرام مَدحتهم في الجاهلية، فحلف ألا يلقى أحدًا يعرفني إلا أهدى إلي معه شيئًا، فدفَعت إليه الهدية: المال والثياب، وأخبرته بما كان أمَر به في الإبل إن وُجِد ميتًا، فقال: وَدِدت أني كنت ميتًا، فنُحِرت على قبري.

قال الزبير: وانصرف حسان وهو يقول:

إنَّ ابْن جَفْنةَ مَن بقيَّة مَعشرٍ
لَم يَغْذُهم آباؤهم باللومِ
لَم يَنْسني بالشام إذ هو رَبُّها
مَلِكًا ولا مُتنصِّرًا بالرومِ
يُعطي الجزيلَ ولا يَراه عِنده
إلا كبعض عَطيَّة المذمومِ

فقال له رجل كان في مجلس عمر: أتذكر ملوكًا كفرةً أبادهم الله وأفناهم؟ قال: ممن الرجل؟ قال: مُزني، قال: أمَا والله لولا سوابق قومك مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لطوَّقتك طوق الحمامة.

قال: ثم جهَّزني عمر إلى قيصر، وأمرني أن أضمنَ لجَبلة ما اشترَط به، فلما قدِمت القسطنطينية، وجَدت الناس منصرفين من جنازته، فعلِمت أن الشقاء غلب عليه في أمِّ الكتاب”.

ومن كتاب “الأذكياء”؛ لابن الجوزي (508 – 597هـ):
“قال ابن الموصلي: حدَّثني أبي، قال: أتيت يحيى بن خالد بن برمك، فشكوت إليه ضيقة اليد، فقال: وَيْحك! وما أصنع لك؟ ليس عندنا في هذا الوقت شيء، ولكن عليك ها هنا أمر أَدُلُّك عليه، فتكون فيه رجلاً، قد جاءني خليفة صاحب مصر، يسألني أن أستهدي صاحبه شيئًا، وقد أبيت ذلك، فألَحَّ عليّ، وقد بلغَني أنك قد أعطيت بجاريتك فلانة ثلاثة آلاف دينار، فهو ذا أستهديه إياها وأخبره أنها قد أعجَبتني، وإياك أن تَنقصها عن ثلاثين ألف دينار، فلم يزَل يُساومني، حتى بذَل لي عشرين ألف دينار، فلمَّا سمِعتها، ضَعُف قلبي عن ردِّها، فبِعتها وقبَضت العشرين ألفًا، ثم صِرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي: كيف صنعت في بيعك الجارية؟ فأخبرته، فقلت: والله ما ملَكت نفسي أن أجبت إلى العشرين ألفًا حين سمِعتها، فقال: إنك لخسيس، وهذا خليفة صاحب فارس قد جاءني في مثل هذا، فخُذ جاريتك، فإذا ساوَمك، فلا تنقصها عن خمسين ألف دينار، فإنه لا بد أن يشتريها منك بذلك، قال: فجاءني الرجل فاستمت عليه خمسين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى أعطاني ثلاثين ألف دينار، فضعُف قلبي عن ردها، ولم أصدق بها، فأوجَبتها له بها، ثم صِرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي: بكم بِعت الجارية؟ فأخبرته، فقال لي: وَيْحك! ألم تؤدِّبك الأولى عن الثانية؟ قلت: ضعُفت والله عن رد شيء لم أطمَع فيه، فقال: هذه جاريتك، فخذها إليك، قال: فقلت: جارية أفدت بها خمسين ألف دينار، ثم أملكها؟ أُشهدك أنها حرَّة، وأني قد تزوَّجتها”.

من كتاب “ألف ليلة وليلة”:
“حكاية هارون الرشيد مع علي العجمي، وما يتبع ذلك من حديث الجراب الكردي: ومما يحكى أيضًا أن الخليفة هارون الرشيد قلق ليلةً من الليالي فاستدعى وزيره، فلما حضَر بين يديه، قال له: يا جعفر، إني قلقت الليلة قلقًا عظيمًا، وضاق صدري، وأريد منك شيئًا يَسُر خاطري ويَنشرح به صدري، فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إن لي صديقًا اسمه علي العجمي، وعنده من الحكايات والأخبار المُطربة ما يسر النفوس، ويُزيل عن القلب البوس، فقال له: عليّ به، فقال: سمعًا وطاعة، ثم إن جعفرًا خرج من عند الخليفة في طلب العجمي، فأرسل خلفه، فلما حضَر، قال له: أجب أمير المؤمنين، فقال: سمعًا وطاعة، وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الثلاثمائة، قالت: بلَغني أيها الملك السعيد أن العجمي قال: سمعًا وطاعة، ثم توجَّه معه إلى الخليفة، فلما تمثَّل بين يديه، أذِن له بالجلوس، فجلَس، فقال له الخليفة: يا علي، إنه ضاق صدري في هذه الليلة، وقد سمعت عنك أنك تحفظ حكايات وأخبارًا، وأريد منك أن تسمعني ما يُزيل همي، ويُصقل فكري، فقال: يا أمير المؤمنين، هل أُحدِّثك بالذي رأيته بعيني أو بالذي سمِعته بأذني؟ فقال: إن كنت رأيت شيئًا، فاحْكِه، فقال: سمعًا وطاعة يا أمير المؤمنين، إني سافرت في بعض السنين من بلدي هذه، وهي مدينة بغداد، وصُحبتي غلام ومعه جراب لطيف، ودخلنا المدينة، فبينما أنا أبيع وأشتري، وإذا برجل كردي، ظالم متعدٍّ، قد هجَم علي وأخذ مني الجراب، وقال: هذا جرابي، وكل ما فيه متاعي، فقلت: يا معشر المسلمين، خلِّصوني من يد أفجر الظالمين، فقال الناس جميعًا: اذهبا إلى القاضي، واقْبلا حكمه بالتراضي، فتوجَّهنا إلى القاضي، وأنا بحكمه راضي، فلما دخلنا عليه، وتمثَّلنا بين يديه، قال القاضي: في أي شيء جِئتما؟ وما قضية خبركما؟ فقلت: نحن خصمان إليك تداعينا، وبحكمك تراضينا، فقال: أيُّكما المدعي؟ فتقدَّم الكردي، وقال: أيَّد الله مولانا القاضي، إن هذا الجراب جرابي، وكل ما فيه متاعي، وقد ضاع مني ووجَدته مع هذا الرجل، فقال القاضي: ومتى ضاع منك؟ فقال الكردي: من أمس هذا اليوم، وبِت لفقْده بلا نوم، فقال القاضي: إن كنت تعرفه، فصِف لي ما فيه، فقال الكردي: في جرابي هذا مرودان من لجين، وفيه أكحال للعين، ومنديل لليدين، ووضَعت فيه شرابتين وشمعدانين، وهو مشتمل على بيتين وطبقتين وملعقتين، ومخدة ونطعين وإبريقين، وصينية وطشتين، وقسدرة وزلعتين، ومغرفة وسلة ومردوين، وهرة وكلبتين، وقصعة وقعيدتين، وجبة وفروتين وناقتين، وجاموسة وثورين، ولبؤة وسبعين، ودبة وثعلبين، ومرتبة وسريرين، وقصرًا وقاعتين، ورواقًا ومقعدين، ومطبخًا ببابين، وجماعة أكراد يشهدون أن الجراب جرابي، فقال القاضي: ما تقول أنت يا هذا؟ فقمت إليه يا أمير المؤمنين وقد أبْهَتني الكردي بكلامه، فقلت: أعز الله مولانا القاضي، أنا في جرابي هذا دويرة خراب، وأخرى بلا باب، ومقصورة للكلاب، وفيه للصبيان كتاب، وشباب يلعبون الكعاب، وفيه خيام وأطناب، ومدينة البصرة وبغداد، وقصر شداد بن عاد، وكور حداد، وشبكة صياد وأوتاد، وبنات وأولاد، وألف قواد يشهدون أن الجراب جرابي، فلما سمِع الكردي هذا الكلام، بكى وانتحَب، وقال: يا مولانا القاضي، إن جرابي هذا معروف، وكل ما فيه موصوف، في جرابي هذا حصون وقلاع، وكراكي وسباع، ورجال يلعبون بالشطرنج والرقاع، وفي جرابي هذا حجرة ومهران، وفحل وحصانان، ورمحان طويلان، وهو مشتمل على سَبُع وأرنبين، ومدينة وقريتين…، وقحبة وقوَّادين شاطرين…، وأعمى وبصيرين، وأعرج وكسيحين، وقِسيس وشمَّاسين، وبطريق وراهبين، وقاض وشاهدين، وهم يشهدون أن الجراب جرابي، فقال القاضي: ما تقول يا علي؟ فامْتَلأت غيظًا يا أمير المؤمنين، وتقدَّمت إليه، وقلت: أيَّد الله مولانا القاضي، وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد الثلاثمائة، قالت: بلَغني أيها الملك السعيد أن العجمي قال: فامتلأت غيظًا يا أمير المؤمنين، وتقدَّمت إليه، وقلت: أيد الله مولانا القاضي، أنا في جرابي هذا زرد وصفاح، وخزائن سلاح، وألف كبش نطَّاح، وفيه للغنم مراح، وألف كلب نباح، وبساتين وكروم وأزهار، ومشموم وتين وتفاح، وصور وأشباح، وقناني وأقداح، وعرائس ومغاني وأفراح، وهرج وصياح، وأقطار فساح، وإخوة نجاح، ورُفقة صباح، ومعهم سيوف ورماح ملاح، وقوس ونشاب، وأصدقاء وأحباب، وخلاَّن وأصحاب، ومحابس للعقاب، ونُدماء للشراب، وطنبور ونايات، وأعلام ورايات، وصِبيان وبنات، وعرائس مجليات، وجوار مغنيات، وخمس حبشيات، وثلاث هنديات، وأربع مدنيات، وعشرون روميات، وخمسون تركيات، وسبعون عجميات، وثمانون كرديات، وتسعون جرجيات، والدجلة والفرات، وشبكة صياد، وقداحة وزناد، وإرم ذات العماد…، وميادين وإصطبلات، ومساجد وحمامات، وبناء وتجار، وخشبة ومسمار، وعبد أسود ومزمار، ومقدم وركبدار، ومدن وأمصار، ومائة ألف دينار، والكوفة مع الأنبار، وعشرون صندوقًا ملآنة بالقماش، وخمسون حاصلاً للمعاش، وغزة وعسقلان، ومن دمياط إلى أصوان، وإيوان كسرى أنوشروان، وملك سليمان، ومن وادي نعمان إلى أرض خراسان، وبلخ وأصبهان، ومن الهند إلى بلاد السودان، وفيه – أطال الله عمر مولانا القاضي – غلائل وعراضي، وألف موس ماضي، تحلق ذَقن القاضي، إن لم يَخش عقابي، ولم يحكم بأن الجراب جرابي.

فلما سمِع القاضي هذا الكلام، تحيَّر عقله من ذلك، وقال: ما أراكما إلا شخصين نَحسين، أو رجلين زنديقين، تلعبان بالقضاة والحكام، ولا تخشيان من الملام؛ لأنه ما وصف الواصفون، ولا سمع السامعون، بأعجب مما وصفتما، ولا تكلموا بمثل ما تكلمتما، والله إن من الصين إلى شجرة أم غيلان، ومن بلاد فارس إلى أرض السودان، ومن وادي نعمان إلى أرض خراسان، لا يسع ما ذكرتماه ولا يصدق ما ادَّعيتماه، فهل هذا الجراب بحر ليس له قرار، أو يوم العرض الذي يجمع الأبرار والفُجار؟

ثم إن القاضي أمر بفتح الجراب، ففتَحه، وإذا فيه خُبز وليمون، وجبن وزيتون، ثم رَميت الجراب قدام الكردي ومَضيت، فلما سمِع الخليفة هذه الحكاية من علي العجمي، استلقى على قفاه من الضحك، وأحسن جائزته”.

ومن القَصص المعاصر هذه القصة لمحمد المخزنجي: “رشق السكين”:
“لم أكن ولدًا مغفلاً وأنا منكفئ في الظل تحت تعريشة العنب أمام الدار، أجلو سكيني بقطعة صخر البازلت، وأرهف حدَّها بخليط التراب الناعم والماء، لا تلفت نظري خضرة الأوراق تكاثفت، ولا تغري لساني حلاوة الطعم تكتنزها العناقيد.

لم أكن ولدًا مغفلاً ولمعة السكين تأخذني تشفي غليلي لامتلاك سلاح؛ لأن المرء – حتى في عمر الطفل الذي كنت – لا يعدم الأعداء، فالأعور الذي حاول إيذائي وأنا أصيد القنافذ من بين المقابر في ليلة البدر، ما زال في المقابر يَكمن، والجلف الذي ألقى بي من فوق شجرة التوت وأنا أجمع من ورقها الأخضر لدود الحرير طعامًا، ما زال تحت ذات الشجرة مع ثور الساقية يدور، والولد الشِّرير الأكبر مني في العُمر وفي الجثة، والذي دأَب على قهري بالضرب وسرقة أشيائي، ما زال بي يتربص.

سكِّيني صارت جاهزةً، والمرء لا يعدم الأعداء، والتدرب على السلاح واجب، فكَّرت وقرَّرت: لتكن يا جذع شجرة العنب “شاخصًا” عليه أتدرب، ورُحت أتدرَّب: أقف على مبعدة، وأرمي بكل قوتي سكيني، تدور حول نفسها منطلقةً في الهواء، وفي لحم الجذع الطري المتماسك لشجرة العنب بطرْفها ترشق، ها هو ذا وجه الأعور يتراءى لي على الجذع، أرمي سكيني، في عينه الأخرى ترشق، يصير أعمى! وأنا بذلك أطرَب، وها هو ذا الجلف إخاله على الجذع يتسلَّق، أرشقه بسكيني، يهوي منهبدًا، فأتَهلَّل، وها هو ذا الولد الشِّرير، وكأنه من براعتي في رشق السكين صار يرتعد، يهرب مختبئًا في جذع العنبة، فأُعاجله بسكيني، يرتمي على الأرض مرشوقًا يزحف، وأنا في الهواء من فرط البهجة، أقفز وأَطير.

أطير، أطير، ثم أَهبط، وعندما تلمس قدماي الأرض في يوم تالٍ، أصفر وأشهق، أصفر من الفزع، ومن شدة الحسرة أشهق: ما كان جذع شجرة العنب غير جذع لعنبة، وأنا من كثرة رشق السكين فيه ذَبحته، آه ذَبحته.

ذبَحت الساق، فانقطع عن الأوراق والعناقيد العصير، صارت الأوراق هشيمًا أصفر تذروه الريح، فتعرَّت الأغصان، وذَبُلت – مُتعفِّنة – العناقيد، وانحسَر الظل عن رأسي، انحسر الظل؛ إذ ماتت العنبة، بينما الأعور ما زال في المقابر، والجلف تحت شجرة التوت، والولد الشِّرير يتربَّص بي ما يزال”.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.