«هل يعقل أن مجموعة مصوتين قلائل في ولاية ويسكنسون يقررون مصير قارة أوروبا؟!». هذا التساؤل الاستنكاري قاله الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عقب فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في أوائل نوفمبر الماضي.
ما قصده ماكرون أن ولاية مثل ويسكنسون يطلق عليها ولاية متأرجحة في الانتخابات الأمريكية يمكن أن تقرر مصير فوز مرشح شعبوي متطرف مثل ترامب يمثل خطراً على أوروبا، مقارنة بمرشحة ديمقراطية مثل كامالا هاريس التي كان ينظر إليها باعتبارها من مؤيدي التقارب مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي «الناتو». طبعاً نعرف أن ترامب حسم ولاية ويسكنسون، بل فاز ببقية الولايات الست المتأرجحة.
كلام ماكرون يظل صحيحاً بالنظر إلى أن هناك رؤساء أمريكيين حسموا الانتخابات بأصوات قليلة جداً في ولايات متأرجحة كما حدث في حالة فوز جورج بوش الابن ضد آل غور في نوفمبر 2000، ورغم تفوق آل غور في التصويت بنصف مليون صوت لكن بوش فاز بفارق 537 صوتاً فقط في ولاية فلوريدا وحصل على كل أصوات مجمعها الانتخابي.
غضب ماكرون يعكس مزاجاً عاماً أوروبياً إلى حد كبير يرى أن أوروبا ينبغي أن تكون أكثر قوة واستقلالية عن أمريكا واعتماداً على نفسها، حتى لا تجد نفسها تحت رحمة هذا الرئيس الأمريكي أو ذاك.
المهم أن غالبية الدول الأوروبية ترى في فوز ترامب خبراً سيئاً من جوانب كثيرة، منها مثلاً أنه هدد أوروبا بفرض رسوم جمركية تتراوح بين 10 – 20 %، مما سيؤثر على العديد من السلع والبضائع الأوروبية التي يتم تصديرها لأمريكا خصوصاً السيارات والكيماويات.. وبالتالي ستجد أوروبا نفسها تعاني ليس فقط بسبب التعريفات الجمركية، لكن أيضاً بسبب الصراع الأوروبي التجاري مع الصين، الأمر الذي يقود إلى خلق عالم من حروب الرسوم التجارية.
ومن بين المخاوف الأوروبية أيضاً الدعم الذي تقدمه أمريكا لصناعة الرقائق الإلكترونية والطاقة النظيفة والرسوم على واردات الصلب والألومنيوم، إضافة إلى النزاع القائم منذ سنوات طويلة بين شركتي إيرباص الأوروبية وبوينغ الأمريكية في صناعة طائرات الركاب. ومن النقاط الخلافية أيضاً أن ترامب يريد الانسحاب مرة أخرى من اتفاقية المناخ والتراجع عن كل الالتزامات البيئية.
غالبية النخب الأوروبية خصوصاً في الحكومات أو المؤسسات مثل المفوضية الأوروبية أو ما يطلق عليهم «نخبة العولمة» كما يقول الخبير الفرنسي، بيير إيمانويل ديبون، يشعرون بالخوف ويرون في وصول ترامب للرئاسة تهديداً جديداً، خصوصاً أنه يتبنى العزلة الاقتصادية، وهو ما ظهر في ولايته الأولى «2016 – 2020» ويشكك كثيراً في منظمة التجارة العالمية، وبالتالي يؤثر في نمط التجارة العالمية السائد.
ترامب هدد أيضاً كل دول حلف شمال الأطلسي ومعظمهم من الأوروبيين بضرورة رفع مساهماتها المالية في ميزانية الحلف، وإلا فإن واشنطن قد تتراجع عن التزاماتها تجاه الأعضاء بل وصل به الأمر للقول إنهم إذا لم يدفعوا فإن أمريكا لن تتحرك إذا قامت روسيا بالتهامهم!!
السؤال: ما الذي سيحدث بين أوروبا وأمريكا في سنوات ترامب المقبلة؟.. هل هذه السياسة متعلقة بترامب فقط، أم تعبر عن نمط في الإدارة الأمريكية، فحينما انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، فإن إدارة بايدن لم تعد إليه، رغم أنها تعهدت بذلك أكثر من مرة لكن ما يشكك في ذلك أن ترامب انسحب من اتفاقية المناخ في حين أن بايدن عاد إليها.. وبالتالي فالسؤال الأساسي هو: ماذا ستفعل أوروبا على المدى الطويل مع مثل هذا النوع من السياسات الأمريكية خصوصاً مع ترامب؟
نتذكر أن العديد من الدول الأوروبية خصوصاً فرنسا دعت إلى وجود قوة عسكرية أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة.. قبل الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، كانت الدعوات للقوة العسكرية الأوروبية المستقلة كثيرة لكن الحرب عصفت بكل شيء، وأظهرت أن أوروبا لا تزال تحتاج القوة العسكرية، وقال الرئيس البولندي، أندريه ديدا، إن أوروبا غير قادرة على حماية نفسها من دون أمريكا.
بعض أصحاب نظريات المؤامرة يرون أن إغراق روسيا في مستنقع أوكرانيا، يصب في النهاية في مصلحة أمريكا أساساً، ويضر بأوروبا جداً، لأنه قاد إلى مزيد من الاعتماد العسكري الأوروبي على أمريكا، وحينما تم تخريب خطوط نقل الغاز الروسي عبر «نورد ستريم» إلى ألمانيا وتوقفت أوروبا عن استلام الغاز والنفط الروسي، فإن أمريكا هي التي حلت محل روسيا فوراً واستفادت بعقود غالية وطويلة الأجل مع أوروبا.. لكن الأخطر بطبيعة الحال هو إحساس أوروبا أنها في حاجة إلى الحماية الأمريكية.
السؤال بصيغة أخرى: هل ينهي ترامب شهر العسل الطويل بين أمريكا وأوروبا؟.. أغلب الظن أن ترامب سينفذ تهديده ويفرض بعض الرسوم والتعريفات الجمركية، مما سيضر بالاقتصاد الأوروبي الذي يعاني أصلاً من صعوبات كثيرة.. ورغم ذلك فإن أوروبا ليست في وارد الدخول في حرب اقتصادية مع ترامب، بل ستلجأ لمحاولة إقناعه بأن نقاط التعاون الاقتصادي أكبر بكثير من نقاط الاختلاف.
النقطة الخطيرة هي مدى قدرة أوروبا على الاستقلال عن أمريكا عسكرياً واستراتيجياً.. وبالتالي فهناك توقعات بمحاولات أوروبية لتعزيز تعاونها الدفاعي المشترك والتوجه نحو نوع من الاستقلالية، خصوصاً إذا أصر ترامب على إلزام أوروبا بدفع المزيد من الأموال مقابل الحماية العسكرية.. في كل الأحوال يبدو أن شهر العسل الطويل بين أوروبا وأمريكا معرض لبعض الرياح وربما الأعاصير.