تصف الكاتبة المصرية هدى توفيق كتابها الجديد «رسائل لم تعد تُكتَب» (دار الأدهم- القاهرة) بأنه متتالية قصصية. وهي تتكئ فعلاً على بعض سمات المتتالية القصصية من قبيل وجود شخصيتين فقط على مدار العمل، لكنها تستعير في الوقت عينه بعض الخصائص من أجناس أدبية أخرى مثل الرواية، فتعتمد الامتداد الزمني لتقديم حياة البطلين– أحمد ونورا – منذ تعارفهما وفراقهما واستعادة علاقتهما مرة أخرى، على نحو ما نعرف من الرسائل المتبادلة بينهما والتي لم تستغرق سوى أربعة أشهر. وهو ما يصنع مفارقة أولى بين زمن الرسائل أو لنقل زمن الكتابة والزمن الحقيقي للأحداث، والذي يبلغ سنوات عديدة، من خلال تقنية استرجاع الماضي وتأمله وإصدار أحكام متباينة حوله.
وتعتمد فكرة العمل على ما يعرف بفن الرسائل، بحيث يتبادل الحبيبان الرسائل ما بين مسقط (مكان إقامة نورا) والقاهرة أو بني سويف (مكان إقامة أحمد). وهي تتجاوز الطابع العاطفي لتطرح قضايا كثيرة تمنح العمل طابعاً معرفياً، فتتطرق إلى مفاهيم مثل الانتماء والسعادة والروح والحب ومواضيع ثقافية ونقدية، باعتبارهما أديبين، مثل الرواية التفاعلية والتناص، وهو ما يبرر آلية تضمين الشعر والآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
«أنا لا أعرف ماذا أقول لكنه البوح»؛ هذه إحدى عبارات أحمد لـ «ساندي البيضاء»، أو نورا، وهي عبارة دالّة على جماليات هذا العمل الذي هو نوع من البوح والإفضاء الذاتي والمكاشفة من خلال استخدام ضميري المتكلم والمخاطَب. وهذا ما يجعل من صوت المرسِل – ولا أقول السارد- صوتاً استبعادياً للمروي عليه العام؛ لأنه يتوجه بخطابه إلى شخصية محدَّدة، وهي إن لم تكن محايثة له في المكان، فهي متوحدة معه وجدانياً، حيث يراها في كل شيء. ويُمكن القول إنّ غلبة ضمير المتكلم تُقرِب العمل من نظرية التعبير الرومنطيقية وتفرض لغة وجدانية تتماهى مع لغة الشعر من حيث مجازيتها وتأثيراتها النافذة. «ساندي البيضاء أنا ثمل من رسائلك التي تصفين بها أهميتي في حياتك. حقاً هي تسعدني وتجعلني أنتشي لأنها تشعرني بأهمية وجودي في هذا العالم من حيث إنه يدعم وجودك. يدعم وجود ذاتي المتمردة والمتمثلة فيك» (ص51).
تكمن شاعرية هذا العمل عموماً في ذلك الإيقاع المتواتر لأسلوب النداء الذي يتصدَّر الرسائل والمراوحة بين الأساليب الخبرية والإنشائية وضميري المتكلم والمخاطَب والطرح المعرفي والاجتماعي والسياسي، وهو ما يتناسب مع شخصية أحمد الذي تشبّهه نورا بدراكولا، يمتص أحرف الكتب وكلماتها ليحصل على خلوده. البوح إذاً هو الأساس أو هو المتن الذي يتم قطعه من خلال أصوات فيروز وعبدالوهاب وعبدالحليم، في ما يشبه الصوت والصدى، أو المتن والهامش الشارح له. وهو ما يمنح البناء تركيباً متجانساً، وينأى به عن «الأحادية» أو الصوت الواحد.
في بداية هذه المتتالية القصصية، تظهر ثنائية الكتابة والحديث، فيقول أحمد لحبيبته نورا: «أعاود الكتابة لك أو بالأحرى الحديث معك مرة أخرى». هو إذاً يكتب كأنه يتحدث، ما يُغلِّب سمة الشفاهية والمحاججة والرد والتوضيح والاعتذار، وغير ذلك ممّا يظهر في أحاديث المكاشفة واستدعاء الماضي ورسم صورة للمستقبل. وانعكس ذلك على مستويات اللغة المستخدمة التي تنوعت ما بين الفصحى– وهي المضطردة على مدار المتتالية – والعامية، بخاصة في الرسائل الهاتفية التي تعتمد الإيجاز. إنها تمزج أحياناً بين الفصحى والأغنية العامية والرسالة الهاتفية، والقَطع الذي تقوم به الأغنية ما بين كلام أحمد ورسالة نورا، مما يوحي بالبهجة والترقب. والرسالة على بساطتها لها تأثير السحر في نفس العاشق، ولها أيضاً طاقة الشعر التي تهيمن على المتتالية كلها. وثمة ما يسمى بالمحاكاة الأسلوبية، بمعنى أنها تقترب من أسلوب الرسائل القديمة على مستوى المفردة والتركيب ونمط الدعاء والتقديم والتأخير: «جعلت فداك… ليس من أجل اختياري هواك أقصيتني ولا على ميل إلى صداقة دوني عاقبتني ولا لبغضي حرمتني ولكن لشيء لا أعلمه».
هل «نورا» هي هدى توفيق؟ كان هذا هو همّ النقد قديماً، أن يفتش عن الكاتبة ويترك الكتابة. هذا لم يعد يعني أحداً، فكل بطلة فيها قليل من ذات الكاتبة أو كثير، وليس أدلَّ على ذلك من أن نورا قد أتمَّت سابقاً رواية «بيوت بيضاء» بتوقيع هدى توفيق.
بوح وجودي في رسائل هدى توفيق التي «لم تعد تُكتَب»
رابط مختصر
المصدر : https://zajelnews.net/?p=14171