يمنح كتاب «حكايات القطط» (الثقافة الجديدة) قارئه شعوراً بالارتياح، وبهجة المفاجأة والفرح بميلاد كاتبة، ربما لأن الوسط الأدبي التقليدي في مصر يجهل اسم الكاتبة درية الكرداني، التي غادرت مصر قبل سنوات لتعمل في تدريس اللغة العربية في إحدى الجامعات الأميركية.
وقبل هذا الكتاب، قدَّمت كتاب «رمال ناعمة»، الذي روت فيه جزءاً من تجربتها كزوجة للفنان التشكيلي المصري حسن سليمان. لكن «حكايات القطط» يرسخ اسمها ككاتبة متميزة لا تقيم اعتباراً لسؤال تصنيف النوع الأدبي الذي تقدمه ويقوم بالأساس على إعادة الاعتبار للحكي باعتباره فناً بحد ذاته، تخلط فيه الخبرة الشخصية بالتقنية السردية، إلى جانب وعي مفرط بجماليات اللغة التي تراوح بين الشفهي والكتابي وما بين فصحى ناعمة وعامية سلسة تذكر على الفور بما قدمه الراحل يحيى حقي من منجز سردي يقوم على ترصيع لغوي فذ. غير أن الكرداني وبطاقة أنثوية حميمية تحول هذا الترصيع إلى «تضفير» حميم لمستويات لغوية متعددة.
وكما يشير العنوان، فإن الكاتبة اختارت أن تجعل القطط أبطالاً لتسع حكايات، بدت كمتتالية قصصية، تشكَّلت في بنية مركزية لعالم سردي مكتمل الأركان، يسهل تمييز علاماته المكانية والزمانية. فالمكان الرئيس هو بنايات وسط القاهرة، بينما يمتد الزمان لنحو نصف قرن. ويمكن أن نرسم فيه علامات صعود الطبقة الوسطى في بيئة كوزموبوليتانية، تتسم بالتواصل بين أجناس وثقافات مختلفة، يغلب عليها الطابع الثقافي والفني، ويبجل أبطالها فنون العمارة والتشكيل والسينما والموسيقى. إنه عالم ذاهب إلى زوال تحت أثر التحولات الاجتماعية والثقافية التي تقود إلى تدهور عام يسهل تمييزه، حتى على صعيد علاقات مصر العربية، بدءاً من توقيع اتفاق كامب ديفيد في العام ١٩٧٩ وحتى الآن. تبدأ الكاتبة بقصة عنوانها «أولغا» تركز فيها العين الساردة على القط «بينوكيو» قبيل احتضاره وهو في بيت صاحبته التي تجمع صديقاتها في سنواتهن الأخيرة بحيث يصبح الحديث وتبادل الخبرة مع عالم الرجال نوعاً من الحنين إلى زمن يصعب استرداده.
وفى قلب الحكاية توازي الكاتبة بين الاحتضارين، حين تكون الرغبة موجودة والآلة معطلة. وتكاد قصة «مدام فينا» تكمل العالم نفسه، إذ ترصد مسيرة الإيطالية «فينا» التي مارست الرقص الشرقي والدعارة منذ أربعينات القرن الماضي، وعاشت احتضارها في شقتها التي كانت تؤجَّر غرفها للأجانب وبقيت القطط جسراً لصلتها بجارها الفنان وزوجته التي كانت ترصد انطفاء هذا الجسد وضموره مع انطفاء أضواء البناية العتيقة. وفي قصة عنوانها «الفنان»، تبدو أقرب لبورتريه فنان معاصر رسم لحياته مساراً مائزاً، يتم التركيز على صور التغير الاجتماعي في المكان الأليف الذي خبره الفنان نفسه وبات أقرب إلى المجال الحيوي الذي تصعُب المغامرة بتركه أو الإفلات من سحره. لكن مأزقه الرئيس يرتبط بصراع يعيشه مع قط يشاركه الشقة التي تركها له أصدقاء وحاول تسريبه بشتى الطرق إلى أن استسلم لوجوده معه.
عالم خفي
وفى هذه القصة يمتد معنى الألفة مع المكان إلى البشر الذين صنعوا لوسط البلد التمايز المهدد بغزو فئات اجتماعية ليست لها القدرة على التكيف مع هذا العالم، وتتجلى فيها «اللماحية» التي تلجأ إليها الكاتبة لصياغة ضفيرتها اللغوية، إلى جانب قدراتها العالية في تقديم الشخوص إلى القارئ الذي يتلصص على ما تقدمه من صيغ للكشف والتقصي عن عالم خفي وهش داخل البنايات الضخمة التي تبدو مثل القدور التي تنصهر وتبرز فيها الصراعات الطبقية والثقافية. وهنا نجد حكاية «السوكندو والبدروم» التي تكمل العالم نفسه وترثيه بشجن بالغ، وهي تتابع حضور «أبو» القط السوداني؛ حارس البناية في حياة الفنان وزوجته الشابة التي نصحها الزوج بالتعاطي معه بحذر لأنه قط شوارع، يأتي دوماً من سلالم الخدم. غير أن السيدة تكسر هذا النفور، حين تلمح في سلوكيات «أبو» رغبة في النيل من ضعفها بعد انخراط زوجها في علاقات مع أخريات نظرت إليهن كقطط شوارع أيضاً. وترصد الكرداني برهافة لافتة التوتر الضمني في العلاقة: «كنتُ أشعر أن حرماني يشع رائحة تُشَم، وصلت حتى إلى قطط الشارع، فأجدها بلا سبب تتمسح بحسية في ساقي، وأنا أعبر شوارع وسط البلد الخلفية».
وعلى خلاف سردية البورتريه التي تشيع في القصص، تبني الكرداني عالماً قصصياً تقليدياً في قصة «بيت الطالبات»، يقوم على معنى المفارقة الناتجة من اختلاف صفات -ومصائر- مجموعة من الطالبات العربيات توحَّدن على تشييع العروبة ليلة رفع العلم الإسرائيلي على أول سفارة لإسرائيل في مصر، والقطط التي كانت تربيها الفلسطينية «سلام» تبدو تكئة لتداخل العلاقات بين الطالبات.
وفي قصة «نم نم» تستدعي الكاتبة موروثاً مصرياً يحيط القطط بسمات غرائبية ويضفي على سلوكياتها قدراً من الغرابة ونحن نلهث وراء حكايات «نم نم» الفتاة التي تجوَّلت في الصحراء بصحبة قططها وعادت إلى القاهرة لتراقب قِطاً في محل لبيع الأكسسوارات الفضية. وفي هذه القصة الأكثر تقليدية بين سرديات الكتاب، تؤكد الكاتبة شغفها بالمقولات الصوفية التي تنسجم مع غرائبية العالم الذي تقدمه والذي تكتمل أركانه في القصة الطويلة «بيت القطط» التي تبدو أقرب إلى نوفيلا لها عالمها المستقل عن عالم بقية القصص، لكون أحداثها تجري في بيت أرستقراطي كبير في حي خارج نطاق شقق وسط البلد. وتقدم تلك القصة تجربة شاب قبطي قدِمَ إلى البيت للعمل كمعالج لصاحبه القعيد قبيل احتضاره بصحبة ابنته وقططه التي جمعها الأب وابنته من الشوارع ومنحوها رعاية كاملة.
وتبرز شكوك عما يمكن أن يجمع الممرض الشاب بالأخت التي تظهر فجأة وتنهى يوم موت والدها وهي عارية على سريره بعد أن شيَّعته لتنتبه إلى رغباتها المقموعة وانسجامها مع هذا التعري. إنها اللحظة التي تختارها الكاتبة لتحرر أبطالها ورغباتهم من أسر الزمن المعطل الذي لا يمكن النظر إلى الكتاب من دون إدراك إصرار صاحبته على وداعه بما يستحق من حنين، ومن ثم تبدو الكتابة كتلويحة أخيرة للنسيان.