تسجيل الدخول

الدين والدنيا والصلة بينهما

دين ودنيا
زاجل نيوز11 سبتمبر 2017آخر تحديث : منذ 7 سنوات
الدين والدنيا والصلة بينهما

د9

لا دين بغير دنيا، ولا دنيا بغير دين، وهما وسيلة إلى الآخرة والآخرة عند رب العالمين.
(2) اعرفوا العلم والدين حق معرفتهما تعرفوا الصلة بينهما وتعرفوا الصلة بينهما وبين الدنيا إن كنتم تعلمون.

الدنيا:
الدنيا فُعْلى من دنا إذا قرب، وللخليقة حياتان أولى وثانية. ولما كانت الأولى هي القربى سميت الدنيا ولما تأخرت الثانية سميت الأخرى والآخرة، وفي العرف أيضًا هي مدة الوجود الأول للخليقة أو المدة التي تقضيها الأرض ومن عليها في حيز الوجود حتى تقوم الساعة، والآخرة هي المدة التي لا نهاية لها بعد المعاد. والإنسان هو القيم على هذه الأرض وما فيها من الموجودات أو هو الخليفة فيها عن الله ليعمرها عمارة تؤدي إلى السعادة الحقة.

الدين:
والدين التعبد والطاعة، والمراد به الأحكام التي دان لها الناس فسمعوا وأطاعوا. وإن شئت قلت هو القواعد والنظم التي وضعت لعمارة الأرض على الوجه المشار إليه، فمن طبيعة البحث أن يتناول الخليقة الكونية أولًا ثم يتناول الأرض باعتبار أنها إحدى هذه المخلوقات من حيث مادتها وصورتها وعمارتها منذ أطوارها الأولى إلى يومنا هذا وما عليها من الخليقة وحياتها فيها والغاية منها والسعادة والشقاء اللذين هما غايتها، وهما نتاج الحياة عليها وثمرتها، ثم يتناول الكلام على الدين حقيقة ومحله وشعبه وأقسامه ونظمه التي شرعها في كل مرفق من مرافق الحياة، وموازنته بما تطلبه الفطرة البشرية من هذه النظم وبيان وجوه الحياة، والموازنة بينها وبين الدين وما ينجر إليه البحث من الفرعيات وما لا بد منه من الاستطرادات حتى تنتهي إلى إثبات تلك المقدمات التي صدرنا بها المقال. وليعلم الناس أن الله ما شرع الدين إلا نظاما للدنيا وما جعل الدنيا إلا لتكون سبيلا إلى الآخرة وأن الآخرة هي المصير إليه وأن الدين والعلم إذا صحا تلاقيا في صلاح الدنيا وسعادتها وأيها أدى إلى غير صلاحها فليس بصحيح.

وأن الذين يفرقون بينها لا يفهمون كلا منها حق فهمه وما مثل الدنيا إلا كمثل طريق إلى مكان بعيد يحتاج سالكه إلى ضياء يسير عليه ليلا أو نهارًا فعلى ضوء الشمس نهارًا وليلا على أضواء النجوم. أو كمثل كائن حي ذي حياة وروح فالدنيا بمثابة جسمه والدين روحه والعلم حياته الناشئة عن اتصال البدن بذلك الروح، وسترى أن كل نزعة ترمي إلى فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية – على استعمال العصريين – بدعوى انحصار الدين في الثانية وبُعد الأولى عنه فأصحابها جاهلون بحقيقة الإسلام أو متجاهلون.

وسنضع الكلام في هذا البحث على أساس الاعتراف بواجب الوجود لله تعالى لا نتعرض لإثباته إلا فيما تساوقنا إليه الضرورة استطرادًا مما يتوقف عليه فهم المعنى الذي يكون بصدد من أدلة العقل والنقل وفيما عدا ذلك نضرب الذكر صفحًا عن عقيدة أولئك الذين قاموا هذه الأيام يحيون هذه البدعة الخرباء التي داستها العقول ولفظتها البصائر الحية منذ مئات القرون. تلك هي بدعة الإلحاد في الألوهية فقد أصبحت من سقط الأفكار لا تلوي على نواحيها إلا نفوس تريد أن تتسرب منها إلى وخم الإباحة ومتسوبل الشهوات فاجترأت في غفلة الحق عنها على اقتحام هذا المهلك، واتخذ أربابها إنكار الحق نجوى بينهم يتغامزون لها في ظلمات الجهالة ويتسترون لهذه الغاية بما ابتدعوا من دعوة التجديد، وتأولوا ما شاء لهم الهوى في مدلول الجديد يفرقون بينه وبين القديم، ولولا الهوى ما ضلوا أنه ليس في هذا الوجود قديم إلا الله تعالى وكل شيء سواه فمحدث. وأنت خبير بأن كل محدث متغير وكل متغير متجدد، إذ التجدد تعاقب الصور حسية أو ذهنية على جوهر من الجواهر أو معنى من المعاني وليس ذلك شيئًا يزيد عن التغيير المشار إليه.

يقول الحكماء:
إن حقائق الأشياء ثابتة، وهذا مسلم لا مرية فيه، وإنما تختلف العقول في البحث عن هذه الحقائق على سنن النظر الصادق وقواعد العلم الصحيح وهذا لعمري يتغير بتغير الأزمان والأمكنة والشعوب، فلكل زمان أثر ولكل مكان طبيعة ولكل شعب طريقة في العقل ووجهة في التفكير، فالعالم بطبيعته في تقلب وتغير وإحداث وتجديد. إنما يريدون أن يتولوجوا على العامة من باب التفريق بين الدين والدنيا وتلك نغمة تهتز لها الأفئدة وتجب لها القلوب. ولما رأوا الدنيا وحدها ليست قرنا للدين ولا تستطيع أن تهزمه في قلوب العامة والدهماء ولا عند الطبقات السليمة من العقول البشرية، وأنها متى عارضته وحدها انتصر عليها أرادوا أن يؤيدوها بنظرية لهم أخرى هي التفريق بين الدين والعلم كما فرقوا بينه وبين الدنيا وعندئذ يقف الدين بين شقي رحا فهو طائع لا محالة وإذا تم ذلك فقد انتصر جند الشهوات وتم لهم ما يبتغون. وليت شعري متى احتاج الدين والدنيا إلى النظر فيما بينهما من صلة إلا هذه الأيام إذ كانت خوائن الأعين وموائح الأنفس تتطلع إلى لذات وشهوات وقف الدين مانعًا دونها ينادي “الحلال بين والحرام بين” فهم لا يجرؤون على الجهر باقتحامها ولعل منشأ ذلك ومنبت شجرته ما كان بأرض الغرب في القرون الوسطى إذا جمد الدين هناك عن الارتقاء بالبشرية ووضعت الأغلال تحت البابوية في أعناق العقول. واتخذ أهل الدين هناك سلطان دينهم وسيلة إلى الاستبداد بالجاه والاستئثار بالثروات ودريئة يتسللون من ورائها إلى تلك اللذات، والتاريخ جد خبير بما صنعت محاكم التفتيش في تلك العصور، فلما انكشفت لأهل تلك البلاد طوايا تلك الطوائف ورأوا أن لا دين هناك ولا حفاظ عليه وإنما هو الأثرة بالدنيا ونعيمها ولم يكن لذلك الدين في نفسه من القوة ما يدافع به ما جر أهله عليه ثارت به الثوائر وعصفت به العواصف وأصبح ذلك الانقياد له حربًا عوانًا عليه وعداوة له ولأهله. ولما كان مثار النزاع بين هؤلاء وهؤلاء هو الدنيا ومتاعها؛ وكان دأب الثائرين على الدين أقل خطرًا على الحق والعمران مما فعل رجال الدين، هنالك اشتعلت بينهم العداوة والبغضاء وشبت الحروب إنكارًا وعونًا بين القبيلين كل يغني على ليلاه ويتخذ إلهه هواه لا ينشد حقًا ولا يبغي صلاحًا فما انجلت تلك المواقع إلا عن الدين سريعًا بين الخميسين والحق دفينًا بين الغرضين، وفر أهل الدين بما أحرزوا من دنياهم واستقل خصومهم بالحياة وإدارة لواليها دون أولئك المفرطين. زال ذلك الرقيب النفساني عن الضمائر ونشأت على أنقاض الحياة الدينية حياة دنيوية محضة سداها التهور في الشهوات والإمعان في اللذات بعد انحلال سلطان الكنيسة من غير أن يترك في تلك النفوس شيئًا من الفضائل والأخلاق، ولحمتها الإلحاد في الله، استمرأت مرعاه نفوس لذها الانطلاق من قيود الدين إلى فضاء تلك الإباحة.

وفي خلال هذا الطور المشحون بالعظائم الاجتماعية كان اتصال مصر “ويا أسفى” بهاتيك البلاد. ومع سنة الارتقاء والتجدد في العقل البشري لم يجد الغربيون بدّا من الانتفاع بمدنية الأندلس في دنياهم وما أدراك ما مدنية الأندلس التي وضع الإسلام أساسها، وأعلى المسلمون بناءها في تلك الديار. بلاد لبثت أحقابًا طوالًا تحت الحجر لا يؤذن للعقول فيها أن تتحرك ولا البصائر أن تستنير وإذا تطلعت إلى الدنيا تراءت لها في قبضة عامري الكنائس يرتعون فيها ويلعبون على حين يتمتع جيرانهم في الأندلس بالحرية المطلقة في عقولهم يسيمونها كيف شاءوا ويتجددون بها ما اختاروا في دنياهم: لا يستبد ملك بسوقة، ولا يستأثر غني بنعمة، ولا تنسد على ذي عقل مسالك الانتفاع بعقله، ذلك شأن أولئك الجيران إذ هؤلاء يرسفون في حياة سئمت الدين وكل ما يتعلق بالدين، وكرهت حتى التفكر فيه “وكانوا عن ذلك أيضًا ممنوعين”. وليس من المعقول أن ينبذوه ويبغضوه وألا تعنى تلك العقول بغيره من الأديان ومن قبل قد أسدل أئمتهم بينهم وبينها كل حجاب. ولو كان الدين هو منشأ النزاع لكان من السهل أن يفكروا في أديان غيرهم وكان حتمًا لو فعلوا ذلك أن يبصروا الدين الحق عند جيرانهم فيعشقوه.

ولكن منشأ النزاع هو الدنيا وقد نشأت أجيالهم على التفريق بينها وبين الدين حتى تغلغلت تلك في جميع الطبقات والأفراد فلما ظفروا بها كان من السهل عليهم الإعراض عن الدين وتناسيه. ومن يومئذ أخذ نبات المدنية هناك ينجم فيستغلظ ويستوي على سوقه ونحن من جانب آخر قد كنا وصلنا في خدمة ديننا ونشره إلى أسوأ الأحوال: جهلنا منه كل ما جاء في الدنيا غير ناهٍ عنها ولا مزهّد فيها. جهلنا أنه إنما جاء نظامًا لها وأساسًا لعمرانها – وذلك هو سره الأكبر – واتضعنا في كل ما يرجع منه إلى الآداب والأخلاق فضللنا طريق الآخرة ونحن على محجتها وآل ذلك بنا إلى الوهن والانحلال. فلما ظفروا بدنياهم من طريق ديننا وأضللناها، وعني قادتهم بأخلاقهم وأهملناها وكنا على مقربة منهم في عقائد باطلة اعتقدناها وبدع ابتدعناها. وما صح منها عندنا تعلمه عقولنا ولا تنفعل به قلوبنا فلا أثر له في حياتنا، وما كان أكبر أثره لو ذقنا أحكاما ورعيناها، هنالك اختلفت كفتا التوازن بيننا وبينهم فرجحوا وخففنا وقووا وضعفنا وذاقوا لذة العلوم الكونية فحرصوا عليها وجدوا في تحصيلها، وتفه مذاقها في أنفسنا فاستصغرنا وأغرقنا في إهمالها، ورأينا آثارها في حياتهم فتطلعنا إليها حتى انحصرت السعادة عندنا في ظواهر أسبابها فتلمسناها من غير أبوابها، واتخذنا منهاجهم وحده سبيل النجاة وتجاهلنا قوله تعالى ﴿ يعلمون ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7].

جدير بأولئك أن يتناسوا دينهم وقد رأيت ما وصل إليه بهم حاملوه وجدير بهم أن يفكروا في دنياهم إذ أخذت بلادهم تضيق عليهم وتنبو بهم عن مضارب أرزاقهم لأنهم من الإنسان والإنسان مدبر محتال. وجدير بنا بعد ما تقدم أن نتسفل في كل مرفق من الحياة ونتأخر عنهم في كل مجال.
وإذا الجهالة أعرقت في أمة
فإلى المذلة والهوان مآلها

اتصلنا بهم على تلك الحال اتصال الضعيف بالقوي والفقير بالغني، ومددنا إليهم بالسؤال أكفا طالما مدت إليهم بالنوال نحسبهم ينصحون بنا كما نصح لهم آباؤنا من قبل، ويرفقون بنا كما رفقنا بهم في مواطن الازل، ورحنا نلتمس ما بأيديهم إذ ضيعنا ما بأيدينا، ومن أتعس حالا ممن ضيع ما في يده ثم راح يتطلع إلى ما بأيدي الناس. أزجينا إلى بلادهم بعوثنا والقينا بين أيديهم بأبنائنا فكان ضربة لازب أن يتأثروا بهم ويصطبغوا بصبغهم ولا يبصروا السعادة إلا من طرقهم. ومحال أن يكونوا على غير ذلك، ونحن انما نرسلهم إليهم صغارًا، نشأ أغرارًا، ما تزودوا من حقائق دينهم بزاد، ولا استمسكوا من قومياتهم بعصام. فليس غريبا أن نرى من فتنته مظاهرهم من أبنائنا وهو لا يحس لها وجودًا ولا يشعر لها بكينونة. “والحياة غلاب” فليس من مصلحة بلادهم أن توازنهم فيها أو نوازيهم في وجه من وجوهها حتى نسد عليهم طريق الاستعمار الذي هم إليه بطبيعة العيش مسوقون ولذا هم يحاربوننا بأسلحة الفتنة ويخلبوننا بكل فاتن من مظاهر المدنية فلا يمنون على أبنائنا إلا بقشور لا تثمر في الحياة السعيدة ثمرًا ولا تعود على وجودنا إلا محوًا وضررًا واللوم علينا في ذلك كله وما هم بملومين.

انجردوا من دينهم وألحدوا فيه، فليس بدعا أن ترى بيننا من يقلدهم في ذلك الالحاد فينادي جهرة بفصل الدين من الدنيا وبالتنافي بين العلم والدين وإذا كان الدين معطلا مجهول الحقيقة في بلادنا، وتعليمه الحق مهمل في معاهدنا ومدارسنا فلا مثال للدين في نظر من يهاجر من بلادنا اليهم إلا ما يراه في تلك الاقطار. ولو صح أن الدين على نحو ما فهم لحق ألا يبوء الدين منه إلا بكل جفوة وتعاد “ومن جهل شيئًا عاداه” ولو قدر الله أن يفهم أولئك الصائحون بنا حقيقة دينهم ما لقينا منهم هذا البلاء فتجافينا ونحن أحوج ما نكون إلى الوفاق، ورضينا الشقاق ولا آفة لوجودنا غير الشقاق.
تعادينا ونحن بنو كرام
قضوا طول الحياة على وفاق
فعاد أخي على رغمي عدوي
يمد إلي أسباب الشقاق

ولئن رضوا أن ينظروا إلى حملة دينهم نظر أولئك الاقوام إلى أحبارهم ورهبانهم لم نرض – ونحن خدمتهم في الله – أن ننظر إليهم نظر الخصوم إلى أعدائهم وانما نحن وهم – وقد طالت حبال القطيعة بيننا – على حد قول القائل:
“انفك منك وان جدع”
أو قول الآخر:
ولو كل عضو راب مني قطعتُه
بقيتُ وما في الجسم مني مفصل
ولكن أداويه فإن صح سرني
وان هو أعياني فللعذر محمل

وعلى حد قوله تعالى ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125] ﴿ ادفع بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34] يا قوم ما نحن بخصومكم ولا أعدائكم. إنا نخاف انحلال وحدتنا بخلافكم، ونفزع من ذهاب ريحنا بخصومتكم، فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نستشير فيما بيننا غير العقل البريء من الهوى، وألا نسلك إلى العقل الا سبيل الرشاد “الحق أبلج والباطل لجلج” ﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون: 7]. ولا مرية ان النفوس مجبولة على حب الدنيا، جياشة الرغبات في تحصيلها ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30، 31] ولو صرف الله النفوس بالفطرة عنها ما عمرت وقد أراد عمرانها وأمر به، فعمارة الدنيا من الدين وحبها في أصلها من الدين فلننظر فيما جاءت به شرائع السماء نهيا عنها وتحذيرًا منها. لو فهمناه على اطلاقه لوجب أن يكون الشارع (تعالى) قد ناقض نفسه ووقع الخلف في أوامره ونواهيه وهذا لعمرك باطل مردود، فلا بد من حمل ذلك على تعديل الفطرة ليحول دون التهور فيها ودون طغيانها على سنة الاعتدال الواجب في كل شيء. والنتيجة أن النهي عن الدنيا في أصله لا تقول به فطرة ولم يجئ به تشريع، هذا اجمال ما بين الدين والدنيا. فهل هو والعلم متنافيان أو يتنافيان ولو في بعض الأحوال كما يدعي المدعون؟ الدين دينان: دين حق ودين باطل. والعلم في عمومه علمان. علم صحيح وعلم غير صحيح: إذ هو إما أن يتعلق بالإلهيات وما يتبعها وهي أساس الأديان الحقة وأصولها، وهذا القسم لا يجوز عقلا أن ينافي دينا إلا إذا كان أحدهما باطلا غير صحيح. وإما أن يتعلق بغير الالهيات وهو العلوم الكونية من طبيعيات ورياضيات واجتماعيات. والطبيعيات نحو علم خصوص الاشياء “الطبيعة” والكيمياء، والنظر في حقائقها سماوية كانت كعلم الفلك، أو أرضية كذينك العلمين وكعلم طبقات الأرض وعلم الحيوان وعلم النبات ونحو ذلك من فروع تلك العلوم، ولا يخفى على ذي عقل أن هذا النوع يرتبط بالإلهيات من وجه، ويرتبط بالدنيا من وجه آخر، فإذا جئته من الوجه الأول فهو من الدين، وإذا جئته من الوجه الثاني فهو من الدين أيضًا لما سنبينه من أن الدين والدنيا سواء. والرياضيات كالهندسة بأنواعها وفروعها والحساب والجبر وعلم الموسيقى وهذا النوع يرجع أولا إلى الدنيا ومصالحها وما احتيج إليه للدين منها فهو من الدين. والاجتماعيات كالتاريخ وعلم التقويم. والأدبيات في جميع فروعها، وهذه للدنيا فهي من الدين كذلك. وإذا قلنا الدين يدعو إلى الدنيا فهو يدعو إلى جميع تلك العلوم. وما تكفلت شرائع السماء ببيانه منها فإنما يؤخذ عنها، وما وكل إلى الناس فإنما يرجع فيه إلى أئمته وواضعيه. ومجمل القول أن الدين الحق ما طابق المصلحة الحقة في جميع ما جاء به من التكاليف.

والعلم الصحيح ما أبصر وجوه تلك المصلحة بمنظار العقل السليم أو جاء به الأمر الالهي الصحيح. فمحال أن يقرر الأول حكما مضرًا أو لا مصلحة فيه، ومحال أن يبصر الثاني معلوما على غير وجهه أو على وجه ينافيه. فأما أن يتعلق بالدنيا فهو لا يصل بأدواته السالمة إلى ما يفسدها أو يضل الصلاح منها والا لم يكن صحيحًا فلم يكن علما، وأقصى ما فيه أنه خطأ في النظر أو حدس وتخمين. وإما أن يتعلق بالآخرة – وإنما سبيلها الدنيا – وقد رأيت أنه لا يصل فيها إلى ضلال، فوصوله – ما دام صحيحًا – إلى الضلال في أمر الآخرة محال. وينتج من ذلك كله “أن الدين والعلم لا يتعارضان في حال من الأحوال”. وقد قرر ذلك الدكتور هيكل أستاذ السياسة فقام بعض أصدقائه يرد عليه ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9] فما بال أقوام يحاولون أن يقنعوا الناس بأن الدين معطل للدنيا أو مفوت لها وقد يدعون أحيانًا أنهما متنافيان؟. أدين الإسلام يريدون؟ وسترى أنه من ذلك منزه بريء. أم غيره يقصدون ولسنا الآن في مقام أن نبحث فيه، فله أهل يجب عليهم الدفاع عنه. وفي الحق أن الدين الذي يعطل الدنيا أو يفوت المصلحة منها أو يقف دون السعادة الحقة فيها جدير أن تنفر منه النفس الانسانية، وجدير أن تطرحه الطبيعة البشرية، وجدير أن تنبذه العقول السليمة، وجدير أن لا يكون من وحي السماء.

يا قومنا “دعوة مسمع” إن صح أن الإسلام على ما يقولون فيحق على أولئك أن يبغضوا الناس فيه، وحقيق على الناس أن يبغضوه فينبذوه. فأما والبرهان قائم على براءته من ذلك كله، وإنه لكفيل بصلاح الدنيا والآخرة وسعادتها فما أثبت التهمة على أولئك الملحدين فيه، ومن أوجب شارعه على أهله بيانه حتى يعلم الناس أنه الدين الذي لم يجئ إلا لعمارة الدنيا وتحصيل سعادتها، وإذا صلحت الدنيا فما الآخرة إلا غاية لسبيلها وثمرة لغراسها، فهو للدنيا أولًا وبالذات وللآخرة ثانيًا وباللازم. وهذا هو معنى كون الدنيا دار تكليف وعمل، والآخرة دار جزاء وخلود. الدنيا مزرعة الآخرة ﴿ فمن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]. وأنا على يقين بأن النفوس متى أبصرت سنا الحق من ذلك وبان لها وجه الصواب في دينها لم تن كل نفس ندّت عنه أن ترجع إليه وكل قلب أعرض أن يقبل عليه وعلى حكم ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾ [آل عمران: 104] أقدم بين يدي قومي مقالي هذا فإن أصبت الحق فقد أعذرت وان اخطأت فالخير أردت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.