منذ استقلالها عن الإتحاد السوفيتي سعت كازاخستان جاهدة لإستعادة ماضيها العريق، معتمدة في ذلك علي التطورات الكبيرة التي حدثت منذ الإستقلال، حيث استمدت كازاخستان قوتها الدافعة من التنوع الثري في البلاد، فمن بين قوميات العالم التي يبلغ عددها ألفي قومية دينية وعرقية، تضم كازاخستان 130 قومية منهم، ومن ثم تأتي في المرتبة السبعين علي مستوي العالم من حيث التنوع القومي والعرقي والديني، ولذلك يعرف عن كازاخستان ثقافة الإنفتاح والتسامح من أوجه عديدة، ويأتي العمق الحضاري الكبير للشعب الكازاخي في مقدمتها الذي كان دافعاً وعامل إلهام لحالة التطور والرقي التي سارت عليه البلاد منذ الإستقلال.
شكلت سهوب كازاخستان الشاسعة والغنية بمواردها الطبيعية بيئة خصبة للحياة عليها منذ فجر التاريخ، وتشكيل مجتمع قوي عرف حياة الترحال علي تلك السهوب باعتبارها وطناً أكبر لكل الكازاخ يتنقلون عليها، ولم تكن وظيفة تلك السهوب الشاسعة توفير الكلأ والمراعي الوفيرة لثروة الكازاخ الحيوانية من الأغنام والماشية، بل كانت تلك السهوب ساحة خصبة للمواهب الكازاخية التي أبدعت في مختلف مناحي الإبداع الفكري والأدبي والثقافي، فشكلت هذه المواهب الخصوصية الإجتماعية للقومية الكازاخية.
تسابق الحكماء والأدباء والعلماء في صناعة التراث الكازاخي، وتناقلت الأجيال المختلفة تلك الكنوز الفكرية والثقافية والإبداعية بشكل شفهي، إلي أن جاء أيقونة الأدب الكازاخي آباي كونانباي بتسجيل ذلك التراث الملحمي حتي يظل بعيداً عن أيدي العابثين، خاصة بعد أن تعرضت كازاخستان لفترات عصيبة من الهيمنة أرادت خلالها القوي الإستعمارية محو الهوية الكازاخية وتذويبها، لكن التراث الكازاخي كان ومازال عصياً علي التذويب فقد حفره الأجداد في ذاكرة الأمة، وتناقلته الأجيال جيلاً بعد جيل.
لقد أكسبت حياة السهوب القاسية أبناء الكازاخ قوة في الجسم والعزيمة معاً، فتسابقوا في تعلم مهارات ركوب الخيل وفنون القتال والدفاع عن النفس، حتي صارت سهوب الكازاخ موطن القادة الأقوياء العظام الذين استطاعوا أن يحافظوا علي هوية الأمة وتأسيس دولتهم القوية “دولة خانات الكازاخ” قبل خمسمائة وخمسون عاماً، ولم يقتصر دور قادة الكازاخ علي بسط نفوذهم وسيطرتهم علي منطقة السهوب، بل خرجوا بسلاحهم وما اكتسبوه من مهارة وقوة فأسسوا دولاً قوية سادت وهيمنت وتصدت للأعداء بفضل حنكة وذكاء هؤلاء القادة العظام، والذين يأتي في مقدمتهم السلطان العظيم الظاهر بيبرس سلطان مصر والشام.
امتدت سهوب كازاخستان بمدنها وقراها علي مفترق طرق الثقافات العظيمة المحيطة بها لقرون طويلة، وقد تركت الحضارات الفارسية والصينية والسلافية والأوروبية بصماتها علي المجتمع الكازاخي وتقاليده المحلية البدوية، فانعكس كل ذلك علي حياة الكازاخ الحديثة، حيث يجمع المجتمع الكازاخي اليوم ما بين الحداثة وبين المحافظة علي التقاليد وتراث الأجداد، حيث تعد الهوية الكازاخية نتاجاً لكل من هذه الثنائية والتأثيرات الثقافية الداخلية والخارجية المعاصرة.
بالرغم من التطورات الكبيرة في قطاعات العلوم والتعليم والإقتصاد خلال الحقبة السوفيتية، فقد تم تقييد تطور اللغة والثقافة الكازاخية والوعي بالذات القومية والفكر السوفيتي الذي أفضي في النهاية إلي حرمان الشعوب من أن تتمتع في المستقبل بهوياتها المستقلة، وكانت آسيا الوسطي وكازاخستان في القلب منها التي ازدهرت تاريخياً من علاقاتها المتبادلة مع الدول والشعوب المجاورة لها، كانت منعزلة بشكل كبير طيلة الحقبة السوفيتية عن العالم الخارجي والتي امتدت إلي سبعة عقود.
نظرا لنمط الحياة القبلية الرعوية، فإن الكازاخ احتفظوا بملاحمهم القبلية من خلال النقل الشفهي. لذا كان لزاماً عليهم تنمية كم هائل من الذكريات من أجل المحافظة على رصيد كاف من تاريخ تلك القبائل. فوطنهم الذي دمج القبائل الرحل الكازاخستانية من مختلف الأصول، نجح في الحفاظ على ذاكرة أصول تلك العشائر. فالكازاخي سواء ذكراً أو أنثى يجب عليه أن يحافظ علي شجرة النسب بما لا يقل عن سبعة أجيال ويمسى هذا النظام “سجري”، وهي مأخوذة من العربية “شجرة”، ونظام الزواج الكازاخي هو تباعدي، أي يحرم الزواج بين الأفراد ذو القرابة الواحدة حتى سبعة أجيال. فالزواج القبلي، يحسمه أصل الأب.
ورغم الحياة المدنية التي تعيشها كازاخستان بعد الإنتقال إلي نظام الإستقرار وبناء المدن والتطور الحضاري، والإنتقال للعمل في مهن مختلفة لم تكن موجودة من قبل كالعمل في التجارة والعمل الحكومي، وغيرها من الأعمال المدنية، لكن ما زال الكازاخ يحتفون بعاداتهم وتقاليدهم في مختلف شئون حياتهم الاجتماعية، كالسؤال عن أصل الشخص عند الزواج، ومن أي القبائل عند التعارف مع بعضهم البعض. وإن أصبح حالياً ضرورة أكثر من تقليد ، فلا يوجد حاليا عداء أو صراع بين القبائل وبعضها البعض. وبغض النظر عن الأصل فانهم يعتبرون أنفسم أبناء وطن واحد وأمة واحدة.
قاد دولة خانات الكازاخ عدد من القادة العظام، يأتي في مقدمتهم جانيبيك خان وكيري خان، بورينديق خان، قاسم خان، ماماش خان، بويداش خان، توجيم خان، خاك نزار خان، شيجي خان، توكل خان، عاصم خان، سالقام جانجير خان، تاوكي خان، أبيلاي خان، كينيساري خان، جيتي جارجي خان، يسيم خان.
أما الكازاخ الذين حملوا علي عاتقهم مشعل الحضارة والتنوير، ليس في أرض السهوب الشاسعة وحسب، بل من امتد صيته واسهاماته إلي المحيط الإقليمي والعالمي، فحفرت أسماءهم في صفحات التاريخ، سواء في متخصص في علوم الشريعة الإسلامية، ومنهم بيكيت- أتا، خوجة أحمد يسوي، مبشر الطرازي، أو في مجال العلوم والفلسفة والذين يأتي في مقدمتهم أبو نصر الفارابي، يوسف خاص حاجب، آباي كونانباي، محمود الكاشغري، مختار أويزوف، أولجاس سليمانوف، وفي الآداب والفنون برزت أسماء عديدة منهم، جامبول جاباييف، جوسباك إيموتوف، إلياس ايسينبيرلين، كورمانجازي، شاكين أيمانوف، رحيمجان أوتارباييف.
ترك الكازاخ تراثاً عريقاً مازال شاهداً ويحكي للأجيال علي عظمة الحضارة الكازاخية العريقة، منها ضريح العالم بيكيت- أتا، ضريح خوجة أحمد يسوي، موقع تيان شان الغربي، سارياركا، نقوش تامغالي، المجمعات القديمة في شرق كازاخستان. هذا إلي جانب التراث غير المادي من الفولكلور والمطبخ الكازاخي، والأزياء الوطنية، هذه الحضارة العريقة جعلت من السهوب الكازاخية الشاسعة واحة للتنوع والتسامح.
شكل التاريخ والحضارة الكازاخية امتداداً طبيعياً لنهضة كازاخستان الحديثة، وخاصة بعد استقلال البلاد عام 1991، حيث استطاعت خلال سنوات الإستقلال تطوير الجغرافيا الكازاخية، ووضع دستور جديد للبلاد، وتشييد العاصمة “نورسلطان”، إلي جانب التطور الإقتصادي والسياسي، وتحديث الوعي، إلي جانب الإنجازات الكبيرة في السياسة الخارجية، الأمر الذي جعل كازاخستان تتبوأ مكانة عالية ليس في محيطها الإقليمي وحسب، بل وفي المستوي الدولي أيضاً.
كازاخستان…العمق الحضاري
رابط مختصر
المصدر : https://zajelnews.net/?p=107756