لا يمكن لأي شاعر موهوب أن يوقف تدفق القصيدة إذا فرضت نفسها عليه، والإبداع الفني في الشعر نوع من السيطرة المطلقة لفكرة قصيدة كانت مختبئة في ذات الشاعر وفي واحدة من اللحظات الحاسمة تتفجر المادة الشعرية ويتحول الشاعر إلى أشبه بالحطام المبعثر فلا يتماسك إلاَّ بعد الولادة.
إن هذه اللحظة الحاسمة إما أن تجعل القصيدة مولودًا سليمًا أو آخر مُشوهًا ولا يمكن أن تسير على خطين متناقضين.
علينا أن نتعرف على الوقت الذي يمكن للنص الشعري أن يتدفق وهل له علاقة بالمحيط الراهن للشاعر أو هو نتيجة إرهاصات سابقة أو تجارب أو فكرة عاشت في سجن ثم فرضت إرادتها وتحررت ورأت النور بعدئذ؟
تلك مجموعة من الحوارات المُرتبطة بالموهبة الشعرية إذ لا يمكنك أن تُصدق المئات من القصائد التي تعرض في الدوريات الثقافية ما لم تعرف من خلال التعمق الوجداني هل هذه القصيدة صادقة مكتوبة بالدم أم مرسومة على الورق وهذه قضية من القضايا المهمة في عالمنا الثقافي.
إن أكثر الذين تبحروا في فنون الشعر تجذبهم القضايا الشكلية لكن القليلين من هؤلاء هم من يكتشفوا الغث من السمين وقد لا تنتشر قصيدة كُتبت في زمانها لكنها فيما بعد تعيد لنفسها الحياة وكأنها إنتاج هذا الزمن، والأدلة والبراهين والشواهد كثيرة، وبمجرد إمعان البصر والبصيرة تجد أمام ناظريك نصوصًا مُبهرة لو أُطلق سراحها لجعلت الكرة الأرضية تُعلن براءتها من الغث الذي سيطر على العقول.
علينا أن نعترف بأن هذا الزمن فتح الطريق أمام الكثيرين بل الملايين الذين ينتجون الشعر وكلمة (الإنتاج) مُرادفة أو متطابقة لإنتاج الدجاج أو البيض أو حتى القمصان والجوارب والألبسة الداخلية لأن المصانع تمتلك الأدوات المُصنِّعة ولا تحتاج الآلة إلى مشاعر وجدانية وبالتالي يختلط الحابل بالنابل، والمثير في الأمر أن هناك من يُروِّج للمصنوع على حساب المدبوغ والجاهز للعرض حتى لو كان خارج الزمان والمكان أي البعيد كل البعد عن التجربة الصادقة.
أُريد أن أضرب أمثلة لشعراء محليين تأتيهم لحظة الولادة الشعرية وهم يقودون سياراتهم فيشعرون بالارتباك الطبيعي ويضطرون إلى إيقاف السيارة في مكان بعيد عن الضجيج ويبحثون عن أي ورقة وقلم يُدونون بداية النص حتى على أوراق المناشف ويشعرون بالراحة أنهم قبضوا على رأس العمل، والبعض منهم يفقد البداية فيشعر بالقلق لكنهم بعد فترة يجدونها وتبدأ مرحلة الإلهام وهذا ما يُسمى الصدق لأن الكثيرين لا يكترثون بما أسلفت ذكره ويعتقدون أن الشعر كأي طبلة أو مزمار تضربه فيحدث صوتًا وتنفخ فيه فينتج إيقاعًا.
لكن هناك من يتلقون التوجيهات بالكتابة فلا يجدون أي صعوبة في الإنتاج فيسترخون على الأرائك الوثيرة ويُطلقون زر ماكينة الإنتاج فتقدم لهم الكمية المطلوبة وفقًا لأي بحر شعري أو قافية موسيقية.
مثل هذا الإنتاج يخضع لسوق المضاربات وهو يسير كما تتحرك العملات الصعبة وأحيانًا يقفز وفي الواقع يهبط، والشعر من هذا القبيل تسيَّد الإلهام واستبد به.