الحكمة هى حقيقة إنسانية تعبر عن وجهة نظر صاحبها ، الذى يكون عادة من كبار الفلاسفة والأخلاقيين ، وله تجارب عميقة ومشاهدات دقيقة لكل ما يجرى حوله من تصرفات الناس وطبائع الأشياء . وتصل إلينا الحكمة دائما فى شكل جملة شديدة التركيز ، لكنها أيضا شديدة الوضوح ، بحيث لا تحتاج إلى شرح أو تفسير ، بل إنها هى التى تساعدنا على فهم القضية التى تدعمها . والحكمة تشبه المثل الشعبى ، لكنها تفترق عنه من جانبين : الأول أن صاحبها معروف ، بينما صاحب المثل مجهول ، ولذلك فإن المثل يعتبر تراثا مشاعا يتقاسمه الجميع . والجانب الثانى : أن المثل الشعبى يكون دائما صحيحا ، والسبب فى ذلك أنه لا يشيع وينتشر إلا بعد أن يكتسب موافقة الناس ويحظى بقبولهم فى مختلف الأماكن والعصور . أما الحكمة فإنها قد تكون صائبة فى معظم الأحيان ، ومعرضة للخطأ فى أحيان أخرى .
ومن المتعارف عليه فى الأوساط الادبية ، قديما وحديثا ، أن المتنبى كان من أكثر الشعراء العرب احتفاء بالحكمة ، وإيرادا لها فى قصائده . لكن أحدا لم يقم حتى اليوم ببحث استقصائى يجمع فيه (كل) عناصر الحكمة لديه ، مع أن هذا العمل يمكنه أن يتيح لنا أولا : إلقاء نظرة شاملة عليها كلها ، بدلا من اجتزاء بعضها ، والاقتصار عليه . وثانيا : متابعة تطور الحكمة لديه من حيث القلة والكثرة ، وكذلك من حيث البساطة والعمق . وثالثا : استخلاص فلسفة خاصة بهذا الشاعر العربى الكبير ، والذى عاصر أثناء حياته الخاطفة تجارب متنوعة مع كل طبقات المجتمع فى عصره . وأخيرا فإن استعراض مجموع الحكم لديه تفتح الباب أمام الدراسات المقارنة للوقوف على منابعها ، ومن اى المصادر استمدها .
لكننى أود أن أتوقف هنا عند نقطة هامة ، وهى أن دارسى الأدب العربى ، وخاصة الذين درسوا المتنبى ، قد اعتبروا (الحكمة) عنده : غرضا شعريا قائما بذاته . وهذا خطأ شائع ينبغى تصحيحه . لأن أغراض الشعر العربى الرئيسية هى : (المدح والرثاء والهجاء والشكوى من الزمان) ثم تأتى بعد ذلك وسائل فنية ، يستعان بها فى إقامة بنية هذه الأغراض ، وهى (الغزل) فى مقدمات القصائد ، ثم (الوصف) و (الحكمة).. والدليل على ذلك أننا لا نكاد نعثر إلا على قصائد قليلة فى كل من الغزل والوصف ، أما الحكمة فلا توجد فى قصيدة مستقلة ، تختص بها وحدها والملاحظ أن الحكمة عند المتنبى منبثة فى معظم قصائده ، وليس فيها كلها . وهى تأتى غالبا لتـأكيد معنى ، أو لتدعيم قضية ، أو لتبرير مبالغة . والقارئ لديوان المتنبى ، الذى أشرف هو بنفسه على ترتيبه ، يلاحظ أنه يكاد يخلو من الحكمة فى أشعار الصبا والشباب ، وهى مرتبطة بالمرحلة الأولى من حياته ، حيث كان يسعى إلى التكسب بالشعر ، من خلال مدح الأشخاص الذين التقى بهم . ومن الواضح أن القليل من الحكمة التى وجدت فى هذه المرحلة تتسم بالبساطة أو حتى السذاجة ، ويمكن إرجاعها إلى بيئة الحياة البدوية التى عاشها فى صباه ، لكنه عندما يلتحق ببلاط سيف الدولة فى حلب ، وتتاح له فرصة أكبر فى الاطلاع على تراث الأمم الأخرى : الفارسية والهندية واليونانية ، نجد نوعا آخر من الحكمة ، أكثر عمقا ، وأنفذ نظرا إلى الحياة ، وسوف تظل هذه الحكمة تتعمق وتتنوع بتنوع التجارب الإنسانية التى مرت بالمتنبى ، خلال سنوات عمره القصير نسبيا ، والذى لم تتجاوز ال (51) عاما .
وعلى الباحثين الذين يرغبون فى الوقوف على أسرار الصياغة الشعرية المتميزة لدى المتنبى أن يرجعوا إلى دواوين ثلاثة من كبار الشعراء الذين سبقوه ، وهم أبو تمام (ت 231 هجرية) والبحترى (ت 284 هجرية) وابن الرومى (ت 283 هجرية) ، وهو نفسه كان (راوية) لابن الرومى ، كما وجد فى مقتنياته ديوانا البحترى وأبى تمام ، وعليهما الكثير من تعليقاته بخطه . والواقع أن أساليب هؤلاء الثلاثة الكبار تتردد بصوت عال أحيانا ، وبخفوت فى أحيان أخرى فى شعر المتنبى ، لكنه يتفوق عليهم جميعا بأسلوبه الخاص ، وصياغته المتفردة ، وقوة تمكنه من استخدامات اللغة العربية واستغلال كل إمكانياتها ، بل واختراع أساليب جديدة وصيغ مستحدثة فيها .
لذلك عندما يقال إن المتنبى أخذ معنى من شاعر سابق ، أو استعار حكمة من فيلسوف قديم ، فإننا لا ينبغى أن نقلل من شأنه ، أو نسلبه قدرته الفائقة على جودة الصياغة التى وضع فيها هذا المعنى أو تلك الحكمة . فهو بالفعل يستمد من التراث السابق عليه ، لكنه يكسوه ثوبا من عنده ، وأسلوبا خاصا به لا يكاد يدانيه فيه أحد من الشعراء السابقين عليه ، أو حتى اللاحقين له . وتقتضين الأمانة العلمية أن أشير فى هذا الصدد إلى ما قام به أحد الباحثين (لم يذكر اسمه مع الأسف) حين نشر على شبكة الانترنت بحثا جيدا بعنوان (حكم أرسطو وما يقابلها فى شعر المتنبى) بتاريخ 21/6/2009 رصد فيه (41) موضعا ، يبدو منها التلاقى بين الفيلسوف اليونانى والشاعر العربى واضحا أحيانا ، وقليل الوضوح فى أحيان أخرى ، لكن ما يعيب هذا البحث هو عدم تحديد المصادر التى جاء منها بمقتطفات أرسطو ، حتى نتمكن من توثيقها والاطمئنان إليها ، كذلك هناك بعض الأقوال المنسوبة لأرسطو لا تتطابق تمام المطابقة مع أبيات المتنبى . ومن ذلك مثلا :
قال أرسطو : علل الأفهام أشد من علل الأجسام
والمتنبى يقول على نحو أعم وأشمل :
يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
ومن ذلك أيضا :
يقول أرسطو : إذا لم تنصرف النفس عن شهواتها ومرادها فحياتها موت ، ووجودها عدم .
والمتنبى بعيد عن ذلك تماما ، حين يقول :
ذل من يغبط الذليـــل بعيــــش
رب عيش أخف منه الحمام
ولا أريد أن أطيل أكثر ، فالباحث مشكور على أية حال . وهو يفتح الباب أمام باحثين آخرين للوقوف بدقة وبتوثيق أكثر على المنابع التى يمكن أن يكون المتنبى استمد منها ضروب الحكمة لديه .
من هنا جاءت فكرة هذا البحث الاستقصائى الذى قمت به ، وغرضى منه أن أضع أمام القراء بعامة ، والباحثين فى المتنبى بخاصة (مجموع الحكم التى وردت فى شعره كله) ، وقد تطلب منى ذلك قراءة ديوانه أكثر من مرة ، قمت خلالها برصد كل ما يتعلق منه بالحكمة ، ولكى أسهل الأمر على غيرى ، صنفت ما جمعته فى ستة أقسام :
1 – الحكمة فى جملة من شطر بيت .
2 – الحكمة فى الشطر الأول من البيت .
3 – الحكمة فى الشطر الثانى من البيت .
4 – الحكمة فى بيت مفرد .
5 – الحكمة فى بيتين متتاليين .
6 – الحكمة فى عدة أبيات متتالية .
هذا من حيث الشكل الخارجى لورود الحكمة لدى المتنبى ، أما من حيث (أبطال الحكمة) فكثيرا ما يكون هو نفسه صاحب القول الفصل فى الحكمة ، وأحيانا كثيرة يجعل (الدهر أو الزمان أو بعض الأشخاص أو بعض الحيوانات وخاصة الوحوش أو بعض الطيور وخاصة الجوارح) . ومن الناحية الأسلوبية فإن الحكمة لدى المتنبى تأتى غالبا فى صيغة خبرية (تقريرية) وقليلا ما ترد فى صيغة استفهام استنكارى .
الحكمة في شعر المتنبي
رابط مختصر
المصدر : https://zajelnews.net/?p=82766