أسدل الستار على الانتخابات الرئاسية في تونس التي جرت الأحد الماضي وأسفرت عن فوز الرئيس المنتهية ولايته قيس سعيّد بنسبة كبيرة وصلت 90.69 في المئة من الأصوات وبنسبة مشاركة بلغت 27 في المئة من الجسم الانتخابي الجملي، وحصد منافساه العياشي الزمّال القابع في السجن من أجل «ارتكابه جريمة انتخابية» وزهير المغراوي أقلّ من 10 في المئة من الأصوات حسبما أعلنت ذلك الهيئة المستقلة للانتخابات ليل الثلاثاء.
وبحصول الرئيس قيس سعيد على هذه النسبة المرتفعة من الأصوات والتي تفوق نسبة الـ50 في المئة، فهو يحسم بذلك مصير الانتخابات منذ الجولة الأولى، ومعلوم أنّ انتخابات الرئاسة في تونس تجرى على دورتين في حال عدم حصول أيّ مرشّح على 50 في المئة زايد واحد من الأصوات.
وكان الاستحقاق الانتخابي الرئاسي في تونس مسبوقاً بحراك سياسي وحقوقي في الشارع احتجاجاً على ما تعتبره الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وعديد الملاحظين «تراجعاً لمنسوب الحرّيات في البلاد» و«تضييقاً على حرية الرأي والتعبير والصحافة».
وإنه ما من شك في أن فوز الرئيس قيس سعيد جاء نتيجة حتمية لفشل معارضيه في خلق بديل يُقنع الناخب التونسي، ورغم أن هذا الاستحقاق الانتخابي الرئاسي لم يشهد حملة انتخابية ميدانية من شأنها أن تنذر سبيل الناخب التونسي، إلا أن ما حف بها من إشكاليات قانونية ونزعات قضائية وسد الطريق أمام بعض المرشحين لأسباب مختلفة، مثل في حد ذاته مادة تعويضية للحملة الانتخابية غذت وسائل التواصل الاجتماعي على مدى الفترة المخصصة للحملة.
ولعل اللافت في الأمر أن المسألة الاقتصادية والاجتماعية وصراع البرامج كان الغائب الأكبر في هذه الانتخابات المهمة، وقد نجح الرئيس قيس سعيد في تغييبها وفرض محاوره الخاصة التي تنبع أساساً من رؤية واستراتيجية شعبوية بدا أنها مازالت تلقى صدى في صفوف التونسيين رغم عقمها وعدم فعاليتها في تغيير الواقع المعاش للمواطن التونسي، وهي استراتيجية قامت كذلك على التعبئة بناء على نقد عشرية حُكْمِ حركة «النهضة الإخوانية»، وتبين بوضوح أنّ مواجهة حركات «الإسلام السياسي» تبقى ورقة رابحة في المجتمع التونسي.
إن انتخابات الرئاسة في تونس كانت مناسبة للوقوف على التراجع المذهل للنخبة السياسية في تونس، وهي نخبة لم تستطع على مدى الأحقاب تحديد خطابها بشكل يقنع الأجيال الجديدة من الشباب ويدفعهم للانخراط في مشاريعهم السياسية وهو الأمر الذي يفسر نسبة مشاركة ضعيفة لدى فئة الشباب ما بين 18 و35 سنة بلغت 6 في المئة فقط وقد يفسر كذلك، إلى جانب عوامل أخرى نسبة العزوف المرتفعة عن الانتخابات والتي فاقت الـ70 في المئة.
نخبة سياسية وفكرية لم تفهم بعد أن تغيير أمور الحُكْمِ في تونس تلعب فيه الانتخابات والشارع أدواراً ثانوية جداً، وهي من عوامل الإسناد لا غير، وأنّ الأصل في الحُكْمِ هو ممارسة السلطة، وبإلقاء نظرة على تاريخ تونس منذ استقلالها يتبين بجلاء أن التغييرات المفصلية تحدث دائماً من داخل منظومة الحُكْمِ التي تستغل أطرافه في غالب الأوقات انتهاء صلاحية أسلوب ومحتوى ممارسة السلطة لتنقض عليه، وقد حدث هذا بعيد الاستقلال وفي كل مراحل دولة الاستقلال وإلى حد الآن.
وتبرز الانتخابات الرئاسية التونسية أن تونس تمر فعلاً بمرحلة انتقالية ومخاض مفتوح على كل الاحتمالات ولكنها في الأول والأخير لا تعدو أن تكون مرحلة انتقالية ووقتية لا يمكن لها أن تدوم نظراً لغياب عناصر ديمومتها وهي، رؤية سياسية واجتماعية واضحة واقتصاد متضامن وقائم، إذْ لا يمكن لأي دولة أن تصمد في غياب العمود الفقري الذي هو الاقتصاد.
وفي حال تونس الاقتصاد المتضامن، وقد يكون هذا الأمر هو المطلوب العاجل من الرئيس التونسي المنتخب قيس سعيد الذي هو مُطالب أن يستحضر أمرين اثنين، أولهما نسبة العزوف الكبيرة عن الانتخابات، وثانيهما، انتظارات من صوت لصالحه والمرتبطة أساساً بالجوانب المعيشية.
إن الفكر الشعبوي ليس ظاهرة جديدة في تونس، فقد مثل قوام ممارسة السلطة في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي الذي راهن هو الآخر على «تونس الأعماق» بعيداً عن النخبة، لكن ذلك لم يمنعه من توظيفها لمشروعه السياسي إيماناً منه بضرورة اعتماد الكفاءات.
وهو إلى جانب ذلك قدم مكاسب حقيقية وفعلية لعموم الفئات الضعيفة أسهمت في توازن المجتمع، وهو أمر كان مستحيل التحقيق دون علاقة جيدة مع الأطراف الاجتماعية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد العمّال) المُطالَب هو الآخر بإحداث عملية إصلاح كبرى داخله.
وإن المراهنة على العُمق الشعبي يستوجب من الرئيس التونسي في المرحلة القادمة الانكباب الفعلي على مشاغل الناس بعيداً عما ميز العهدة الانتخابية الأولى التي ركزت فقط على قضايا قد لا تلقى صدى لديه على أهميتها، والتقديرات تبين أن الشريك الأساسي في المرحلة المقبلة هو الاتحاد العام التونسي للشغل، وإن المراهنة على بيع الأوهام لن يشفي على المدى القصير والمتوسط غليل من شارك في الانتخابات ولا يسهم في توسيع رقعة المشاركة السياسية.
المطلوب العاجل كذلك هو فتح أبواب الحوار والإصلاح لاستحالة الانفراد بالحُكْمِ والقرار خصوصاً في المراحل الانتقالية وضرورة الوعي بأنه ما من مرحلة انتقالية تدوم لو كانوا يعلمون.