في فضل الزكاة
الحمد لله الذي بقدرته وحكمه وعد لم تستقيم الأمور، وبطاعته وتحكيم شرعه يسعد الناس في دنياهم، ويفلحون في أخراهم، وإن الله لمع المحسنين.
الحمد لله الذي خلق كل شيء، وأعطى كل ذي حق حقه، وجعل في أموال المسلمين حقا معلوما للسائل والمحروم، نحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، ونصلي ونسلم على نبيه ورسوله وخليله محمد خير من عرف الله وعرف حق المال فصرفه مريدا بإنفاقه وجه الله تعالى. اللهم صل وسلم وبارك على نبيك ورسول وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
يقول الحق تبارك وتعالى:
﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آل عمران: 180].
إخوة الإسلام:
لقد علمنا في خطبة سابقة شيئا عن الأحكام المتعلقة بالربا وما يجره على المجتمعات من ويلات وخراب. فلنتقهم شيئا عن الأحكام المتعلقة بالزكاة، ذلك الركن الأساسي حكم الله للثقلين ما دامت السماوات والأرض.
لنتعلم ولنعلم بعض ما يتعلق بتلك الفريضة الإسلامية التي هي من أكبر الأحكام التعبدية العملية، وأزكاها وأعظمها نفعا في حياة المسلمين أفرادا وجماعات. لقد شرعها الله للمسلمين لتكون مما يقضى به على الربا، ولتكون عوضا لهم عن هذا الداء الذي لا يستشري في مجتمع إلا أباده وأهلكه.
إن الزكاة – يا عباد الله – فريضة كانت أو صدقة بر تنطلق من قاعدة أساس في أركان الإسلام الخمسة، ويكفي ما فضلها، وطيب مشروعيتها أنها تزكية لنفس معطيها من الشح والبخل الذي ذمه الله في كتابه، وإنها تطهير لنفس آخذها من الحسد والضغينة التي تتجسد في تمني زوال النعمة عن الغير، ويكفي في عموم فضلها وجدواها في حياة الناس من المسلمين أجمعين أن فضلها وأثرها الحسن لا يقتصر في المنفعة على الطرف المعطي كما يجري ذلك في الربا، وإنما يعم نفعها المعطي والآخذ. فهي تكافل اجتماعي في حياة المسلمين جميعا، والدليل على أن إخراجها تكافل اجتماعي في حياة المسلمين أن القرآن الكريم حصر أهلها في أصناف ثمانية هم: الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب والغارمين، وفي سبيل الله وابن السبيل. ويدخل ضمن هذه الأصناف- عند بعض العلماء- من استدان ليتزوج، أو عقد العقد وأصبح المهر دينا عليه، فعطاؤه من الزكاة يعينه على تحقيق حياة اجتماعية، فعسى أن ينجب ولدا صالحا تقوى به أمة الإسلام في كل أمر، ويعطى من الزكاة طالب العلم المتفرغ لعلم يخدم الإسلام والمسلمين في كل شأن لاسيما إذا تعذر عليه الجمع بين الكسب وطلب العلم.
ومن هنا نظر الإسلام إلى تحقيق التكافل والمنفعة، فهو دين يكرم العقل ويحث على العلم، ويرفع من مكانة العلماء، ويغد العلم مفتاح الإيمان ودليل العمل المخلص الجاد، ولا يعتد الإسلام بإيمان المقلد مع قدرته على النظر، ولا بعبادة الجاهل مع قدرته على السؤال عما يجهل لقول الله تعالى سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، وليس العلم المطلوب محصورا في علم الدين وحده. فكل علم نافع يحتاج إليه المسلمون تعلمه فرض كفاية.
إخوة الإسلام:
إن إخراج الزكاة في مال المسلم يحقق مستوى معيشيا لعموم الأفراد والجماعات، وإذا علمنا الأهداف النبيلة والغايات الشريفة التي يهدف إليها الإسلام من خلال أداء الزكاة فلنعلم فيم تجب من الأموال؟ ومتى؟
في عروض التجارة زكاة، ومنها الأراضي المعدة للبيع والشراء، وفي بهيمة الأنعام بشتى أنواعها، وفي الحبوب والثمار، وفي النقود بشتى أصنافها، إذ! تم لكل حوله وبلغ نصابه بشروطه المبسوطة في كتب الففه. ومن أراد الإلمام والمعرفة بهذه الأحكام فليطلع على ما شرحه وبينه علماء الأمة لكل حكم وما أيسر ذلك.
عباد الله:
احرصوا على الإنفاق في وجوه الخير من غير سرف ولا تبذير، فإن الله محاسبكم عل كل دانق، واعلموا أن الصدقة تطفئ الخطيثة كما يطفئ الماء النار.
واعلموا – رحمكم الله – أن من أكبر الأهداف وأعظمها نفعا فيما يرمي إليه الإسلام من وجوب إخراج الزكاة العمل على أن لا تتكدس الأموال عند الأغنياء فتصبح دولة بينهم فيحرم منها الفقير والعاجز عن العمل فينجم عن ذلك هوة سحيقة في أفراد المجتمع المسلم الذي يريد له الإسلام أن يعمل ويكتسب ليصبح الجميع في أمن ورخاء ودعة ومسكنة ونجاح. فقارنوا ووازنوا مجتمعكم الذي تخرج فيه للزكاة على وجه حسن، وبين المجتمعات الأخرى التي كثيرا ما يحل بأهلها الفقر والمجاعة فيتولد الانحراف والبعد عن دين الله، وما ذلك إلا بسبب شحهم بالمال وعدم امتثالهم أمر الله فرض الزكاة في أموال الأغنياء للفقراء وساثر الأصناف الثمانية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 34، 35].
اللهم اجعلنا ممن يتلون كتابك ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، واجعلنا ممن هم للزكاة فاعلون، يعطونها عن رضا وطيب خاطر، ولا تجعلنا ممن إذا أنفقوا لا ينفقون إلا وهم كارهون. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا القول وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. كتب الخيرية للمسلمين، وجعلهم خير الناس للناس، وجعلهم أمة وسطا، أمة تتكافأ في توادها وتراحمها، لا ينال منها عدو ما نفذت شرع الله وحكمه وأدت حق مال الله. نحمده ونصلي ونسلم على رسوله الخاتم الأمين.
أما بعد:
فمن تقوى الله – يا عباد الله – أن يؤدي المسلم زكاة ماله الذي هو مال الله يعطيه من هو غاد ورائح، يعطيه المسلم والكافر؛ لأنه زهرة الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، يعطيه المسلم تكرما وتفضلا، ويعطيه الكافر ابتلاء وامتحانا ليزداد به إثما على إثم. والله وحده العليم بأحوال الناس جميعا مسلمهم وكافرهم، غنيهم وفقيرهم.
عباد الله؛ اعلموا أن وجوه الخير والعمل الصالح والبر باب واسع يلج منه المسلم حتى يبلغ عند الله أسمى الدرجات وأعلاها. على أن يعمل كل شيء مبتغيا بذلك وجه الله والدار الآخرة، وعلى أن لا يتبع زكاته وصدقته وبره بالناس، على أن لا يتبع ذلك ويبطله بالمن والأذى، والرياء والسمعة، فبن المن والأذى يقدح في كرم المسلم وجوده، ويكرهه الناس من أجل هذا الصنيع، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264].
ومن الإيذاء ومن المن الذي يبطل الصدقة وكل أعمال البر، ما يتحدث به الكثير من الناس عما صنع فلان لفلان وما أعطاه. يريد بذلك أن يرفع من مكانة العطي وهو يدري أن ذلك لا ينفعه، لأن فيه إساءة إلى الآخذ، فالسر أجمل به، وقد يكون المعطي لا يحب الحديث عن أعماله الخيرية، وما أوسع نطاق تلك الظاهرة في أوساط الناس. فاللهم اجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهك الكريم.
أيها الإخوة المؤمنون:
قد علمنا حكم تلك الفريضة الإسلامية أعني الزكاة ووجوب إخراجها، وقد علمنا ما وعد الله به المتقين المنفقين، وما توعد به الذين لا يمتثلون أمره في أداء هذه الفريضة، بل بأقوالهم على أنفسهم وعلى غيرهم يبخلون. من الخير يا عباد الله- أن نستمع إلى بعض الآثار النبوية من الأحاديث الصحيحة مما يتعلق بالترغيب والترهيب والوعيد حول من لم يخرج زكاة ماله، ويبخل بإنفاقه حتى على نفسه وعلى من يعول.
يقول – صلى الله عليه وسلم-: “ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار “أو صفائح” فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها – ومن حقها حلبها يوم وردها – إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أي “أملس” أوفر ما كانت عليه لا يفقد فيها فصيل وأحد تطأه بأخفافها، وتعضه بأفواهها كلما مر عليها أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت عليه لا يفقد منها شيء، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطأه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما الجنة وإما النار”.
عباد الله:
تذكروا وقوفكم بين أيدي الله للفصل والحساب، وتذكروا اليوم ما أنتم فيه من النعم، وأعلموا أن كل مال لا تخرج زكاته فهو كنز، وإن كان قليلا، واحذروا أن تقعوا فيما وقع فيه الكثير بأنهم يتصدقون وينفقون ويبرون كلما سنحت فرصة لذلك. إن هذه الأعمال من الخير ولكنها لا تغني عن إخراج الزكاة المفروضة.
عباد الله:
أدعو الله أن يجعلنا بالقرآن عاملين، وبتلاوته منتفعين، ولأوامره ونواهيه خاضعين، وللزكاة فاعلين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين من يهود ونصارى وشيوعيين. اللهم انصر قادة المسلمين وحكامهم وبصرهم بأمور دينهم ودنياهم واجعلهم قوة لنصر دينك يا ذا الجلال والإكرام.
وصلوا وسلموا على أشرف وأكرم هاد، واذكروا الله العلي العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.