من الصعب على أي ممثلة تجسيد شخصية جاكلين كينيدي، السيدة الأولى سابقا في الولايات المتحدة، على شاشة السينما، نظراً لأنها كانت شديدة الحرص فيما يتعلق بالصورة التي تبدو عليها أمام الجماهير.
الناقد السينمائي سام آدامز يبحث مدى النجاح الذي حققته الممثلة ناتالي بورتمان في أداء دورها كبطلة لفيلم “جاكي” الذي عُرض في مهرجان تورنتو السينمائي.
في وقت تلوح فيه إمكانية فوز هيلاري كلينتون بالرئاسة الأمريكية، تدور تكهنات حول ما إذا كان زوجها، الرئيس السابق بيل كلينتون، سيحظى بنفوذٍ غير ملائم فيما يتعلق بتشكيلة إدارتها المحتملة، حال وصولها للبيت الأبيض. لكن فيلم “جاكي” للمخرج بابلو لارَين، والذي تدور أحداثه في الفترة التالية مباشرةً لاغتيال الرئيس الأمريكي السابق جون كينيدي، يشير إلى أن تمتع شركاء حياة الرؤساء الأمريكيين بنفوذٍ سياسيٍ هو أمرٌ لا يكاد يكون جديداً، حتى إذا أدرك هؤلاء أن نفوذاً مثل هذا اتسم بفعالية أكبر، عندما كان يُمارس سراً فيما مضى.
وفي هذا الفيلم، تبدو جاكلين كينيدي – كما جسدتها ناتالي بورتمان وصاغ ملامحها كاتب السيناريو نوا أوبنهايم – ليست مجرد الأرملة الثكلى لزوجها الرئيس الراحل، وإنما كذلك الحارس المباشر لإرثه وتاريخه. وتتشكل أحداث العمل من خلال لقاءات بين “جاكي” وصحفي من وحي خيال المؤلف؛ يجسد شخصيته الممثل بيلي كرودَب.
وبحسب الأحداث، يقصد هذا الصحفي منزل السيدة الأولى سابقا في بلدة “هيانيس بورت”، آملاً في أن ينزع عنها ذاك الطابع الهادئ المعتدل الذي اشتهرت به، لكي يصل إلى ما يتوارى خلفه من شخصيتها. لكنه يكتشف على الفور تقريباً أن جاكي ستكون هي المتحكم في الحوار. بل إنه حتى عندما بدا أنها تركت القناع يتلاشى من على وجهها قليلاً، حينما استعادت ذكرى إحساسها وهي تُمسك بشظايا جمجمة زوجها المهشمة بينما تندفع سيارتهما المفتوحة السقف مبتعدة عن “ديلي بلازا” حيث وقع حادث الاغتيال، كان لديها من رباطة الجأش ما يجعلها تُذكّر الصحفي بأنه لن يكون في مقدوره استخدام أيٍ مما تفوهت به للتو.
المقابلات جرت إذن بناءً على شروطها، وهو ما انطبق كذلك على الفيلم برمته، كما فُهم ضمنياً. صورة تُغني عن ألف كلمة
وعندما يحاول الصحفي ممارسة ضغوط على “جاكي” لحملها على التعاون معه، عبر الإشارة إلى أن إفادةً مكتوبةً مثل تلك التي يطلبها منها، ستحدد الكيفية التي سيُنظر من خلالها إلى إرث زوجها الراحل، ترد هي بالقول إن لغة الصور باتت تحل الآن محل اللغة المكتوبة.
وحينما يرد الصحفي قائلاً إن الكتابة ربما لا تكون الخيار الأمثل “ولكنها كل ما لدينا في الوقت الحاضر”، تجيبه جاكي قائلةً: “لدينا التليفزيون الآن”.
من جهة أخرى، فرغم أن الفيلم يدور حول واقعة اغتيال كينيدي، فإن الوقت الذي يخصصه لهذه الواقعة، لا يُقارن قط بذلك الذي يكرسه للحديث عن برنامجٍ تليفزيوني خاص، بُث عام 1962 وتباهت فيه السيدة الأولى سابقاً – على مدى ساعة كاملة وأمام نحو 80 مليون مشاهد – بالبيت الأبيض المُجدد حديثاً وقتذاك.
ويمكن القول إن هذه الجولة، جنباً إلى جنب مع الفيلميّن الوثائقييّن “انتخابات تمهيدية”، و”أزمة” للمخرج روبرت درو، شكلوا جميعاً نقطة تحول في العلاقة ما بين رئاسة كينيدي والأفلام السينمائية والوثائقية، وهي نقطة تحول أسهمت فيها كذلك – وفي نهاية المطاف – تلك اللقطات التي صورها الأمريكي إبراهام زابرودر بكاميرته السينمائية لواقعة مقتل كينيدي، وهي لقطات لا يكف الباحثون عن دراستها وفحصها بين الحين والآخر.
وفي تلك الحقبة كانت “جاكي” تشكل في الأساس موضوعاً للتصوير، بظهورها أمام العدسات، مُرتديةً قبعاتٍ صغيرة مستديرة الشكل فوق سترات تحمل علامة “شانيل” التجارية الشهيرة.
ولكن الفيلم يوضح أيضاً أنها كانت؛ فيما يتعلق برسم صورتها أمام الرأي العام، أشبه بمخرجٍ يبلغ قدر تأثيره في فيلمه حد جعله أكثر أهمية من المؤلف نفسه، إذ أنها صاغت – على نحو واعٍ – ملامح صورتها الذهنية أمام الآخرين وكذلك صورة الرئاسة الأمريكية ككل.
ومن بين المواقف الدالة على ذلك، ما حدث بينها وبين السيدة الأولى اللاحقة لها بيرد جونسون، عندما عرضت عليها الأخيرة مساعدتها في نزع سترتها الملطخة بالدماء في مدرج الطائرات في دالاس عقب اغتيال زوجها، إذ رفضت جاكي ذلك قائلة: “أريد منهم أن يروا ما الذي اقترفوه”.
اللافت هنا أن أداء بورتمان المتصنع للغاية في تجسيد شخصية جاكلين كينيدي كان محبطاً ومثيراً لنفور بعض المشاهدين – على نحو متعمد – في البداية.
فحتى مع محاولات المتخصصين في التجميل جعلها أقرب شبهاً لشخصية جاكي، بدت بورتمان صغيرة الحجم للغاية قياساً لما ارتدته من شعر مستعار وثيابٍ مربعة الشكل أشبه بالصندوق، لتبدو وكأنها طفلٌ سطا للتو على صندوق مليء بالملابس التنكرية من شتى الألوان والأشكال.
ولكن هذا الأمر يتحول ليصبح ذا طابع أخاذ وساحر بشكل أكبر كلما طال أمد تقمص بورتمان للشخصية على هذه الشاكلة، خاصة وسط شخصيات جُسدت على نحو أكثر واقعية، مثل بوبي كينيدي (أدى دوره الممثل بيتر سارسغارد) وليندون جونسون (جسد شخصيته جون كارول لينش).
أما دور جون كينيدي فقد أداه الممثل الدنماركي كاسبر فيليبسون، الذي لم ينبس ببنت شفة طيلة أحداث العمل، رغم التشابه الكبير بينه وبين الشخصية التي جسدها، خاصة إذا ما نظرت إليه من زاوية جانبية “بروفيل”.
وهكذا بدا كما لو كانت بطلة الفيلم هي الوحيدة من بين ممثليه، التي لا يُسمح لها أبدا بالاسترخاء أو عدم التحلي باليقظة، خاصة وأن عرضها الواعي لمكنونات نفسها يحجب كل ما قد يفوق ذلك أهمية.
ولعلنا نتذكر هنا عبارة وردت على لسان بطلة الفيلم قالت فيها بشكل متأمل: “لقد ضللت طريقي في نقطةٍ ما، (لأفقد التمييز) بين ما هو حقيقي وما هو أداء تمثيلي”، في إيحاءٍ منها بأن التمييز ما بين الأمرين قد يكون مسألة قابلة للنقاش.
من جهة أخرى، لم تكن بورتمان قط بالممثلة التي تتلاشى شخصيتها في الشخصيات التي تُجسدها على الشاشة، وهو ما يشكل مكمن قوة في هذا العمل. فحقيقة أنها تعطي انطباعاً طيلة الوقت بأنها “تُمثل” تُكسب شخصيتها في العمل بُعداً مأساوياً.
فحتى مشاعرها الأكثر حميمية تشكل موضوعاً للتكهنات والأقاويل من قبل الرأي العام. ولكن بدلاً من أن تتجنب “جاكي” الصحافة وتدعها تخترع القصص التي تريد؛ بهدف ملء الفراغ وشغل الجماهير، دأبت هذه السيدة على أخذ زمام الأمور بنفسها.
من أمثلة ذلك، ما نشاهده في الفيلم من أنها تطلب لدى عودتها إلى البيت الأبيض الاطلاع على الكتب، التي تتناول جنازات الرؤساء الأمريكيين الذين فارقوا الحياة وهم في المنصب، سواءٌ من بقى منهم في الذاكرة أو من طواه النسيان، لتختار في نهاية المطاف أن تُنظم جنازة زوجها على غرار تلك التي نُظمت للرئيس إبراهام لينكِن.
فضلاً عن ذلك، يبدو صناع الفيلم مبدعين فيما يتعلق بجعلهم بطلته “تكتب” تقريباً جزءاً من العمل بنفسها. إذ يستخدم المخرج لارَين خدعا مُعدة بواسطة الكمبيوتر ليُظهر بورتمان في لقطاتٍ من تلك التي تضمنتها الجولة التليفزيونية التي جرت في البيت الأبيض وبُثت عام 1962.
ولكن الكلمات وحتى الصوت يظل لجاكلين كينيدي الحقيقية. وهكذا، يؤدي عدم التطابق المتعمد ما بين حركة شفاه بورتمان والكلمات المنطوقة بصوت السيدة الأولى سابقاً، إلى إكساب العمل ذاك الطابع التفكيكي الذي تتسم به أفلامٌ للمخرج والكاتب الأمريكي تود هينز، مثل فيلم “سوبر ستار: قصة كارين كاربنتر”، ولكن مع استخدام بورتمان هنا كدمية جميلة تلعب دور البطولة.
ولكن على عكس هينز، لا يحظى لارَين بالمقدرة على المزج بين ما هو غير عادي ومُبدِع وبين الأحداث ذات الطابع الميلودرامي التقليدي. فالفيلم ينتهي في اللحظات التي كان يُفترض أن نتعاطف فيها ببساطة مع الآلام التي تعصف ببطلته لا أن نُخضعها للتحليل.
ورغم أن ما يعبر عنه صناع العمل على الشاشة يبدو تجربةً فكريةً وذهنيةً وليست عاطفية، فإن الأفكار التي نشاهدها أمامنا تحظى بتأثير وقوة كافييّن لأن يجعلاها تجتاح المرء وتكتسحه من تلقاء نفسها ودون معين.