بقليل من الابتعاد المؤقت عن شؤون الأدب والفن، الذي يتّخذه بعضنا نوعا من الأفيون الفكري، للمشاغلة قليلا عما يحدث في عالمنا العربي، الهائم بين الماء والماء، يصحو المرء، قليلا، ليسأل نفسه سؤالاً كافراً: ما نفع الأدب والفن في عالمنا العربي الذي يحتضر، وقد علّمونا في المدارس: قلمُ الأديب بغير سيفٍ مِغزَلُ؟ ولكننا منذ أيّام المدارس ما نزال نجادل في أي الشاعرين أبلغ، وأي الرأيين أفضل، وأفعل التفضيل ما تزال قائمة في آرائنا في الآداب والفنون، حتى صارت الكتابات النقدية أشبه بالخصام منها بالنقد، وما نزال نسهر جرّاها ونخصم. وكان من شأن سُباتنا الفكري أن رفض بعضنا كلام الشاعر الذي رأى، وأدباء روما يسمون الشاعر: الرائي. وما يزال الشاعر عندنا “هو الذي رأى منذ أيام كَلكَامش إلى أيام نزار، الذي وصفنا بصراحة جارحة: نقعُد في المساجد/ تنابلا ًكسالى/ نشطِّر الأشعار أو نؤلف الأمثالا/ ونشحذ النصرَ على عدوِّنا/ من عنده تعالى. والنتيجة التي لا يستطيع عاقل إنكارها هي هذا التلخيص العلقَم: لم يَدخل اليهود ُمن حدودنا/ لكنّهم تَغلغلوا كالنمل من عيوبنا. والعيوب هي الفتحات الضيقة، غير المنظورة في الغالب، مما يوجد في جرار الماء أو خوابي الغلال. ألم يحدث هذا في بلادنا هذه الأيام، وهو ما رآه شاعرُنا الذي راح ينادي من زمن غير بعيد: “متى يُعلنون وفاة العرب؟”.
ولكن، إزاء هذا السُبات الفكري، المتدثِّر بقشرة الحضارة، ما الذي فعله، أو حاول أن يفعله، أصحاب الشأن في بلادنا العربية، من باب مقاومة هذا الوضع اللاطبيعي، هذا العدوان على حياة البشر وطبيعتها؟ ربما كان أول أمثلة المقاومة ضد هذا الشر الذي بدأ يتغلغل من حدودنا هو ثورة 1936 في فلسطين. كان المقاوم العربي الفلسطيني لا يملك سوى “بارودة” عصملية، ثقيلة الوزن على الكتف. لكن هذا كان هو الممكن. ولابد من المقاومة بالممكن حتى يتيسر الأفضل. وعلى الرغم من الضحايا، كان الإيمان بالوطن وحُبّ الأرض والتاريخ العريق هو الذي يخفف ثقل البارودة على أكتاف المقاومين، وكان الممكن لدى العدو أكبر بكثير ما لدى المقاوم العربي الفلسطيني، تدعمه قوة استعمارية كبرى ذات شعارات طنّانة عن الحرية وحقوق الإنسان، قادت جميعا إلى حرب عام 1948. هنا تحرّك بعض أصحاب الشأن في بلادنا، فاشترى بعضهم أسلحة فاسدة، تطلق نيرانها إلى الخلف. وأرسل بعضهم رجالا أشاوس، أبلوا بلاءً حسناً وكادوا أن يُطبقوا على رقبة العدو. لكن أولي الأمر في بلادنا أوقفوهم: “ماكو أوامر” جلجلة خبيثة بقيت أصداؤها تتردد إلى اليوم، وتحزّ في القلب.
وثمّة أمثلة من المقاومة ضد عدو الوطن، أو المحتلّ الوطن، يحدِّثنا التاريخ عنها في بلاد مثل ألمانيا وبولندا واليونان وايطاليا وغيرها من البلاد الأوروبية. ففي ألمانيا بين 1933 يوم برز آدولف هتلر، النمساوي الأصل، وبين سقوطه عام 1945 وانهيار فلسفته ونظام حكمه القائم على التعصّب القومي، ومحاربة ذوي الأصول غير الجرمانية الصرف، نشأت حركات مقاومة شرسة في ألمانيا ضد هتلر والنظام النازي. كانت تلك المقاومة تمتلك الكثير من السلاح، إما بالشراء من المصانع الألمانية، أو حتى بالسرقة أحيانا من مخازن الجيش. كما كان أفراد المقاومة، على تنوّع قدراتهم ومهاراتهم في استعمال السلاح، يجمعهم أمرٌ واحد هو محبّة الوطن واستعدادهم للتضحية في سبيله. كانت الإمكانات بيد المقاومة الجرمانية أفضل، تنوعا وعدداً، مما لدى غيرهم من المقاومين في أقطار أخرى. وهذا مما لا يقارَن مع ما لدى المقاومين في فلسطين مثلا، أو في اليونان أو إيطاليا. وتبقى الحماسة مع الاندفاع والتضحية هي الإمكان الأكبر من السلاح عند المقاومين، في شتى أنواع المقاومة. كانت المقاومة الألمانية جماعات متفرقة لم تفلح في تكوين جبهة مقاومة سياسية موحّدة للقيام بانقلاب ضد النازي. لكن كان لديها إمكان اغتيالات لزعماء النازي والمتعاونين معهم. كانت المقاومة الألمانية متنوعة في أعضائها، رجالاً ونساءً، وشيبا وشبّانا، وحتى من رجال الدين. كانت المقاومة بالسلاح وبجمع المعلومات عن العدو وخططه لتوجيه نشاط المقاومين.
وقد وصل ذلك إلى محاولة اغتيال هتلر نفسه وعدد من أتباعه، ولو أن بعض تلك المحاولات لم تنجح، ومنها محاولة اغتيال الفوهرر. لكن الدافع للمقاومة لم يتوقف، والهدف في التخلص من الطاغية أو المحتل لم يتغير.
أما في فرنسا فقد كانت مقاومة الاحتلال النازي لفرنسا وحكومة فيشي المتعاونة مع الاحتلال هي الهدف الرئيس للمقاومة الفرنسية الأكثر تنظيما وتنوعاً. كان هدف المقاومة إضعاف قوة المحتل بكل وسيلة ممكنة، وذلك بين حزيران/يونيو 1940 وتشرين الثاني/نوفمبر 1944. كان الممكن بيد المقاومة الفرنسية يمتد بين استعمال السلاح بأنواعه وبين مساعدة قوات الحلفاء خلف خطوط القتال، وقطع خطوط الكهرباء والمواصلات لإحباط تحرّكات العدو الجرماني. فقد كان المقاومون الفرنسيون يُخفون جنود الحلفاء ممن يسقط في المعارك أو الإنزال خلف خطوط العدو، وبخاصة عند تقدم الحلفاء في نورمندي في 6 حزيران/يونيو 1944.
وقد كان النشاط الصحافي والإعلامي هو الإمكان الأقوى لدى المقاومة الفرنسية من غيره في ألمانيا أو البلاد الأوروبية الأخرى. فقد كانت المطابع والصحف تعمل في الخفاء، وتحت الأرض، وتوزع المنشورات لتوجيه الناس والمقاومين بخاصة، بغرض إحباط أنشطة العدو بأية طريقة ممكنة.
أما في فلسطين، فقد بدأت المقاومة للمحتل الإسرائيلي تقوى وتشتد، وبخاصة بعد نكبة حزيران/يونيو 1967، إذ شكلت جماعات من المسلحين الفلسطينيين نوعا من الامتداد لثورة 1936. بدأت المقاومة بجماعات متفرقة ما لثبت أن توحّدت في منظمة التحرير الفلسطينية، قوامها مقاتلون بالسلاح وبالتدريب على استعماله. كان الممكن بيد المقاومة الفلسطينية قدر من السلاح، لكن الأقوى كان التصميم على محاربة العدو. وقد تصاعدت المقاومة في فلسطين حتى اكتسبت هُويّة سياسية اعترفت بها الدول العربية، فلم يعُد بإمكان الغرب أو إسرائيل تجاهلها. وإلى جانب القتال بالسلاح واصطياد جنود العدو كانت الأهازيج الشعبية الفلسطينية هي الممكن الذي يثير الهمم عند أهل البلاد، إلى جانب الشعر من أعمال شعراء المقاومة الفلسطينية مثل محمود درويش وسميح القاسم. كان الشعر هو “الممكن” الكبير بيد المقاوم الفلسطيني. وقد برزت إمكانات “طريفة” أخرى مثل التحليق بطائرة بسيطة التركيب تحمل المقاوم إلى مناطق قريبة في الأرض المحتلة، يهبط منها ليهاجم أفراد العدو وعلى غير توقع. والامكان الآخر الذي ظهر في أيدي الأطفال والشباب أولاً، ثم امتد إلى الفلسطينيين، رجالاً ونساء، من جميع الأعمار، هو قذف الحجارة على جنود العدو وآلياته، ولاحقاً استعمال المقلاع في قذف الحجارة، التي لم يقصِّر في استعماله حتى المُقعَد في كرسيِّه المتحرك، باليد، وليس بالبطارية الكهربائية التي لا يقوى على امتلاكها المقاوم المقعَد. وربما كان “أحدث اختراعات” المقاوم الفلسطيني إطلاق الطائرات الورقية باتجاه العدو، مساكنَه ومزارعَه، تحمل عبوات ناسفة تسبّبت في كثير من حرائق المزارع والأحراج في مناطق غير قريبة من الأرض المحتلة. أما استعمال الصواريخ محلية الصُنع، والطائرات المسيّرة التي تطلق من قطاع غزة على الخصوص، فقد أقضّت مضاجع العدو الصهيوني في عسقلان ومناطق أخرى بعيدة في عمق الأرض المحتلة.
تصنيع السلاح بأيدي فلسطينية، على بساطته وعدم إمكان مقارنته بما لدى العدو الإسرائيلي، المدعوم بالقوى العالمية الكبرى، هو الذي يخيف العدو، الذي يعرف جيداً ظروف الحياة القاسية في فلسطين المحتلة. إنه التصميم مع الحماسة لمقاومة العدو الصهيوني، بالممكن والمتيسر من أدوات القتال، وهو الذي يصنع الأمل لدى شعب فلسطين الذي تخلّى عنه بعض العرب، على الرغم مما لديهم من قدرات ووسائل يمكن أن تغيّر الأوضاع جوهرياً بالنسبة لفلسطين. هل يمكن لأي مثقف عربي، أو مؤمن بما قاله “الذي رأى” أن ينسى نزار: كان بوسع نفطِنا الدافق في الصحاري/ أن يستحيل خنجرا من لهبٍ ونار/ لكنّه واخَجلة َالأشراف من قريش/ وضَيعة الأحرار من قيسٍ ومن نزارٍ/ يُراق تحت أرجل الجواري….