بدأت التعرف على مدرسة هيكل الصحافية بالاستماع لمقالته « بصراحة» التي كان يبثها صوت العرب قبل العام 67، على لسان المذيع «محمد عروق» المميز بجمال النطق وقدرته على الجذب. استوقفني حينها، استخدامه لغة ومفردات من نوع، «في اعتقادي»، و»أغلب الظن» ، تلك المفردات التي توحي بالموضوعية وبعدم امتلاك الحقيقة كاملة وتشعر السامع والقارئ بالثقة. بدأت صحيفة القدس التي صدرت في العام 68 بإعادة نشر مقالة هيكل «بصراحة» على صفحاتها، ما جعل الصحيفة أكثر اهمية ومصداقية، اصبح بمقدور المواطن امتلاك مرجعية سياسية موثوقة من خلال مقالة هيكل «بصراحة». كانت كتابة هيكل تنطوي على نوع من التشويق، عندما كان يجمع المعلومات الوفيرة، والحكايات التي يسردها عن زعماء وقادة بوزن جمال عبدالناصر وخرتشوف وتيتو ونهرو وديغول وغيرهم، حكايات مثيرة أقرب إلى القصة الصحافية.وكانت قراءة المقالة بِحِرَفِيَّة عروق وبصوته الواثق تضفي عليها نوعا من الجمال. أستطيع القول أنني تعلمت لاحقا من مدرسة هيكل في الكتابة، وإن كان انتمائي إلى فكرالحتميات قد شل التأثر دون أن يمحوه.
ولم يطل الوقت حتى تعرضت الى صدمة من ضمن الرعيل الثاني للمقاومة الذي تبنى فكر حرب التحرير الشعبية طويلة الامد كخيار بديل لحرب الجيوش العربية التي هزمت شر هزيمة في حرب 67. فقد تجرأ هيكل على نقد الثورة الفلسطينية في مقالته «بصراحة». قال إن الثورة تفتقد إلى مقومات الانتقال الى حرب تحرير شعبية وقارن وضعها بالثورة الجزائرية التي كانت تمتلك عمقا في أراضي تونس والمغرب، وبالثورة الفيتنامية التي تنطلق من جغرافيا مواتية لحرب العصابات وحرب الشعب وتحظى بإسناد سوفييتي صيني. ووضع سقفا للثورة الفلسطينية ينحصربمقاومة المحتلين بانتظار الحسم الذي لن يكون إلا عن طريق الجيوش العربية. جاء نقد هيكل للثورة الفلسطينية التي تحولت في تلك الفترة الى تابو فوق النقد بالنسبة للنخب الثقافية العربية. كان صائبا في تشخيص المقومات لكنه لم يكن محقا في البديل الذي جرى تجريبه في اكثر من حرب ولم يفلح. جاء نقد هيكل في سياق موافقة النظام الناصري على مبادرة روجرز عام 70 وتعرضه للنقد الشديد من قبل المقاومة.
المحطة الثالثة التي أحدثت قطعا مع هيكل، عام 74 عندما تعرض لنقد المنتفضين المصريين (اليسار الراديكالي المصري والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم). هؤلاء أنزلوه من عليائه بالنقد الشديد في المظاهرات وعلى حائط الصحافة في الجامعات، وعبر الأغاني الثورية من نوع «رجعوا التلامذة يا عمي حمزة للجد تاني» و» بصراحة يا استاذ ميكي» و»بينما الحالة نيلة والبلد بالعة الفتيلة». كان النقد الثوري الذي تعرض له هيكل صادما لنا كطلبة فلسطينيين، بعضنا تفهمه وتبناه والبعض الاخر لم يستوعب ذلك.
رحل الصحافي والمفكر المصري العربي الكبير محمد حسنين هيكل عن 93 سنة أمضى 74 سنة منها في ميادين الصحافة والاعلام والفكر. وكان مدرسة في الصحافة والاعلام. الاستاذ هيكل لم يدرس الصحافة والاعلام في الجامعة، تعلم في «الايجبشن غازيت» في الميدان وكمراسل صحافي في حرب فلسطين عام 1948 ، وغطى الحرب الاهلية اليونانية، وحرب كوريا وصراعات البلقان. وبعد ذلك انطلق في عالم الصحافة وأبدع، تأثر بالصحافة والصحافيين الغربيين مهنيا، فكان الأكثر غزارة في إنتاج المادة الاعلامية والكتب. يشهد على ذلك إصداره اكثر من 40 مؤلفا وكتابا شملت أهم القضايا المصيرية العربية. اهمها : «العروش والجيوش» «لمصر لا لعبد الناصر» « حرب الثلاثين سنة1967» « مدافع آية الله قصة ايران والثورة» « اكتوبر 73 السلاح والسياسة» « خريف الغضب» « حرب الخليج». لم يتوقف عن دوره الاعلامي حتى بعد استئذانه بالانصراف، فقد انتقل الى الندوات والبرامج التلفزيونية وبخاصة في فضائية الجزيرة التي خصها ببرنامج مع هيكل.
تميز هيكل بتأثيره على مركز القرار السياسي وبخاصة بعد ثورة23 يوليو 52، من خلال علاقته الحميمة مع الرئيس جمال عبد الناصر.كان المستشار الذي بلور الافكار والمواقف والتكتيكات، أصاب وأخطأ. حرر كتاب «فلسفة الثورة» ويقال انه بلور افكاره بالاتفاق مع الرئيس. حول الهزيمة الى نكسة، وكتب خطاب «التنحي» للرئيس عبد الناصر الذي اعترف بالمسؤولية عن الهزيمة، واستثاربذلك عواطف الجماهير التي طالبت الرئيس بالتراجع عن التنحي. وساهم هيكل في استصدار قرار يقضي بحل جميع الاحزاب السياسية المصرية دون استثناء، في مقال كتبه بعنوان « اتركوا غيركم يتحدث « كان يعني «الضباط الاحرار» ما أدى إلى تفكيك مقومات الديمقراطية وتعزيز حكم العسكر التي قادت الى العصف بكل انجازات الناصرية في مدى زمني قصير نسبيا. لم ينقد هيكل موقفه، ولم يدافع عن الديمقراطية في مواجهة القمع ودولة المخابرات ومراكز القوى والفساد الذي استشرى في غياب الرقابة والشراكة الشعبية.
يسجل للاستاذ هيكل انه نقد السادات وهو يتوجه إلى الصلح المنفرد مع إسرائيل، ما أدى إلى سحب جواز سفره وتحويله الى التحقيق وصولا الى اعتقاله في العام 1981. ويسجل له نقده لسياسة التوريث التي اتبعها حسني مبارك. ويسجل له نشره رواية نجيب محفوط «أولاد حارتنا»في صحيفة الاهرام على حلقات وقاوم اعتراض الازهر على النشر بدعم من الرئيس عبد الناصر. أما المواقف الاشكالية التي ساهم هيكل في تمريرها فهي : دعوته المجلس العسكري للحسم اثناء ثورة 25 يناير 2011 .وبعد ذلك نظر لترشيح المشير السيسي قال إنه «مرشح الضرورة « واعتبر القوات المسلحة المصرية بأنها ميزان المستقبل. ثمة علاقة بين موقف حل الاحزاب لصالح الضباط الاحرار الذي ساهم هيكل في بلورته، وبين دعوته المجلس العسكري للحسم ، واعتبار قائد الجيش مرشح الضرورة. العلاقة هي الموقف من الديمقراطية التي لم يخدمها هيكل ولم يحاول نقل خبرة الغرب في هذا المجال كما نقل خبرة الصحافة. الديمقراطية هي نقطة الضعف عند هيكل وهو يقيم ثورة الخميني والعلاقة مع إيران والانظمة العربية الاخرى وحزب الله. عندما تغيب الديمقراطية تصبح احتمالات الخطأ الكبير أكثر.
الديمقراطية نقطة ضعف عميد الصحافة الراحل
رابط مختصر
المصدر : https://zajelnews.net/?p=6252