يقتضي التكريم والتفضيل للبشريّة كلها حفظ كرامة الإنسان وحقوقه وحريته بغضّ النظر عن مكانته أو مقامه أو لونه أو لغته أو معتقده، وإنَّ ما تقوم به بعض الجماعات المتطرفة من الاعتداء على مخالفيها في المعتقد أو الدّين أو القوميّة يتنافى وكرامة الإنسان وأبسط حقوقه في الحياة، إلا أننا لا نزال نرصد ونتابع ممارسات بعض الجماعات المتطرفة في الهند، والتي تعطي لنفسها حقّ الاعتداء وممارسة العنف ضد “الآخر” من المسلمين في بلد يُوصف بأنه من أكبر الديمقراطيات في العالم، وأنها يُمثِّل أنموذجًا للتسامح والتعايش السلميّ.
ويذكر أن الإسلام هو ثاني أكبر ديانة في الهند، ويعتنقه حوالي 14.2% من السكان أي حوالي 172 مليون نسمة (وفقًا لتعداد 2011)؛ ولهذا يعترض المسلمون في البلاد على أن يُطلق عليهم مصطلح “الأقلية”، بل يؤكدون أنهم “ثاني أكبر أكثريّة في البلاد” لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات مثلهم مثل باقي سكان هذا البلد الكبير. وهذا المصطلح من المصطلحات التي سعى الأزهر إلى إزالتها من قاموس الحياة اليومية للشعوب، حيث إن استخدام هذا المصطلح ينعكس سلبًا على مقومات الحياة الاجتماعية، فهو مصطلح يحمل في طيَّاته الإحساس بالعزلة والدونية، ويمهد الأرض لبوادر الفتن والانشقاق، والبديل عنه مصطلح المواطنة الكاملة.
ومن ثمّ يؤكد مرصد الأزهر دائمًا بأن التطرّف والإرهاب الناتج عنه لا علاقة له بالأديان والمعتقدات، بل له علاقة بالأشخاص الذين يميلون إلى استخدام العنف ظنًّا منهم بأنهم يدفعون بذلك عن أديانهم ومعتقداتهم، ومن هنا أصبحت سموم التطرّف منتشرة في مجتمع الهند، وظهر وجه آخر للتطرّف باسم حماية المعتقد من تعدي “الآخر”. و”الآخر” في معظم الحوادث التي تم رصدها خلال عام 2019 كانوا من المسلمين، وذلك تحت شعار “حماية الأبقار” من الذبح أو البيع أو السرقة، إذ تركّز جماعة “حماية الأبقار” جهودها في تتبّع أنشطة المسلمين والتحريض ضدهم، حتى إن عددًا ممن اتهموا بذبح الأبقار قُتلوا بمجرد الاشتباه فيهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ذبح الأبقار واستخدام لحومها يعتبر أمرًا غير قانونيّ في ولاية “جهار خواند” الهنديّة – وفي 19 ولاية هنديّة أخرى – ولكن يُسمح بالذبح المقيَّد لأنواع أخرى مثل: الجاموس والثيران.
ووفق ما أعلنته منظمة حقوق الإنسان؛ فقد قُتل ما يقرب من 44 شخصًا في أعمالِ عنفٍ بسبب “الدفاع عن الأبقار” في الفترة من مايو من عام 2015 وحتى ديسمبر من العام 2018 على أيدي مجموعة “حماة الأبقار” من المتطرفين الهندوس. وبحسب ما جاء في تقرير وزارة الخارجيّة الأمريكيّة الذي صدر مؤخرًا حول الحرية الدينيّة الدوليّة؛ فإنَّ أعمال العنف الطائفيّ والاضطهاد الدينيّ، قد تزايدت ضد الأقليات في الهند تسعة أضعاف بين عامي (2015 و2017).
ومنذ ظهور جماعات حماية الأبقار في عام (2014) وانتشارها في كثير من القرى والمدن الهنديّة، تصاعدت حدّة الاعتداءات على المسلمين من قِبل بعض الجماعات الهندوسيّة المتطرفة، وسنعرض لبعض الحوادث التي وقعت على أيدي جماعات “حماية الأبقار “من المتطرفين الهندوس ضد المسلمين خلال عام 2019:
في (14/4)؛ تعرَّض رجل مسلم للاعتداء الوحشيّ من قبل مجموعة من المتطرفين في شمال شرق ولاية “آسام” بسبب مزاعم بأنه كان يبيع لحم البقر، رغم عدم وجود حظر على ذبح الأبقار أو استهلاك لحومها في هذه الولاية.
في (22/5)؛ تم الاعتداء على رجل مسلم وزوجته من قبل خمسة أشخاص من المنتمين لجماعة “حماية الأبقار” في ولاية “مادهيابرديش” الهنديّة بسبب حيازتهم للحوم الأبقار، وتم إجبار المعتدى عليهم على ترديد الشعارات الدينيّة الهندوسيّة.
في (1/7)؛ قُتل رجل مسلم بعد الاعتداء عليه من قبل مجموعة من المتطرفين الهندوس في ولاية “راجهستان” الهنديّة بتهمة الإتجار في لحوم الأبقار.
في (23/9)؛ قُتل رجل مسلم يبلغ من العمر (34) عامًا بعدما تعرّض للتعذيب على أيدي مجموعة من المتطرفين في قرية بولاية “جهاركهند”؛ للاشتباه في قيامه ببيع لحوم الأبقار، كما تعرّض شخصان آخران للتعذيب على أيدي المتطرفين مما أدى لإصابتهم بجروح بالغة.
في (23/11)؛ تعرَّض شخصان متهمان بسرقة أبقار في ولاية “كوش بيهار” في البنغال الغربية الهنديّة للضرب حتى الموت على أيدي متطرفين.
بالرغم من أن أعمال العنف هذه التي تستهدف المسلمين؛ إلا أنَّها قد لحقت بغير المسلمين أيضًا، ففي شهر أبريل من العام الجاري قُتل رجل مسيحي، وأصيب ثلاثة آخرون إثر مهاجمتهم بالقضبان الحديديّة على أيدي مجموعة مسلحة في ولاية “جهار خواند” الهنديّة، وذلك أثناء قيام مجموعة من الرجال المسيحيين بسلخ ثور في الحقل.
في الثالث عشر من يونيو من العام الجاري تم القبضُّ على (7) أشخاص وذلك في مقاطعة بارابانكي بولاية أوتار برديش، وهي أول ولاية تقوم بتسجيل قضية بموجب القانون المعدل حديثًا بمنع ذبح البقر.
جدير بالذكر أن حوادث القتل والذبح والاعتداء بسبب قضية “لحوم الأبقار” قد تزايدت بشكل كبير منذ تولي حزب “بهارتيا جانتا” الهنديّ الحكم في الهند عام 2014، ورغم أن “ناريندرا مودي” رئيس الوزراء الهنديّ قد شجب وندّد لعدة مرات مثل تلك الحوادث، وأكَّد على ضرورة التعامل بجدية معها، إلا أن الأمر لم يتعد حدود “الشجب والإدانة”، دون اتخاذ إجراءات ملموسة على أرض الواقع. ولقد طالبت “ميناكشي جنجولي”، مديرة منظمة حقوق الإنسان بجنوب آسيا، الحكومة الهنديّة بتطهير البلاد من هذه الجماعات، والكفّ عن إدانة المعتدى عليهم، وحماية الجناة.
وكشف وباء كورونا النقاب عن وجه آخر من أوجه التطرّف عندما وُجهت أصابع الاتهام في تفشّي الوباء بالبلاد نحو المسلمين، ووجدنا مجموعة أخرى من الهندوس تؤكد أن روث وبول البقر يمكن أن يكون علاجًا لفيروس كورونا، وأنه لديه القدرة على تنقية التربة عند رشّه على الأرض، وبالطبع هذا يرجع إلى معتقداتهم الهندوسيّة حيث يعتبر الهندوس الأبقار مصدر للخير والرخاء في الدنيا.
ورغم ما يضمنه الدستور الهنديّ من حرية المعتقد والإيمان والعبادة، وحظر التّمييز على أساس الدّين أو العرق أو الطبقة، إلا إن ما تقوم به الجماعات المتطرفة من الهندوس من أعمال عنف تستهدف به المسلمين وبعض الأقليات الأخرى في الهند يبعث القلق بشكل خاص، كما أنَّه يتنافى مع ما تنادي به الهند من حمايتها للحريات الدينيّة وأنـها من أكبر الديموقراطيات في العالم.
ولا شكّ أن ما تقوم به الجماعات المتطرفة من الهندوس من أعمال عنف تكون بدافع التعصب والتّمييز، وللحدّ من هذا التعصب ومقاومته، لا بد من:
– تشجيع الاندماج داخل المجتمعات التي تتّسم بالتعدّديّة وذلك بتقريب الأفراد والجماعات والشعوب المختلفة.
– بثّ روح التعاون بين أفراد المجتمع عن طريق التربية التقدميّة والتنشئة الاجتماعيّة السليمة منذ الطفولة المبكرة.
– إظهار عيوب التعصب وأضراره بالنسبة للمتعصبين أنفسهم، واستخدام وسائل الإعلام والدعاية في هذا الصّدد.
– ضرورة التزام مؤسسات الدولة المختلفة بمبدأ العدالة والإنصاف في التعامل مع قضايا المجتمع، وذلك من خلال تفعيل القوانين التي تحمي العدالة المطلقة دون أي تمييز اجتماعيّ.
– نشر المبادئ الديموقراطيّة الصحيحة بين الناس كافة لتعزيز الاطمئنان لدى الأقليات الضعيفة([1]).
ولا يخفى على الجميع الدور الفاعل الذي يقوم به مرصد الأزهر في مكافحة التطرّف والتعصب بشتى ألوانه، وذلك من خلال توضيحه المفاهيم الصحيحة للدِّين، للمسلمين وغير المسلمين في شتى بقاع العالم، وتأكيده على ضرورة ترسيخ قيم التعايش السلميّ بين أفراد المجتمع، ومحاربة العوامل التي تساهم في انتشار ظاهرة التعصب وغيرها من الظواهر السلبيّة، التي تهدّد سلامة المجتمع، وتعمل على زعزعة الأمن والاستقرار.