تصنف كتب السير الذاتية على أنها نوع من أنواع الأدب المخصوص لما تعرف به من دقة في نقل التفاصيل التي تتميز بها الشخصية محور الدرس، كما أنها تعتبر من صنوف القول الذي يعتمد على الوصف والأمانة في سرد الأحداث، التي قد تخفى عن القراء، وهي من الكتابات التي تلقى رواجا كبيرا عند الجمهور لما فيها من خفايا وأسرار وأيضا من حميمية قلما نجدها في بقية الأجناس الأدبية. يوصف الرئيس والكاتب والشاعر الهندي الراحل زين العابدين عبدالكلام بالعالِم الزاهد والنزيه نزاهة مطلقة، ويحظى بين الهنود بمكانة ترقى إلى مرتبة “المهاتما- الروح السامية”، التي يوصف بها غاندي حصرا. وقد حاز مكانة وطنية وعالمية عظيمة حتى لُقّب بـ”رئيس الشعب”.
يقول عبدالكلام (1931 2015-) في مذكراته “رحلتي: تحويل الأحلام إلى أفعال”، بترجمة الكاتبة والروائية والمترجمة العراقية لطفية الدليمي، “كل سنوات حياتي، وخلال كلّ التجارب التي مررتُ فيها كان الدرس الأكثر أهمية الذي تعلّمته هو أن المرء ينبغي أن يواصل الحلم في كل الأطوار المختلفة من حياته، ومن ثمّ يعمل بجدية ومثابرة في سبيل تحقيق تلك الأحلام، ونحن إذا ما فعلنا هذا فإن النجاح سيكون قريبا من التحقق لا محالة. أقول دوما للكثيرين الذين أقابلهم: الأحلام ليست ما نراه في منامنا، بل هي بالضبط ما ينبغي أن يجعلنا لا ننام أبدا!”. أضاءت المترجمة، في مقدمتها التعريفية بالكاتب والكتاب، جوانب من حياة عبدالكلام، وأشارت إلى كتاب مذكراته السابقة “أجنحة من نار” الذي نشره عام 1999، ونشِرت ترجمته العربية ضمن مشروع “كلمة” في أبو ظبي. تذكر الدليمي في المقدمة أن عبدالكلام نشر مذكراته “رحلتي: تحويل الأحلام إلى أفعال” في كتاب صغير عام 2013، ويمكن النظر إلى هذا الكتاب على أنه استذكارات جميلة لتفاصيل صغيرة لم يأت عبدالكلام على ذكرها في سيرته الذاتية المنشورة، ويستشعر القارئ، وهو يقرأها هنا، منذ البداية، العاطفة الجيّاشة التي تملأ روح الكاتب وعقله، في سياق تطرقه إلى تفاصيل أسهمت في تشكيل وعيه المبكر، وشخصيته الإيثارية ذات الطموحات الملحمية العابرة للذات، والساعية إلى تكريس الهند كقوة عظمى على الساحة العالمية.
الطابع الحميمي
تمتاز هذه المذكرات، الصادرة عن دار “المدى للنشر”، بغلبة الطابع الحميمي فيها، وتركيزها على الجوانب الإنسانية النبيلة، والتي تعدّ ضرورة لازمة تفرضها متطلبات العيش، وإدامة الحياة في البيئات الفقيرة من العالم.
ويكاد القارئ يشعر، أثناء قراءتها، برغبة عبدالكلام في تأكيد القيمة العليا للجوانب الإيثارية الرائعة التي حازها الكثير من الشخوص في حياته، ابتداء من أبيه وأمه وأخته وابن عمه، وحتى بائع الكتب في مدينة مدراس (أوْ تشيناي، وهي عاصمة ولاية تاميل الهندية المولود فيها)، وانتهاء بالعلماء الكبار الذين عمل معهم في وقت لاحق من حياته المهنية.
تصف المترجمة سمات عبدالكلام، وعظمة زهده ونزاهته ونمط حياته المتواضع حتى بعد أن صار رئيسا للهند، فهو لم يمتلك جهاز تلفاز أبدا، وكان مواظبا على النهوض مبكرا عند السادسة والنصف أو السابعة صباحا، رغم أنه يأوي إلى فراشه عند الثانية بعد منتصف الليل.
ولم تكن كل مقتنياته تتجاوز عددا من الكتب، وآلة موسيقية تسمى “الفينا” Veena كان يعزف عليها أحيانا بعض المقطوعات الموسيقية الهندية الكلاسيكية. كما كانت لديه بعض قطع الملابس إلى جانب مشغّل أسطوانات مدمجة، وكومبيوتر محمول (لابتوب)، وقد آلت هذه المقتنيات البسيطة، عقب وفاته، إلى أخيه الأكبر.
يوضّح عبدالكلام أهمية القيم الإنسانية العليا في الحياة وأسبقيتها على أيّ قيم سواها، فيكتب في هذا الشأن قائلا “من الطبيعي أن يبتهج المرء بإنجازاته العلمية والتقنية الباهرة، وقد يحصل على أعلى المراتب الأكاديمية والجوائز التي قد ترقى إلى مرتبة جائزة نوبل، وقد تنهال عليه الأموال نتيجة لأعماله البحثية أو التطويرية في حقل ما، لكن تبقى سمات الإيثارية، وكرم الروح، والعطاء، والانتباه لمعاناة الآخرين، ونبذ روح الجشع هي القيم العليا التي تمثّل مشكاة مضيئة وإلهاما مستديما للكائنات البشرية جميعها في هذه الحياة”.
ويؤكّد عبدالكلام توجهه الفلسفي الأقرب إلى النزوع العرفاني المشرب بروح التصوف النبيلة، تلك الروح التي أهّلته، بكل استحقاق، ليحوز وصف “العالِم الزاهد”. يقول “لم يكن بوسعي القبول بأنّ مدركاتنا الحسية هي المصدر الأوحد لبلوغ المعرفة والحقيقة”، ثم يمضي في توضيح فكرته قائلا “وقد نشأت مع درس أساسي يقول إن الواقع الحقيقي يكمن في مكان ما بعيدا عن العالم المادي، الذي نراه ونتعامل معه، في مملكة العالم الروحانيّ، وإن المعرفة الحقيقية تكمن في استكشاف أغوار الذات الجوّانية، أمّا خلال دراستي العليا فقد أصبحت، على نحو تدريجيّ، جزءا من عالم آخر يقوم على البراهين والتجارب والصياغات الرياضية المحكمة، لكن شيئا فشيئا تعلّمت كيف أتبيّن موضع قدمي وسط ذينك العالمين، على الرغم من أنّ جهدي الفائق استلزم سنين عديدة لكي يتبلور في حالة راسخة”.
يروي عبدالكلام في 12 فصلا جوانب تفصيلية صغيرة تكشف للقارئ مدى المثابرة والنزاهة التي جُبِل عليها كلّ من أبيه، وأمّه، وشقيقته، وأبناء عمّه، وحكماء قريته، ومعلّمه الأول، والعلماء الذين عمل معهم في بواكير شبابه، ثم لاحقا (خاصة العالم المميز فيكرام سارابهاي مهندس البرنامج النووي الهندي). يكتب عن معرفته بهؤلاء، على نحو في منتهى الحميمية، ليؤكد على فكرة أساسية مفادها أن النزاهة والمثابرة هما السمتان الأعلى مقاما في هذه الحياة.
نقرأ في ثنايا تفاصيل هذه المذكرات عن المشقّات التي كابدها والداه من أجل إعالة الأسرة، وعمله في توزيع الصحف، وهو في سن الثامنة ومطلوب منه في الوقت ذاته الذهاب إلى المدرسة. كما نقرأ عن الفشل الذي عاناه في بواكير حياته المهنية، ثم تغلبه على ذلك بمزيج من المثابرة والرؤية الحكيمة المستبصرة، وهو الذي كان يردد “ينبغي أن نتعلم من فشلنا أكثر مما نتعلم من نجاحاتنا”.
ويبقى الأجمل بين كل هذه التفاصيل الروح الإيثارية بين جميع أفراد أسرته، تلك الروح التي يطريها كثيرا، ولا يفتأ يذكّر بها على الدوام، ويراها السبب الجوهري في صيرورته تلك الشخصية المميزة ذات الوهج الإنساني المشع.
يختصر عبدالكلام رؤيته للحياة في هذه الكلمات التي جاءت في المقطع الختامي لمذكراته “العمل الدؤوب والتقوى، الانكباب على الدراسة والتعلّم، الشفقة والمغفرة، هذه كلها كانت دوما أحجار الزاوية في حياتي، وقد أمكنني من خلال هذا العمل مشاركة الناس في جذور إيماني بهذه القيم النبيلة.
وأحسب، في حقيقة الأمر، أن أيّ حياة عاشها المرء على نحو بالغ الثراء والامتلاء، وتحدّث بشأن ثرائها وامتلائها مع الآخرين، ستغدو منجما من الأفكار والمشاعر التي بوسعها إضافة المزيد من البريق على تلك الأعجوبة التي ندعوها «الحياة».
وفي سياق هذه العملية، إذا ما أتيحت لأفكاري القدرة على منح القرّاء أجنحة تمكّنهم من التحليق بعيدا وتحقيق أحلامهم، فأحسبني حينذاك قد أتممت النهوض بأعباء دوري الصغير في مخطط الحياة، والذي حمّلني إياه القدر ووضع أعباءه على كاهلي”.
تمثّل مذكرات عبدالكلام كتابا فريدا من نوعه، على الرغم من صغره النسبي، إذ يمكننا بعد قراءة هذه المذكّرات أن نتيقّن من قدرة الشخصيات القيادية ذات الصفات الكارزمية (في النزاهة والانضباط والعمل الجاد) أن تُحدِث نقلة جوهرية فارقة على مستوى الأفراد، كما الجماعات وصولا إلى الأمّة بأكملها.