قرر فادي باقي، مخرج فيلم “آخر أيام رجل الغد” الذي عرض في سينما متروبولس ضمن “ليلة مخصصة للأفلام اللبنانية القصيرة”، تحديد العام 1958 كتاريخ لقيام شخصية فيلمه الرئيسية “مانيفل” من الموت، وهو العام نفسه الذي شهد خلاله لبنان أزمة سياسية حادة يعتبرها البعض أول مظاهر اختلال تركيبته.
يستيقظ “رجل الغد” الآلي بعد شهر على مقتله عن طريق الخطأ على يد رئيس الجمهورية كميل شمعون في بدايات الأزمة، خلال اشتباك بالأيدي حصل داخل القصر الجمهوري (القنطاري). وأول بوادر وعيه كان كلامه بالعربية واكتسابه مشاعر وأحاسيس افتقدها في جسده المصنّع في فرنسا.
في الجسد السابق، كان كل ما في استطاعة الرجل الآلي القيام به، إعادة عدد من الكلمات المسجلة بالفرنسية، بالإضافة طبعاً إلى قدرته على الحركة والقيام ببعض المهام الجسدية، ما كان كافياً لإثارة ذهول الجماهير المحتشدة في ساحة الشهداء يوم ظهوره للمرة الأولى خلال الإحتفال بتقديمه كهدية من فرنسا (بحضور الرئيس الفرنسي شارل ديغول والرئيس اللبناني بشارة الخوري).
المسؤول عن قيامة “مانيفل” من الموت، كان أرمنياً من برج حمود يدعى فارتان أوهانيان، بث الحياة في الرجل الآلي عن طريق الخطأ بعد عبثه في قطعه وتبديلها بقطع أخرى من الآلات الموجودة في محله. وطبعاً لم يكن لأحد أن يسمع به لولا “مانيفل”، كما لم يكن أحد ليسمع بمانيفل المتحول إلى إنسان بعقل ومشاعر، لولا فارتان، طبيبه الشخصي والرجل الوحيد القادر على إصلاحه وإنقاذه من الموت مجدداً إذا اقتضت الحاجة.
بعد ولادته الثانية عاش “مانيفل” طفولته في فترة الإستراحة ما بين حربين، وهي استراحة أخذت شكل العطلة الترفيهية التي سيختبر فيها الرجل الحديدي، فن السينما وأحلام الستينات الجامحة، التي ستحوله إلى مدمن على الأضواء والحفلات الباذخة، وصديقاً للمشاهير مثل عمر الشريف واسماعيل ياسين وغيرهم.
إلا أن المشكلة الوحيدة كانت طبعاً، عدم ملاءمة جسده المعدني للرقص والكلام المتواصل، ما زاد متاعب صديقه الأرمني، الذي صار مجبراً على إصلاحه بشكل مضاعف وتلميعه وتطويره من أجل مواكبة الموضة وتطورات تلك الفترة. وازدادت الأزمة تعقيداً عندما قرر “رجل الغد”، التحول إلى بطل أفلام آكشن والعمل على فيلم بعنوان “رجال بلا قلوب” حيث يطلب من أوهانيان تطويره وتركيب رشاش على ظهره، ليصبح رجلاً آلياً مقاتلاً، وقد رفض الأرمني المشاركة في تلك اللعبة، تاركاً تدبر أمر تحولات مانيفل الحربية إلى غيره.
هي قصة متخيلة، جعلها فادي باقي تبدو حقيقية، من خلال إستدخال مانيفل في أرشيف الستينات والسبعينات، وتركيبه في مواقف متخيلة تشارك فيها رموز لبنانية وعربية من ذلك الزمن، وقد شارك في اللعبة الكاتب والمؤرخ فواز طرابلسي ممثلاً دوره، لإضفاء حقيقة على التاريخ المختلق ومبرراً وجود الرجل الآلي كـ”هدية ذات أبعاد دعوية من فرنسا، كأنها ساعة روليكس من الأب لإبنه الذي أصبح رجلاً الآن”.
العنصر الإضافي في الفيلم المصور على طريقة الـDocuFiction الواقعية، هو حضور المخرج والناقد السينمائي محمد سويد، وهو “مؤرخ بصري” يحاول تعزيز حضور “مانيفل” في صور الستينيات النمطية، بين فتيات البيكيني على الشاطئ وضجيج الملاهي الليلية، وفي أفلام الأكشن العربية الرديئة التي تحول أبطالها مع “مانيفل” إلى رجال حقيقيين في الحرب اللبنانية المندلعة في العام 1975 (محاولة المخرج إضفاء الواقعية على فيلمه من خلال التصوير، فشلت بسبب مشكلة واضحة في الصوت، لا سيما بروز أصوات بعض الممثلين المسجلة في الإستديو، منفصلة كلياً عنهم).
هو فيلم يندرج ضمن نمط “الخيال العلمي”. لكنن عوضاً عن التوجه نحو إلى المستقبل كما يفترض بأي فيلم من ذلك النمط، يتوجه إلى الماضي المؤسطر، المتحول بعد انتهاء الحرب الأهلية إلى “مستقبل مشتهى” يود اللبنانيون العودة إليه. ما يعيشه لبنان اليوم وفق هذا السرد، هو مجرد تحضير لانهياره وموته النهائي (الذي بدأ مع حرب 58)، أي التحضير لمستقبل معدوم يجعل من التخيل المستقبلي أمراً غير متاح.
تحول “حلم الغد” مانيفل إلى خردة تلفظ أنفاسها الأخيرة (تحاول المخرجة الشابة رومي ملحم، المأخوذة بصورته الأسطورية، صناعة فيلم عنه، قبل اكتشافها لاحقاً تاريخه الأسود والدموي). وهذا ما يُفهم احتضاراً للبنان، احتضار مديد بحيث أن أقصى ما يستطيعه اليوم هو الحلم بـ”العطلة الترفيهية” التي عاشها خلال طفولته “بين حربين”، وأن يرتب أرشيف ذكرياته، بينما يبعث برسائل شهرية لطبيبه الرافض إصلاحه، لسبب بسيط وهو أنه لا بدّ سيعيد الأخطاء نفسها مرة أخرى، ويشارك في حرب لا دخل له بها.