يعيشُ سعدٌ مع زوجتِهِ في قريةٍ صغيرةٍ على شاطئِ الخليجِ العربيّ، يحترفُ سكّانُها الغوصُ لاستخراجِ اللؤلؤ. إنهم قومٌ من فقراءِ العرب، أمّا قُراهم فهي أعشاشٌ من سعَفِ النخيل، مكسوَّةً بطبقةٍ رقيقةٍ من الطين لسدِّ الفَجوات.
والغوّاصون رجالٌ أقوياءُ الأجسام، يستأجرُهم تجّارُ اللؤلؤِ عندَ اشتدادِ حرِّ الصيفِ وهو موسمُ اللؤلؤ، ويأخذونَهم في مراكبَ خاصّةٍ، ويبتعدونَ عن الشاطئِ مسافاتٍ طويلةً حيثُ المَغاصاتُ الغنيّةُ بالْمَحارِ (أي الصَدَف).
يهبِطُ الغوّاصونَ إلى أعماقِ الخليجِ فيجمعونَ المحارَ ويُخرجونَهُ إلى سطحِ المركَب، حيث يقومُ عمّالٌ آخَرونَ بفتحِهِ تحتَ رِقابةِ التاجِرِ ربِّ العمل، ويستخرجونَ ما في بعضِهِ من اللؤلؤ. وفي نهايةِ الموسمِ يوزِّعُ ربُّ العملِ على العامِلينَ أجوراً متفاوِتةَ المقاديرِ من التمرِ والأرزِّ وطحينِ القمح، مؤونةَ غذاءٍ قد تكفيهم طيلةَ العام.
مِن هؤلاءِ الغوّاصينَ سعدُ بنُ حمدان. غوّاصٌ فقيرٌ يشتهرُ بقوّة الجسمِ وطولِ البقاءِ تحتَ الماء، وبالمهارةِ في معرفةِ مَحارِ اللؤلؤ. لكنّ قدراتِهِ هذه لا تجعلُ أجورَهُ أكثرَ من زملائهِ إلا قليلاً، الأمرُ الذي يزعجُهُ بالليلِ والنهار، إذ يرى نفسَهُ يتسبّبُ للتجّارِ بالغنى ويبقى من الفقراء.
مرّةً بعد انتهاء الموسمِ وانصرافِ المراكِب، قرّرَ سعدٌ أن يقومَ بمغامرةٍ في الخليجِ ويجرّبَ حظّه. سبحَ مسافاتٍ طويلةً رغمَ وجودِ أسماكِ القرشِ المفترسة، ووصلَ إلى إحدى المغاصات. وبينَ الأملِ في العثورِ على بعضِ اللؤلؤِ والخوفِ من القرشِ المفترس، حصلَ أخيراً على مَحارةٍ شديدةِ الضخامة.
استلَّ سِكّينَهُ وفتحَ المحارةَ تحتَ الماء، فوجدَ فيها أكبرَ لؤلؤةٍ رآها أو سمعَ عنها في حياتِه، فأخرجَها من لَحمِ المحارةِ ووضعَها في جعبتِهِ وصعِدَ إلى سطحِ الماء، واتجهَ سابحاً إلى الشاطئ.
بدأ جسمُهُ يتشنّجُ وسطَ الماء، ولعلّ ذلك لاشتدادِ خوفِهِ على حياتِهِ من أسماكِ القرشِ بعدَ أن صارت الثروةُ في جعبتِهِ. وفجأةً ساعدَهُ الحظُّ باقترابِ سِربٍ من الدلافينِ أعداءِ سمكِ القرش، فانخرطَ بين الدلافينِ يسبحُ معها مقترباً من الرمل، ثمّ غادرَها سابحاً بكلِّ عزمِهِ إلى الشاطئ.
جلسَ على الشاطئِ يستردُّ أنفاسَه، ثم فتحَ الجعبةَ واطمأنَّ على اللؤلؤة، وأطبَقَ عليها بجُمعِ يدِهِ وسارَ إلى كوخِهِ متظاهراً بعدمِ الاهتمام، كي لا ينتبِهَ إليهِ أحدٌ فينكشفُ سرُّه.
في الكوخ قالَ لزوجته: هذه اللؤلؤةُ ستجعلُنا أغنياءَ وتخلّصُني من العملِ بالأجرة، فلا تخبري أحداً عنها على الإطلاق. أخاف أن يعلَمَ اللصوصُ فيسلبوني إيّاها، أو يعلمَ التجّارُ أربابُ العمل، فيتهموني بسرقتِها خلالَ الموسم.
قالت زوجتُه: بالعكسِ يا سعد. أخبِرْ جميعَ أهلِ القرية، إنهم قومُنا، وبهم تحمي نفسَكَ من اللصوصِ ومن اتّهام التجّار.
قال سعدٌ مصرّاً على رأيِه: كلاّ، كلاّ. السكوتُ أفضل. ومعَ الفجرِ أنطلقُ بها إلى مدينةِ دُبَيّ، فأبيعُها وتنتهي الحكاية.
كان في الكوخِ المجاورِ ثلاثةٌ من حُرّاسِ مركَبِ الغوص، وهم رجالٌ شَرِسونَ مسلّحونَ بالسيوفِ والخناجر، يستأجرُهم التجّارُ طيلةَ الموسم، فيحرسونَ اللؤلؤ على السفينةِ وفي الطريقِ إلى مدينة دبيّ، ثم ينتظرون حتى الموسمِ القادم.
من خلالِ السَعَفِ والطينِ سمعَ الحرّاسُ حِوارَ سعدٍ وزوجتهِ، وقرّروا أن يسلُبوه اللؤلؤة.
عندَ الفجرِ انطلقَ سعدٌ إلى مدينةِ دُبَيّ مشياً مع الشاطئ، وانطلقَ الحراسُ الثلاثةُ خلفَه بعدَ مدّة، ليمارسوا فعلَ اللصوصِ وقطّاعِ الطرق.
وعلى الشاطئِ الرمليِّ الخالي من الناس، التفتَ سعدٌ إلى ورائهِ ليطمئنّ، فرأى الحرّاس الثلاثةَ مسرعينَ إليهِ فأحسَّ بالشرِّ وبدأ يركض.
ركضَ اللصوصُ خلفَ سعدٍ وكانت مطاردةً عنيفة.
توقّفَ سعدٌ لحظةً يفكّرُ: أينَ الْمَفرّ؟ البحرُ عن يمينِهِ والصحراءُ أمامَه وعن يسارِه، واللصوصُ خلفَه بسيوفٍ مرفوعةٍ لامعة. أيقنَ أنهُ إن أعطاهم اللؤلؤةَ فسوف يقتلونَهُ لا محالَة فهو خصْمٌ وشاهِد. فألقى اللؤلؤةَ في البحرِ بكلِّ ما يستطيعُ من قوّة.
في نفسِ اللحظةِ وصلَ اللصوصُ إليهِ فقالَ: غوصوا واسترجِعوها.
قالَ أشدُّهم شرّاً وعدوانيّة: بل تغوصُ أنت وتأتينا بها، أو نقتلُك.
قالَ سعدٌ في نفسِهِ: هذا بالضبطِ ما أريدُه. وقذفَ نفسَه في البحرِ وسبح وسبح، ثم غاصَ تحتَ الماءِ وابتعدَ قدْرَ استطاعتِه.. وما زالَ يسبحُ ويغوصُ حتى وصلَ إلى قريتِه، ونادى على قومِه وحكى الحكاية.
أمّا اللصوصُ فكانوا يتابعونَهُ على الشاطئ حتى صاروا على مَقرُبةٍ من القرية. وعندَما شاهدوا اجتماعَ الغوّاصين، أدركوا أنهم قد انكشفوا فهربوا مسرعين.
وعانقَ سعدٌ رجالَ قومِهِ فرِحاً بسلامته.
قصة قصيرة اللؤلؤة
رابط مختصر
المصدر : https://zajelnews.net/?p=83778