كانت الرياح تعصف، والأمطار تتساقط حينما رأى يوسف في طريق عودته من المدرسة عصفورة إلى القرب من شجرة صفصاف، وقد جمدت شدة البرودة حركاته لذلك عندما اقترب منه لم يكلف نفسه التفكير في الطيران أو التحرك من مكانه فأخذه، ثم أحاطه بقفازية الصوفين، وراح يقطع الطريق إلى المنزل، وقد تتابعت في اعماقه جملة تساؤلات : هل أذبحه؟! هل اذهب به إلى أصدقائي؟! هل أعيده إلى المكان الذي وجدته فيه؟! ظلت هاته التساؤلات تلح عليه إلى أن تذكر صديقه العزيز محمد. ومحمد هذا تلميذ مجد ومهذبا يكبر يوسف بأربع سنوات لذلك فهو يلجأ إليه في كل مسألة تهم الدراسة بالخصوص، حيث يراجع معه مايلزم المراجعة، |ويمد له يد المساعدة لفهم وانجاز التمارين المختلفة.
فما كان منه إلا أن عرج عليه والعصفور بين بديه. طرق الباب ، وفي الحال خرج إليه، حياه تحية وذ ومحبة، ثم دعاه إلى الدخول، إلا أن يوسف اعتذر ومالبث أن كشف له عما جاء به في هذا الوقت ابتسم محمد قائلا: هنيئا لك على هذا العمل النبيل الذي سخرك الله للقيام به، فما عليك ياأخي إلا ان تذهب به الي المنزل وتحاول ان تدفئه وتقدم له الاكل حتي يستعيد عافيته بعد ذلك اتركه وشأنه .
أحس يوسف، وكأن صخرة كبيرة انزاحت عن صدره.. بعد وصوله صعد إلى الحجرة الصغيرة التي توجد على سطح المنزل، هناك أدفأ العصفور، وقدم له الحب، ونزل إلى حجرته حيث غير ملابسه وأكل ما أعدت له أمه من أكل ثم قام بواجباته المنزلية.. في الصباح الباكر صعد إلى سطح المنزل فوجده يقفز من مكان إلى مكان، | وبين الحين والأخر يصدر أغرودة | جميلة. قدم له الحب من جدید، ووضع له الماء في قدح صغير، توالت الأيام ألف خلالها العصفور المكان بشكل غريب حتى انه كان كلما طار بعيدا عن البيت عاد إليه، ليجد یوسف قد أعد له ما يحتاج اليه من أكل وماء، فيشعر وقتها براحة واطمئنان وفرحة لاتوصف، واثناء التقائه بصديقه محمد كان دائما يحدثه عن ذلك الشعور الفريد الذي يشعر به وهو يحسن إلى العصفور إلى أن حان اليوم الأخير من العطلة الانتصافية، فما أن عاد صديقه ذاك من زيارته لعمته بالبادية، حتى كاد يطرق باب منزلهم.
خرج اليه محمد كعادته مبتسما، أمره بالدخول لكن يوسف أبي قائلا:اشكرك ياخي فقد جئتك في مشكلة ارجو ان تساعدني على حلها؟ أبان محمد عن اسنانه ثم قال : هيا اولاً ادخل وبعد ذلك نتعاون لعلنا نجد الحل المناسب، دخلا معاً وهناك بدأ يوسف يتحدث : جئتك ياأخي في شأن العصفور الذي وجدته في ذلك اليوم العاصف.. قبل أن يكمل يوسف قاطعه صديقه ماذا حدث؟! فهل لاقدر الله أصابه مکروه؟! رد يوسف لا هون عليك فهو لازال حيا يرزق وانه الأن يسير من حسن إلى أحسن، ولكن ما افتقدته هو الشعور بالاطمئنان والراحة والفرحة التي كنت أشعر بها مجتمعة كلما قدمت له الأكل والماء، قطب محمد جبینه وهو يقول: وما الذي تغير بالنسبة للعصفور؟! بصوت خفيض اجاب یوسف : لاشيء سوى أن عبد الرحمن ابن عمتي زارنا خلال العطلة، ولما رأه أرسل الى ساعة رجوعه إلى منزلهم قفصا جميلا، فوضعته فيه، وعلقته على احد جدران فناء الدار كما اشتريت له حبوبا خاصة بالعصافير هو الأن يحبه حبا لامثيل له وقد غدا بغرد اغاريد جميلة خصوصا في الصباح الباكر، ويقفز داخل القفص قفزات يتحرك لها ذيله ذو الريش الملون البديع، لكن مع هذا كله فقد افتقدت في تلك الشهور التغريد الذي طالما حدثتك عنه.
من غير أن يكمل كلامه حرك محمد رأسه ثم قال بصوت حزين السبب واضح يا أخي ولا يدعو الى أدني بحث او تفكير؟! التفت یوسف نحوه ثم قال في اضطراب: إلي به يا أخي محمد أرجوك ؟ اعتدل محمد في جلسته ثم راح يتكلم في هدوء : كنت يا أخي تشعر بالراحة وبالفرحة والاطمئنان، لأنك كنت بعمل السابق لاترجو مقابل ذلك شيئا فأنت يومها تضع له الحب والماء، وتترك باب البيت الصغير مفتوحا، فيغادره العصفور متی أراد، ويعود اليه متى شاء أما الآن فقد تغير الوضع، لانك أصبحت تأخذ عن عملك مقابلا يتمثل في هذا التغريد الذي تسمعه في الصباح الباكر، وهذا المنظر الجميل الذي أعطاه العصفور الموجود بالقفص لفناء منزلكم.. بصوت حزين رد يوسف: وما العمل يا أخي؟! فاسترسل محمد قائلا: الحل بسيط وهو ان تعتبر ما قمت به في حقه منذ ان عثرت عليه عملا في سبيل الله. فخلصة إذا من القفص الذي سجنته فيه، هذا هو رأیی؟ تردد يوسف قليلا لكنه سرعان ما قال: وهو كذلك يا أخي العزيز.. ولما عاد الى المنزل خرج بالقفص خفية، وعند نهاية الحي أطلق سراح العصفور، فطار مذعورا إلا أنه ما فتیء أن حلق عاليا في اتجاه غابة ظهرت اشجارها الخضراء تحت اشعة الشمس الدافئة، وكانها تدعوه الى القدوم إليها؟! تابعه يوسف بعينيه الي ان استحال الي نقطة يصعب ابصارها بالعين المجردة، حمد الله تعالي ثم عاد ادراجه الي البيت .. في الطريق شعر براحة وفرحة واطمئنان أكبر بكثير مما كان يشعر به وهو يقدم الاكل والماء للعصفور إبان تواجده في الحجرة الصغيرة الموجودة علي سطح المنزل