«لقد سئمتُ الحديث الذي يجري عبثاً دون طائل، إذا كان الرجل الأبيض يريد العيش في سلام معنا، فبوسعه ما أراد، لا حاجة بنا إلى مشاكل، عاملوا الناس جميعاً على قدم المساواة، شرّعوا لهم جميعاً قانوناً واحداً، امنحوهم جميعاً فرصاً متكافئة للعيش والازدهار، إذا ما فكرتُ في حالنا، أثقل الحزن قلبي، أرى أبناء عِرْقي يُعامَلون باعتبارهم خارجين عن القانون.
ويُساقون دفعاً من بلد إلى بلد، أو يُطلقون عليهم الرصاص مثل الحيوانات، إننا لا نستطيع أن نستمر على ما نحن عليه من ضبط النفس إزاء الرجل الأبيض، نحن لا نطلب سوى فرصة للعيش، مثلما يعيش الآخرون».
لا تبدو الشكوى غريبة، وكأنها حال الشعوب المغلوبة في فلسطين وأفريقيا، وسواها من البلدان المكلومة، ولكن الواقع أنّ هذه كانت كلمة أحد زعماء الهنود الحُمر، وهو الشيف جوزيف، في خطابه لحكومة الولايات المتحدة، عقب الحرب ضد قبيلة نيز بيرس عام 1879، ضمن حروب إبادة من غُزاة بيض برابرة، ضد 400 أُمّة، في ما أُطلِق عليه زوراً «العالم الجديد»!
لقد زوّر الغربيون التاريخ، كما زوّروا الجغرافيا، فأرقامهم «الرسمية» تشير لوجود مليون أو مليونين كحد أقصى من البشر، عندما وطئت أقدام همجهم القارة الأمريكية الوادعة، بينما تؤكد الحقائق لوجود قرابة 112 مليون إنسان، تمت إبادتهم بشكل ممنهج غير مسبوق في التاريخ البشري الطويل.
ويذكر الكاتب الأمريكي هنري دوبيتر، في كتابه (أرقامهم التي هزلت)، 97 حرباً جرثومية استخدمها الأوروبيون البيض لـ«تهيئة» القارة وإخلائها من سُكّانها، بواقع 41 حرباً بالجدري، و4 بالطاعون، 17 بالحصبة، و10 بالإنفلونزا، و25 بالسل والديفتريا والتيفوس والكوليرا، وتباهى وليم برادفورد، حاكم مستعمرة بليتموت آنذاك، بقوله:
«إنّ نشر هذه الأوبئة بين الهنود، عمل يدخل السرور والبهجة على قلب الرب، ويفرحه أن تزور هؤلاء الهنود وأنت تحمل إليهم الأمراض والموت، وهكذا يموت 950 هندياً من كل ألف، وينتن بعضهم فوق الأرض، دون أن يجد من يدفنه، إنّه على المؤمنين أن يشكروا الرب على فضله هذا ونعمته»!
وحتى لا يخرج عليّ أحد أذنابهم بدعوى تحاملي على «حاملي شعلة الحضارة»، أورِد مقولة لتشارلز داروين، أحد أساطين الفكر الغربي، وصاحب نظرية النشوء والارتقاء الشهيرة والمتهافتة، وقد جال الجُزُر والمجاهل على متن السفينة (بيجل).
ورأى ما فعله الغزاة في تلك الديار، فكتب في مذكرات رحلته ما يلي: «إنّه حيثما خَطا الأوروبيون، مشى الموتُ في رِكابهم إلى أهل البلاد التي يجتاحونها»، ويؤكد المعنى ذاته، هوارد سيمبسون، في مقدمة كتابه (الجيوش الخفية):
«إن المستعمرين الإنجليز لم يجتاحوا أمريكا بفضل عبقريتهم العسكرية، أو دوافعهم الدينية، أو طموحاتهم، أو وحشيتهم، بل بسبب حربهم الجرثومية التي لم يعرف لها تاريخ الإنسانية مثيلاً»!
قد يعترض البعض بأن ذلك حدث قبل قرنين أو ثلاثة، والأجيال الحالية مختلفة تماماً، ولا يجوز تحميلها وِزر أخطاء الأجداد البرابرة وجرائمهم، ولا أختلف معهم في ذلك، في ما يخص الناس العاديين والشعوب التي نراها ودودة إلى حدٍ ما مع الآخر.
ولكن هل الحكومات تُشاطِر شعوبها ذات التقبّل وذات الود للآخر، ففي مؤتمر الأمم المتحدة المناهضة للعنصرية، والمنعقد في ديربان في جنوب أفريقيا، خلال شهر أغسطس عام 2001، وقفت حكومات شعوب الجنوب تدعو لوقف العنصرية تجاهها.
وتطالب بحقها في التعويض عن قرون من السُخرة والعبودية والقتل الممنهج من الإنسان الأوروبي الأبيض، تجاه شعوب الأمريكتين وأفريقيا وأستراليا، ونهب ثروات تلك القارات، لصالح القارة الصغيرة الغازية، فكان الرد بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها إسرائيل، من المؤتمر، احتجاجاً على هذا الموقف، بينما عارضت الدول الأوروبية، دون استثناء، ذلك الطلب!
إنّ الإحساس بالفوقية لدى الإنسان الأبيض، أمرٌ لا يتغيّر، وغير قابل للنقاش، حتى في الأوساط الأكاديمية، التي تؤمن إيماناً أعمى بنظرية المركزية الأوروبية للحضارة الإنسانية «طيلة تاريخها!»، فتوماس باترسون ينقل في كتابه (الحضارة الغربية، الفكرة والتاريخ)، عن سفير الولايات المتحدة لدى بريطانيا في أربعينيات القرن التاسع عشر، قوله:
«إنّ العِرْق الأنغلو ساكسوني الذي انحدرنا منه نحن الأمريكيين، لم يتجاوزه أحدٌ في تاريخ الوجود»، لذلك، لا يتوقف تسويغ جرائمهم بحق البشر، بل حتى كبار مفكريهم وفلاسفتهم، لا يخرجون من هذا الطرح الانتقائي الاستعلائي، فرائد التنوير لديهم، ومُنَظِّر «الأخلاق»، جون لوك، كان أحد كبار المديرين المسؤولين في الإدارة الاستعمارية البريطانية.
وكان رأس حربة الفكر الرأسمالي الشرس، وأحد المؤسسين وحملة الأسهم بالشركة الأفريقية الملكية المختصة بـ«تجارة العبيد»، تخيّلوا، فأنّى لحكومات تحمل هذا الفكر، أن تؤمن بالسلام تجاه من تراهم أقل منها، وبأنّ ما يملكون من ثروات، هي أحق بها منهم!