بقلم أ.غالب يونس
يُعد الانتحار ، فعل يتضمن تسبب شخص عمداً في قتل نفسه وإنهاء حياته بنفسه ، وباباً خلفياً للهروب من المواقف المسببة للضغوط ، وهو الأمر الأكثر مأساوية ، وقد يبدو وكأنه لا توجد وسيلة لحل المشكلات ، وأن الانتحار هو الطريقة الوحيدة لوضع نهاية لألم غير محتمل ، منقادين بروح من العجز وفقدان الأمل والحيل .
وقد كثُر الحديث خلال الأيام القليلة الماضية عن تكرار حالات الانتحار التي وقعت في عدة محافظات من قطاع غزة عبر وسائل مختلفة ومتعددة بين الحين والآخر ، متصدرة حديث الشارع الفلسطيني وهذا ما أوضحت الجهات المختصة (مراكز حقوق الإنسان ، والنيابة العامة) والهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني “حشد” التي عبرت عن قلقها لتزايد حالات الانتحار ؛ والتي سجلت أكثر من حالة خلال الأيام القليلة الماضية في قطاع غزة إذ سجلت محاولات الانتحار نسبًا عالية في القطاع ، مقارنة بالضفة الغربية وأشارت ورقة بحثية إلى أعداد الحالات التي أقدمت على الانتحار بين عام 2015-2019، حيث سجل العام 2015، انتحار 10 أشخاص فيما حاول الانتحار نحو 553، فيما شهد العام 2016 تسجيل 16 حالة انتحار ومحاولة 626 شخصاً الانتحار، بينما سجل العام 2017 تسجيل 23 حالة انتحار، وحاول 566 شخصاً الانتحار، وسجل العام 2018 20 حالة انتحار فيما حاول 504 الانتحار ولم ينجحوا، فيما سجل العام 2019 انتحار 22 شخصاً (19 ذكور 3 إناث) وحاول الانتحار نحو 133 شخصاً مقسمين 89 ذكور، و44 إناث .
ورغم تعدد الوسائل واتساع النطاق الجغرافي فإن دراسة ظاهرة الانتحار في قطاع غزة يجب أن تنحوا باتجاه ربط المرض النفسي الذى دفع كل تلك الحالات إلى الإقدام على الانتحار بسياقه المجتمعي الذى أفرزه ؛ لأن تجاهل ذلك السياق سوف يعني بكل تأكيد إخلالاً بالمنطق العلمي في التعاطي مع تلك الظاهرة الكارثية … فعلم الاجتماع الحديث قد بلور منذ أواخر القرن التاسع عشر ما يمكن تسميته بـ”سيسيولوجيا الانتحار”، عندما بدأ علماء الاجتماع للمرة الأولى في تحرير فعل الانتحار من دائرته التقليدية بوصفة نتاجًا لعلة عقلية مرضية لدى المنتحر عبر ربطه بالسياق المجتمعي الأعم والأشمل الذي دفع المنتحر إلى هذا السلوك ، وهو ما فعله عالم الاجتماع الفرنسي الشهير “إميل دوركايم” عندما أصدر دراسته المهمة ((الانتحار))، التي شكلت نقلة نوعية في العلوم الاجتماعية ؛ لأنها ربطت حالة الخلل النفسي المؤدية إلى تنامى ظاهرة الانتحار في أوروبا خلال القرن التاسع عشر بالعوامل السوسيولوجية المتعلقة بالبيئة الاجتماعية المحيطة وطبيعة تفاعلات الأفراد داخلها ، فحول دوركايم بذلك المرض النفسي من علة عقلية شخصية إلى انعكاس لحالة مجتمعية ، يُشكل فيها فشل الإنسان في التعاطي مع ظروفه المجتمعية القاسية أو التكيف مع بيئته الاجتماعية دافعًا أكيدًا للانتحار ، وهو ما حدث في فرنسا في أعقاب فشل الثورة الفرنسية الذى شكل سياقًا تاريخيًا ومجتمعيًا ؛ لدراسة “دوركايم” فحالات الانتحار نتيجة تردى الأوضاع الاقتصادية والبؤس الحاد الذي عانته طبقة الفقراء قد تنامت واستفحلت في فرنسا في النصف الأول من القرن التاسع عشر إبان حكم الإمبراطورية . ومن هذا المنطلق شرع “دوركايم” في تفكيك مفهوم الانتحار إلى عدة مفاهيم فرعية تتعدد بتعدد السياقات والظروف المجتمعية اللتين تدفعان الأفراد إلى الانتحار وهي …
(أولاً) مفهوم الانتحار الأناني الذى يحدث نتيجة تحلل وتفكك الروابط الاجتماعية سواء الدينية أو العائلية أو السياسية ، والتي تدفع مرضى الاكتئاب إلى الانعزال نفسيًا عن المجتمع وصولاً للانتحار .
(ثانيًا) مفهوم الانتحار الغيري (الإيثاري) الذي يحدث نتيجة رغبة الفرد في التضحية من أجل الجماعة التي ينتمي لها .
(ثالثًا) مفهوم الانتحار الفوضوي (اللا معيارى) الناجم عن الأزمات والاضطرابات التي تحدث للنظام الاجتماعي نفسه بفعل تفشي حالة الفقر والعوز .
وهذا المفهوم الأخير يعد قاسمًا رئيسيًا مشتركًا لغالبية الحالات التي حدثت في قطاع غزة خلال الفترة الأخيرة ، وبالرغم من أن “دوركايم” قد قدم في دراسته حلاً لمواجهة تلك الظاهرة يتمثل في (الجماعية الوظيفية) ، وهي تلك الحالة التي تجسدها النقابات المهنية العمالية والوظيفية والطلابية على اعتبار أن التماثل – في الأصل والثقافة والاهتمامات- يجعل من النشاط المهني -حسب وصف “إميل دوركايم”- المادة الأكثر ثراءً لحياة مشتركة ، ومن ثم فتلك الجماعية الوظيفية تتجاوز من وجهة نظره دورها كمجرد إطار تنظيمي إلى وسط أخلاقي قادر على تقديم عناصر التلاحم والترابط لأفراد المجتمع ، إلا أن إشكالية الرهان على التنظيم النقابي والطلابي والمهني ا سلاحًا وحيدًا لمواجهة ظاهرة الانتحار تكمن – في اعتقادي- في تجاهله تقديم حلول لمواجهة تلك الظاهرة في أوساط الطلبة والعاطلين عن العمل وربات البيوت وكبار السن من غير العاملين ، وهي الفئات الأكثر هشاشة وضعف في المجتمع ، ومن ثم فهي الأكثر وقوعًا تحت وطأة الإحساس بالظلم والعوز والتهميش الاجتماعي، وهي كلها دوافع لمعظم حالات الانتحار في قطاع غزة … وهو ما يعني في النهاية أن كل مجتمع يجب أن يُفرز -عبر علمائه- مقاربته الخاصة في مواجهة تلك الظاهرة الكارثية ، آخذًا في الاعتبار طبيعة ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة محددًا رئيسيًا لتدشين طريقة مواجهته لها ، عبر رصد أسباب الظاهرة مجتمعيًا، ثم غربلة وتنقيح مناهج علم الاجتماع وصولاً إلى الحل العلمي الأنسب والأكثر ملاءمة للواقع .
ظاهرة الإنتحار في المجتمعات المغلقة
رابط مختصر
المصدر : https://zajelnews.net/?p=102777