يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}.
يتفيأ المسلمون في هذه الأيام ظلال شهر كريم – شهر ربيع الأول – ومناسبة عظيمة تتعلق بأكرم مولود، إنه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.
ففي شهر الربيع وُلِدَ رسولُ الإنسانية ورحمة الله للعالمين سيدنا محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد ورد في كتب السيرة أنه – صلى الله عليه وسلم – وُلِدَ بمكة المكرمة يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل، (وأما كونه وُلد عام الفيل فذلك مقطوع فيه، ولكن اختلفوا في اليوم والشهر، والجمهور على أنه في الثاني عشر من ربيع الأول كما نصَّ عليه ابن اسحق في السيرة، وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: «وُلِدَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عام الفيل يوم الإثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بُعث، وفيه عُرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات» (قال في البداية والنهاية: وهذا هو المشهور عند الجمهور).
لقد بزغ الفجر النبوي ليحيي هذه الأمة ويبعثها من جديد وليجعل منها أمة مميّزة، ومن المعلوم أن الأمة الإسلامية تتميّز بميزتين: هما الخيرية والوسطية، كما قال سبحانه وتعالى في الخيرية: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}، والوسطية فهي أمة الوسط (الخيار والأفضل): {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}.
الرسالة الأخيرة التي جاء بها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هي رسالة عامة، وعموم الرسالة الإسلامية جاءت به آيات وسنن، ومن الملاحظات الجديرة بالذكر أنَّ كل ما نزل يفيد عموم الرسالة كان في العهد المكي.
ولأهمية ذلك نقول: إن العهد المكي عهد اختناق الدعوة، وكان الإسلام يعاني من جبروت الوثنيين فكان القرآن يتنزل بأن هذه الرسالة ليست لِقُطْرٍ معين بل للبشرية كلها، ولو أن الآيات التي تتحدث عن عموم الرسالة تنزّلت في العهد المدني، أو أواخر أيام الرسالة لقال بعض الناس: نبي نجح في أن يفرض نفسه على قومه في شبه الجزيرة العربية فأغراه ذلك على أن يوسّع نفوذه، لكن والحمد للّه فإن عموم الرسالة وعالمية الدعوة تأكدت منذ اللحظات الأولى للدعوة في مكة المكرمة.
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً
لقد خصَّ الله سبحانه وتعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن أرسله للناس كافة دون سائر الأنبياء، حيث إن كل نبي كان مبعوثاً إلى قومه خاصة، كما جاء في القرآن الكريم عن سيدنا عيسى – عليه الصلاة والسلام -: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وعن سيدنا هود – عليه الصلاة والسلام – : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}، وعن سيدنا صالح – عليه الصلاة والسلام -: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً}، في حين أن رسولنا صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الناس كافة كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}، وكما جاء في الحديث الشريف: «فُضِّلتُ على الأنبياء بستٍّ: أعطيتُ جوامعَ الكَلِمِ، ونُصِرْتُ بالرعب ، وأُحِلَّتْ ليَ الغنائم، وَجُعِلتْ ليَ الأرضُ طهوراً ومسجداً، وَأُرْسِلْتُ إلى الخلقِ كافَّة، وخُتم بيَ النبيُّونَ» فهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، وكما جاء في الحديث: (إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتاً فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ).
ورفعنا لك ذكرك
من مظاهر تكريم الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، أنه – سبحانه وتعالى – قدْ شَرَحَ صدره – صلى الله عليه وسلم -، ووضع وزره، ورفع ذكره، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ *وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ*وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.
قال قتادة: «رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس هناك خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله».
ومن مظاهر تكريم الله تعالى لنبيه وثنائه عليه ما جاء في مطلع سورة النجم، فقد زَكَّى الله عقله، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}، وزكى لسانه، فقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}، وزكى شرعه، فقال: {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}، وزكى جليسه، فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}، وزكى فؤاده، فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، وزكى بصره، فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}، وزكاه كلّه، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
فما أكثر ما قاله – صلى الله عليه وسلم – من توجيهات في حُسْن الخُلُق والصدق والأمانة والإحسان والتمسّك بالفضائل وتجنّب الرذائل، كل هذه المعاني السامية لَوْ تَمَسَّكَ المسلمون بها لكانوا كما أرادهم الله سبحانه وتعالى خير أمة أخرجت للناس.
وعند دراستنا للسيرة النبوية الشريفة نجد أن العرب كانوا قبل الإسلام أشتاتاً متفرّقين، لا تجمع بينهم عقيدة صحيحة ولا تؤلف بينهم حكمة جامعة، تتقاسم سيادتهم دولتا الفرس والروم، حيث تتحكمان في مصائرهم وتبتزان أموالهم، وتستنزفان دماءهم وتضربان بعضهم ببعض، هكذا كانت الدنيا قبل بعثته – صلى الله عليه وسلم – قد شملتها الحيرة والبؤس، كما قال الشاعر:
أَتَيْتَ والناسُ فَوْضَى لا تمرُّ بهم
إلا على صَنَمٍ قد هَامَ فـــي صَنَمِ
فعاهلُ الرومِ يطْغَى في رعيتـه
وعاهلُ الفرسِ مِنْ كبر أصمّ عـمِ
اللهم أحينا على سنته، وأمتنا على ملته، واحشرنا في زمرته، واسقنا يا رب من حوضه الشريف شربة ماء لا نظمأ بعدها أبداً، آمين.