ظهرت أصوات تنادي بتجديد الشعر العربي بما ينسجم مع متطلبات الحداثة، كانت تلك الأصوات تدعو إلى التجديد الموضوعاتي والرؤيوي، هذا ما نادت به الحركات الرومانسية بدءاً من مدرسة الديوان وصولاً إلى جماعة أبولو ومروراً برواد الشعر الحر، فنجد الشعر قد ركز على عدة أمور كثيرة منها على سبيل المثال، توظيف الأرقام في أشعارهم.
فنجد السياب يوظف الرقم (ألف) توظيفاً جميلاً، ففي قصيدة (أرم ذات العماد) يكرر كلمة الألف في أكثر من موضع:
أسرت ألف خطوة، أسرت ألف ميل؟
لم أدر إلا أنني أمالني السحر.
إلى جدار قلعة بيضاء من حجر
كأنما الاقمار منذ ألف ألف عام كانت له الطلاء.
فنجد ألف خطوة… ألف ميل هذه الزيادة المستمرة في الخطوات.. هذه الحيرة عند الشاعر في معرفة عدد الخطوات إلى أن أماله السحر إلى جدار قلعة بيضاء.
كما نجد السياب قد استعمل الرقم (ألف) في الموضع الآخر (ألف ألف) هذا التكرار الجميل في الرقم ألف جاء به حفاظاً على الوزن إضافة إلى أنه أضاف جمالية خاصة كأنما أعاد السنين إلى الزمن الغابر لأنه لو وظف رقماً آخر كأن يكون المليون لما أدى نفس التأثير الذي جاء به (ألف ألف).. ونجد السياب قد وظف الرقم ألف في قصيدة (المومس العمياء) بقوله:
وغداً بحبلك تشنقين
وغداً، وأمس وألف أمس، كأنما مسح الزمان
حدود مالك فيه من ماضٍ وأتِ
ثم دار فلا حدود
(وألف أمس) هنا يرمز للماضي السحيق وهو يرمز لاستمرارية الشنق،
و(غداً وغداً وأمس وألف أمس) هذه الكثرة والاستمرارية التي ترجع إلى الماضي السحيق البعيد وتمحو حدود كل شيء.
ونجد توظيف الرقم عند السياب في قصيدة (ليلة في العراق)
وألفى البرق أرقص ظل نافذتي على الغرفة
فذكرني بماضٍ من حياتي كله ألم
طفولتي التقية والصبر، وثيابي المفجوع تضطرم
مشاعري البريئة فيه، كيف يجوع آلاف من الأطفال ملتفة
بآلاف الخروق تعربد الريح الشتائية
بها و أظل أحلم بالهوى والشط والقمر
نجد (آلاف من الأطفال) (آلاف الخروق) وهو هنا يصور ذكرياته في العراق المليئة بالالم فها هنا آلاف الأطفال ولم يحدد الرقم (ألف ـ ألفين ـ ثلاث) وذلك لأنه أراد أن تكون الصورة في ذهن المتلقي مفتوحة وقد خصص عدد الأطفال بالحرف (من) ولكنه لم يخصص الخروق فقال (آلاف الخروق) التي تلف الأطفال.
ونجد البياتي يوظف الرقم سبعة توظيفاً جميلاً في قصيدة (الأميرة والغجري) فيقول:
سيدة الأقمار السبعة في داخله ترحل
تستخرج ياقوتاً نهاراً الأسطورة تحلم
بالنجم القطبي وفي ذاكرة الزمن الموغل
في عربات الفجر الساعين وراء المطر
(سيدة الأقمار السبعة) فنجد سيدة وملك لكن لمن؟ لأقمار! هنا تعدد في هذه الأقمار فحدد عدد الاقمار بالرقم سبعة ليميز عددها وهو لم يكتف بهذا التمييز وإنما وصفها (في داخله ترحل) هنا وصف لرحيل هذه السيدة المالكة للأقمار السبعة.
ونجد توظيفاً آخر للرقم سبعة عند البريكان وهو غير توظيف البياتي ففي قصيدة (أسطورة السائر في نومه) للبريكان يقول:
اعتاد أن ينهض حين تقرع الساعة
دقاتها السبع، ويعلو صخب الباعة
يفتح مذياعه
نجد الشاعر هنا وظف الرقم سبع توظيفاً جديداً يكاد يلفت الانتباه فقال (دقاتها السبع) وقد يكون السبب في ذلك إضافة للحفاظ على الوزن.
كذلك نجد الشاعر في هذه القصيدة يرسم سير الأحداث، ففي هذه الأحداث حلقات محكمة يتتبع بعضها بعضاً، لذلك نجد الرقم سبعة بصيغة (السبع) إحدى حلقات هذه الحكاية.
ونجد الجواهري يوظف الارقام توظيفاً خاصاً ففي قصيدة (كما يستكلب الذيب) يقول:
تسعون كلبًا عوى خلفي وفوقهم
ضوءٌ مِن القمر المنبوح مسكوبُ
ممَن غذَتْهم قوافيَّ التي رضعتْ
دمي فعندهم مِن فيضه كوبُ
مِن قبل ألفٍ عوى ألفٌ فما انتقصت
أبا المحسَّد بالشَّتم الأعاريبُ!
نجد الشاعر ذكر الرقم (تسعون) في بداية البيت وذكره بعده كلباً ربما لأنه أراد أن يذكر هؤلاء الأشخاص الحاقدين، الحاسدين الذين شتموا الشاعر بعد فضحه تحالفاً سياسياً بغيضاً نظم هذه القصيدة فقال تسعون كلباً دلالة على هؤلاء الحاقدين الحاسدين له.
أما لفظة (ألف) هنا فدليل على إمتداد تاريخي وكأنه أراد أن يقول إن هؤلاء الحاقدين لهم أسلاف سابقين فذكر قبل ألف عوى ألف.. وهذا دليل على الامتداد الجذري لهؤلاء الحاقدين فهم يعوون منذ الأزل.