كان للكتاب والمثقفين نصيب كبير من قمع الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، حيثُ عانوا من التضييق على الحريات والاعتقال المباشر على مرّ السنوات، وهو ما دفع الكثير من الكتاب الذين خاضوا تلك التجربة المريرة إلى تدوينها في صيغة عمل أدبي، سواء عبر مقالاتهم، أو في كتب يوميّات، أو أعمال روائيّة وقصصيّة، وهو ما مهّد لظاهرة أدب السجون.
في ملفنا هذا نستضيف مجموعة من الكتاب من دول عربيّة، جلّهم ممن خبروا ظروف الاعتقال في الزنازين لسنوات، ونستمع إلى وجهة نظرهم حيال هذه الظاهرة التي باتتْ جليّة وبدأتْ منذ سنوات تأخذ مساحة في عالم الكتابة.
1-مفيد نجم (كاتب سوري): ثنائيّة الضحية والجلاد
صمتت الرواية السورية طوال عقود عن تجربة السجن السياسي التي عاشها عشرات الآلاف من السوريين ودفع الكثيرون منهم حياتهم ثمنا لها ناهيك عن الفظاعات التي كانت تحدث داخل هذه السجون التي امتدت لسنوات طويلة. والمفارق أن بدايات هذه التجربة في الرواية السورية كانت على يد مجموعة من الكتاب الذين عايشوا فصول هذه التجربة الرهيبة وخبروا تفاصيل معاناتها المروعة. لقد كانت هذه التجارب هي المغامرة الأولى في الكتابة عند أغلب هؤلاء الكتاب لذلك كان من الطبيعي أن تعاني من ثقل الحمولة السياسية فيها وأن تكون أقرب إلى الشهادات على هذا التاريخ الأسود لديكتاتورية ما زالت تواصل فعل الإبادة للحياة السياسية ولكل صوت يهدد وجودها العنفي.
إن قراءة أغلب هذه الأعمال تضعنا أمام ثنائية الضحية والجلاد رغبة في فضح حجم الإجرام الكبير المرتكب داخل هذه السجون المغلقة على جحيم عالمها، ولذلك هناك بعد واحد اشتغلت عليه هذه الأعمال، ما جعل كثيرا من جوانب التجربة الوجودية والإنسانية والسياسية والروحية تغيب قليلا أو كثيرا عنها. هذه القضية هي التي جعلتني أتردد كثيرا في كتابة تجربتي الطويلة. السؤال الملح: هل كنا مجرد سجناء سياسيين أم كنا حيوات إنسانية تواجه مصيرها المرعب على جميع المستويات السابقة إضافة إلى التباينات الشخصية والاجتماعية والسياسية؟ لكن قبل هذا وبعده، هل تتشابه هذه التجارب على المستوى الشخصي والسياسي أم ثمة تباينات قد تكون أحيانا مؤلمة جعلت هذا العالم ينطوي على كثير من التجارب وأشكال القوة والضعف عند هذه الشخصية أو تلك؟ من هنا ظل هذا القلق يلاحقني حتى بعد سنوات من نشر تجربتي الأولى “أجنحة في زنزانة”، وعلى الرغم من محاولتها الخروج على الثنائيات وعمليات التنميط وجدتني أعيد كتابته من جديد علني أسد ما وجدته فيه من نقص على مستوى المعالجة والغوص في دواخل الشخصية وعلاقتها بالمكان والزمان والذاكرة.
إن ما يغفر لهذه الأعمال انشغالها الكبير بثنائية الضحية والجلاد أنها كتبت وسط ظروف سياسية عاصفة وفي واقع ينوء بثقل الفظاعات التي ارتكبتها وما زالت ديكتاتورية محمية دوليا، لذلك على الرواية الجديدة أن تذهب بعيدا في استجلاء عمق هذه التجربة بمضامينها المركبة والمعقدة. هناك من حاول الانتحار أو خرج مريضا نفسيا وهناك من حاول إنقاذ نفسه منذ بدايات التحقيق وهناك من كان ملحميا في تحمله للفظاعات التي لم تنل من عناده. كل هذا جعلني في تجربتي أحاول أن أجسد صورة الجسد العاري في مواجهة شرطه الرهيب والصراع الدرامي الذي يعيشه في مواجهة هذا الواقع المرعب.
2- هاشم غرايبة (كاتب أردني): تجارب شخصية حيّة
أدب السجون العربي تجلى في الشعر، والسرد الروائي، والسيرة الذاتية، والنصوص القصصية… ولا ننسى المرويات الشفوية التي ترقى لمستوى الحكايات المؤثرة لتجارب مساجين يتناقلها الناس.. وكما في كل ميدان نستطيع تمييز الغث والسمين. العميق والضحل، التقليدي والمجدد. لكنه أدب صادر في معظمه عن تجارب شخصية حية ومشاعر انسانية عميقة، قدمت للأدب وللحياة وللبشرية ما يسهم في دحر الظلم والظلامية، وتعزيز الانحياز لرقي الإنسان وتقدمه ورفعة شأنه.
صدر لي كتابان عن تجربة السجن: “الحياة عبر ثقوب الخزان”/ دار الكندي/ إربد/ 1994، وكتاب “القط الذي علمني الطيران”/ دار فضاءات/ عمان/ 2011.
لقد كتبت عن السجن “كنزهة قسرية خارج الحياة”. فكتابة أوجاعنا هي إحدى وسائلنا لاستعادة التوازن مع المجتمع -السجن الكبير، فنحن نكابد تحت وطأة تجاربنا الخاصة، ثم نكابد في التحرر من سطوتها.
في غالبية حالات التمثيل السردي لـ”أدب السجون” لا يكتفي السارد باقتطاع جزئية زمنية لوصف وضعية إنسانية مخصوصة، بل يقوم أيضا بتصوير فضاءات قادرة على استيعاب ممكنات انتشار الكم من المشاعر والانفعالات والأفكار المستعادة منها.
الزمن ليس كليا إلا في السجن وفي المطلق الوجودي، أما في “الحياة- السرد”، فيودع في “الحنين” و”الحزن” و”الذكرى” و”الأمل” و”المستقبل” و”الماضي”، وما تستوعبه الذاكرة وترسمه المخيلة من ممارسات نادرا ما ننتبه إلى تفاصيلها خارج السجن. وتلك هي قوة السرد، أو تلك وظيفته الأصلية.
إن ما يبعث الروح في النص هي حالات التشخيص الفردية والتفاصيل المتنوعة والمختلفة بين تجربة وأخرى. هاته هي التي تَمْثُل أمام النفس، في شكل صور مجردة لا يمكن إدراك مضمونها إلا بصبها في أشياء الحياة وكائناتها، ما يمكن أن يحيل على شكل من أشكال وجودنا “الثقافي”. فجزء كبير من هوية أدب السجون ليس شيئا آخر غير ما تُصنفه العين في خانات هي في الجوهر وصف “لخارج” الذات، أو لواجهاتها البرانية. وهي صيغة أخرى للقول إننا “نُلَون” الزمن ليكون قادرا على استيعاب قيم “سجنية” تتحدد فيها طبيعة الأفعال، وردود الأفعال وممكنات السلوك في الوقت ذاته.
من هذه السجون المحلية المتنوعة الغنية بخصوصيتها تأتي أهمية وغنى “أدب السجون” الذي أنتجه كتاب عرب، فهو سرد يُخبر ويُوثق ويَنقل معرفة، و”يُسرب” انفعالات الإنسان من محيط صامت إلى فضاء النشر محملا باحتمالات تأثيره على الواقع المعاش.
3- فرج بيرقدار (شاعر سوري – السويد): أي كلام عن السجن أدنى من فظاعات الحقيقة
كتّاب كُثر، مصريون وعراقيون ومغاربة وغيرهم، كتبوا عن تجاربهم وتجارب غيرهم في السجون السياسية العربية، وكلٌّ منهم حاول مقاربة التجربة بطريقته.
أما في سورية، فلم يكن هناك سوى شذرات من مقابلات أو مقالات لكُتّاب تحدَّثوا عن تجاربهم في السجون. في حدود معرفتي، الناقصة بالضرورة، لم أقرأ، قبل القرن الواحد والعشرين، كتابًا بقلم سجين سياسي سوري يتحدث عن تجربته. أحد الأسباب هو أن الأنظمة السورية المتعاقبة منذ الاستقلال عن فرنسا حتى عهد حافظ الأسد بدرجة ما، وعهد وريثه بدرجة أوسع، لم تكن تجرؤ على التفكير في اعتقال كاتب معارض أو متمرِّد، وإن حدثت بعض الاعتقالات الاستثنائية، فإنها لم تكن لأكثر من أيام أو أسابيع.
ولكن بعد تمادي الديكتاتوريات العربية وزيادة رخصها وترخُّصها، صار من البديهي أن أكبر احتياطي سجون، وليس نفط فقط، إنما يتركز في هذه المنطقة، ولهذا أرى أن التاريخ سيرشِّحنا كأصحاب أكبر تراث عالمي في أدب السجون.
نقَّبتُ في تاريخ الديكتاتوريات السورية لأعرف إن كان هناك أدباء سوريون اعتقلوا لسنوات طويلة وكتبوا عن تجاربهم فلم أجد. قد أكون أنا أول كاتب سوري يُعتَقَل لسنوات طويلة ويكتب عن تجربته وينشر كل ما كتب. ولكن مع بدايات القرن الحادي والعشرين توالت الكتب المنشورة عن تجارب معتقلين ممن اعتقلوا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين وما بعدها.
لم أقرأ ما يخالف ذلك، وبالطبع سأكون ممتنًا لكل من يرشدني إلى أول كتاب في هذا الشأن إن وُجِد.
أنا كتبت عن تجربة 14 عامًا أمضيتها في السجن بكل ما تعنيه سجون الأسد، ومع ذلك لم أستطع تقديم السجن للقارئ بالصورة المطلوبة. كتابي عن تجربة السجن لم يكن كتابًا صغيرًا (حوالي 280 صفحة)، إلا أني لم أتمكن فيه من عرض الصورة إلا من بعض وجوهها وكمقاربة ليس إلا، ذلك أن أي كلام عن السجن هو أدنى من فظاعات الحقيقة، وبالتالي خيانة للواقع. الواقع فظيع جدًا ولا بد للغة أن تكون خوَّانة، كما أن أي صمت عن تلك الفظاعات هو خيانة أيضًا للضمير والقيم والأخلاق، ولهذا أعطيت كتابي عنوان “خيانات اللغة والصمت”.
ورغم صعوبة الإحاطة بتجربة السجن من جميع جوانبها، إلا أن الكتب التي صدرت خلال الـ 15 عامًا الأخيرة، قد نجحت أكثر من أي وقت مضى في تغطية أهم الجوانب بحدود لا بأس بها. أما تقديم الصورة المرجوّة فتحتاج إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية ومعارض وتحفيزات على الكتابة والنشر الموسَّع، وهذه كما يبدو لم يأت أوانها.
4- عبد الهادي سعدون (روائي وأكاديمي عراقي ـ مدريد): لا نملك أدب سجون مكتملًا بذاته
أعلم حجم السؤال المهم، وأعرف مقدار المعلومات الضئيلة التي بحوزتنا عنه، هذا الأدب المؤثر والمهم والذي أشبعته المرويات العالمية في كل الأزمنة، ويبقى الأدب العربي فقيرًا معدمًا فيه إلا من نماذج معدودة (أو هذا ما أظنه من خلال متابعتي وقراءاتي). السبب بطبيعة الحال أحكام وقوانين دولنا العربية في الحد من نتاج هذا الأدب وحصره في حيز ضيق إن لم يكن منعه منعًا باتًا وعدم التصريح بنشره أو تواجده في أغلب معارض الكتاب والمكتبات العامة، ناهيك عن خشية الكثير من دور النشر من نشر هذه النوعية من الآداب المهمة والمؤثرة والضرورية كجزء منا ومن منظومتنا الاجتماعية والسياسية والأدبية.
ما يثير الاستغراب هي قلتها حتى في الآونة الأخيرة التي خف فيها تسلط ورقابة الحكومات العربية بسبب اتساع المواقع الاجتماعية والطفرة الإنترنيتية الكبرى التي عبرها لم يعد المنع والرفض ممكنين إلا في ظروف معينة. مع ذلك ما أطلعت عليه في العقدين الأخيرين يمكن أن يشكل قفزة جديدة في هذه المرويات الأدبية والتي أغلبها لا تخرج عن كونها تجارب حقيقية عاشها كتابها في ذلك البلد أو غيره. نماذج عديدة منها مبثوثة في الكثير من الروايات وإن لم تكن هذه الروايات بمثابة روايات أدب السجون بصورة تامة، وهي نماذج تجدها بكثرة في الرواية العراقية الجديدة وفي الرواية السورية وذلك لوضع الدكتاتورية الذي عاشته وتعيشه هاتان الدولتان، وربما هناك نماذج أخرى قرأتها في الرواية الليبية واليمنية. في روايتي “مذكرات كلب عراقي” فصول كاملة عن ظروف المعيشة في سجون ومطمورات العراق في فترة الحكم الصدامي البغيض، دون أن تكون الرواية أدبًا خالصًا عن السجون.
من المحتم أن هناك نماذج عديدة لم أطلع عليها، ولكن الأدب الفلسطيني له باع وخبرة طويلة في تدوين الخبرات والمعيشة المرة في سجون العدو الصهيوني. ما زلت أذكر أول صدمة أدبية كانت عبر “شرق المتوسط”، المروية الروائية عن سجون الطغاة العرب من منظور سجين يساري. ولكن النموذج الروائي المهم برأيي لأدب السجون هو كتاب السيرة الروائية (القوقعة: يوميات متلصص) للكاتب السوري مصطفى خليفة، عن حياة شاب عاش أكثر من 12 سنة في سجون سورية الأسد، وهي نموذج حي عن القسوة والبلادة البشرية والعنف والتنكيل والموت المجازي الحاضر في متون المجتمع العربي ككل. هذا النموذج يكاد يحاكي الظرف نفسه في أكثر من دكتاتورية عربية. ولعل النموذج الأدبي العراقي بامتياز عن أدب السجون هي رواية “أنا الذي رأى” لمحمود سعيد عن تجربة شخصية عاشها في سجون البعث الصدامي.
السؤال الآن؟ هل هناك أدب سجون مكتمل بذاته في الأدب العربي؟ الإجابة بمرارة (لا)، وربما علينا الانتظار لفترة أطول حتى نتوصل بنماذج عالية الجودة والتجربة والتفرد في هذه النوعية السردية المهمة والجديرة بالقراءة والتمعن والتقييم.
5- المتوكل طه (شاعر فلسطيني): الشّعر والسجن
لا علاقة بين السجن والصحراء، ولكن الاحتلال الإسرائيلي- ككل محتل مهووس- اختار أن يجعل سجن “كتسيعوت” في قلب صحراء النقب! وهكذا سمح لنا المحتل، دون أن يدري، أن نرى شمس الله في انبجاسها المذهل صباحًا، وفي موكبها الجليل مساءً، وسمح لنا بغبائه أن نرى السماء السرمدية ونجومها الباسمات. هكذا سمح لنا المحتل باستعلائه وعنجهيته، نحن معتقلي الانتفاضة الكبرى عام 1987، أن نتابع حركة الغيوم القليلة التي تمر فوق خيامنا، فنحكي عن هارون الرشيد الذي امتلك مخزونَ الغيوم يومًا، وننشد ما قاله درويش عن نبيذ السحاب والنهاوند، وسمح لنا أن نتابع طيور الدوري التي تقف على السياج الفاصل بين كل خيمة وخيمة. كان هناك طائر دوري صرت أميّزه، كان كبير الحجم، كثير الحركة، عالي الصوت، جناحه مائل بعض الشيء، حتى أنه لا يبتعد كثيرًا عن خيمتنا، صار صديقنا، نطعمه ونحكي عنه ومعه، وصار له اسم مثلنا. واندفع معتقل آخر لزرع بذرة بطيخ في جوف جزرة وعلّقها على السياج لتستند عليه. صار لدينا عصفور ونبتة! هكذا هم الفلسطينيون، يحبون النبات والطيور. وكان الشَّعر يأتي هكذا أيضًا، من جوف الصحراء العميق والمديد والمخيف، ومن أشيائها القليلة والمتقشفة، من صمتها ورعبها وأسرارها، في الليل وفي النهار، كان يأتي الشَّعر، من غناء المعتقلين عن البيت المُضاء البعيد، والموجة ذات الرائحة الأليفة، والبيدر الذي استحق الحصاد، ومن الحقل الذي يقطر عسلًا في الظهاري الّلافحة، من الأمهات المنتظرات اللاتي يغزلن الحزن والدمع بالصوف، من أجل إبن لا تدرى في أي سجن هو.
كان الشّعر يأتي، لأن سحنات الجنود الذين يقفون على البوابات والأبراج العالية، كانت مغطّاة بالزجاج والأقمشة السوداء، بدون أسماء ولا نكات ولا ذكريات، ولكن بأسلحة لها رائحة الكبريت والأحماض والموت!
كنت أتسابق مع سجّاني على جسدي، الذي يعتقد أنه نقطة ضعفى، فيما كنت أفرد بساط الشّعر الطائر، أعلو وأكبر وأمتدّ، أطير لأرى أيامي القادمة، أبنائي الذين سأنجبهم، كتبي التي سأنشرها، المدن التي سأزورها، العربات التي ستحمل المحتل بعيدًا عن وطني. كان السجّان يضغط على ما يعتقد أنه ضعفي، بالضرب مرّة، وبالحبس الانفرادي مرّة، بالغاز أو بالجوع أو بالتخويف. أما أنا، فأذهب إلى قصيدتي، أسمّي أشيائي وأرتبها، أكتشف أن لي ذخرًا لا ينتهي من النماذج العظيمة التي لا تتكرر. كانت القصيدة تتحدّر منّي لأكتشف أَنني أبني قصيدتي على ملايين القصائد التي قيلت بالعربية، فأفرح بأنني أعلى من سجّاني ومن سجنه، وأن قصيدتي مثل صحراء النقب، أكبر من أن تُمتلك، وأكبر من أن تُدرك أو يُسبر غورها العميق.
وكما في غناء المعتقلين أو صلواتهم أو تكبيراتهم، في مواجهة اقتحام الجنود، الذي كان يتكرر، فقد فعلت مثلهم أيضًا. ففي اقتحام ما، هجم هؤلاء ببنادقهم وعصيهم وخراطيم الغاز، وأقنعة الزجاج وصفارات الاستنفار التي دوّت في أرجاء المعتقل، كُنّا عُزَّلًا من كل شيء، ولكننا كنا نكتب، وكنا نُنسّق فيما بيننا المواقف النضالية والسياسية، كنا ندير شؤوننا ونتصل بالخارج بطرق كثيرة، كان لنا موقف وكان لنا رأيٌ، وكان اقتحامهم لمصادرة أقلامنا ودفاترنا ومواقفنا! لم أشعر بنفسي إلاّ وقد وقفت وسط الخيمة واندفعتُ بقصيدة مرتجلة أردُّ بها البنادق والعصي والغاز والوحشية. كانت تلك أول مرة أقول فيها الشّعر مرتجلًا، هكذا، تصرفت كشاعر عربي تمامًا، منذ عمرو بن ودّ العامري وحتى يومنا هذا.
وقد نشرت تلك القصيدة في ديوان “فضاء الأغنيات” الذي كتبته تحت خيمة وبين معتقلين كانوا يشاركوني الكتابة، بما يقولون وبما يفعلون.
هناك في السجن، يشفّ الإنسان ويرقّ، ويرى في إخوانه ما لا يستطيع رؤيته خارج السجن. كانوا في معظمهم رائعين أقوياء وقادرين. كنت بحاجة إلى شجاعتهم وابتساماتهم وقدرتهم على التكيّف، كنت أرغب في أن أرى قلوبهم وألمس مشاعرهم التي كانت تقوّيني وتدعمني، ولهذا عندما كتبت عنهم، لأني أكتب عن نفسي أيضًا، في ذلك الديوان الذي دائمًا أنشدّ إليه، سكبت كل نأمة قيلت في ذلك المعتقل، ورسمت مشاعري ومشاعر زملائي وأصدقائي هناك؛ الحرية والوطن الواسع والحياة بدون احتلال، والفضاء المزدحم بالعصافير والأزهار والأطفال. احتفلت بالديوان في المعتقل معهم، واحتفلوا به معي كأنه لهم، وقام معتقل بكتابة مقدمه له، قرأها الآخرون، وأحسسنا جميعًا أن هذا الديوان هو ديوان كل المعتقلين. وفي الديوان كتبت أو كتبوا أسماء قرى فلسطين، وأسماء أشجارها وطيورها، وتحدثنا عن بيوتها ونسائها وطرقاتها وأزقتها، كنا نريد أن نسمّي وطننا من جديد.
عندما كنت هناك، تحت الخيمة، في ذلك السجن الرديء عرفت ما معنى الشِعر، وما الذي يفعله فينا.