في خضم هذا النقاش الفلسفي حول التراث، وخلال مسيرتي في العمل الاجتماعي والثقافي التي تزيد على أربعين عاماً، كان يواجهني دائماً سؤال مُلح: هل يمكن الاستغناء عن بعض عناصر التراث؟ هذا التساؤل يأخذ أبعاداً عميقة تتجاوز مجرد القيمة المادية أو الجمالية للتراث، ليصل إلى قلب مفهوم الهوية والذاكرة الجماعية. التراث ليس مجرد مخزون مادي أو رمزي يُمكن التعامل معه بسهولة، بل هو بنية متشابكة تمثل جذور المجتمعات وهوياتها.
في نظريات الفيلسوف الفرنسي «جيل دولوز»، حول «الاختلاف والتكرار»، نجد رؤية فريدة لفهم التراث بطريقة حيوية متنامية. فهو يرى مثلاً أن الهوية ليست شيئاً ثابتاً، بل عملية مستمرة من التغيير والتكرار، وبهذا المعنى، لا تُعتبر عناصر التراث جزءاً من ماضٍ منغلق، بل مواد تتفاعل مع الظروف الزمنية والمكانية التي تعيد إنتاجها بطرق مختلفة. هذه الفكرة تفتح الباب لفهم كيف يمكننا إعادة تقديم التراث وتكييفه مع العصر الحديث دون فقدان جوهره الأصلي، مع إمكانية الاستغناء عن بعض عناصره، التي تتعاكس مع القيم الاجتماعية الجميلة.
يوضح «دولوز» أن التكرار ليس استنساخاً، بل إنتاج جديد للشيء المتكرر، بحيث يأخذ معنى جديداً، وعلى ذلك فإن التراث، ليس مجرد عملية تكرار، بل عملية مستمرة من التجديد.
في تراث الإمارات، يمكننا رؤية هذه الفكرة بوضوح. عندما نتناول التراث المعنوي، الذي يشمل الأهازيج والأغاني التراثية، فعلى سبيل المثال، حين نراجع كلمات الأهزوجة التي تقول:
يوم قالوا لي بنية (1)… ظلّم البيت عليّه
وانبحتني جلبتيه (2)… واحجرتني (3) يارتيه (4)
ويوم قالوا لي غلام… فزّ قلبي ثم جام (5)
ليت الطلقة ثلاث… رمضان واشهير (6) ولي حداه (7)
وحسب ما ذكرت الباحثة فوزية طارش، رحمها الله، في كتابها (الأغاني الشعبية للأطفال والنساء في دولة الإمارات العربية المتحدة) فإن المجتمع الذي يعتمد على الجهد العضلي لكسب لقمة العيش تتولد فيه نزعة تفضيل الوليد الذكر على الأنثى، وهي عادة تنتمي إلى العصر الجاهلي حين كانوا يدفنون البنات، أو أن الأب، وحسب قوله تعالى في الآية 58 من سورة النحل: «ظَلَّ وَجْهُهُۥ مُسْوَداً وَهُوَ كَظِيمٌ»، يتوارى من القوم، حين يُحمل إليه نبأ ولادة البنت، وفي مجتمعنا امتداد لذلك، حيث نرى الأم يظلم النهار أمام عينيها حين تلد أنثى. أما حين يأتي المولود ذكراً، فإنها تكاد تقفز من الفرحة وكأنها فازت بحب زوجها، وتستطيع أن ترفع رأسها أمام جيرانها بما أنجبت.
هذا واحد من الأمثلة السلبية الكثيرة في عناصر التراث الشعبي الإماراتي، الذي لا يتلاءم مع الرؤى الجديدة التي قلبت الموازين التقليدية وأحدثت نظماً وقوانين للتوازن بين الجنسين. فكيف يمكننا التعامل مع هذا التراث حالياً؟ إنه يضرب جذروه عميقاً ليس في تراث الإمارات بل في التراث العربي كله، وربما في تراث كثير من الأمم، حيث الزوج يفضل الأولاد الذكور، ويسيطر الخوف على العائلة بانتظار جنس المولود، فإذا كانت أنثى يعمّ الحزن!! وكما أن ذلك متأصل لدى الناس في قلوبهم وعقولهم، نجده ينعكس في مادة التراث في الأهازيج والأغاني والأمثال الشعبية وغيرها، لذلك فالفكرة هنا ليست في التخلص من هذه العناصر التراثية أو اعتبارها غير صالحة، بل في إعادة تكييفها وتعديلها بصورة مؤثرة لتعديل المفاهيم وتحسين العقليات وبالتالي تطوير المجتمعات.
السؤال حول الاستغناء عن بعض عناصر التراث، من ناحية فلسفية، يتطلب منا أيضاً التفكير في مدى ارتباط التراث بالهوية الوطنية. الإمارات كدولة حديثة تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على هويتها الثقافية وسط تسارع التحديث والتكنولوجيا. وقد يبدو أن بعض عناصر التراث غير ملائمة للعصر، كما ذكرنا، لذلك يمكننا «إعادة تعريف» هذه العناصر بطرق تتناسب مع التغيرات والتطور الاجتماعي.
التراث لا يمكن أن يكون مرناً دون أن يكون محفوظاً أولاً. وقبل أن نفكر في تكييف أو تحديث عناصر التراث، يجب أن نضمن حفظها وحمايتها من النسيان. التراث الذي يتم تحديثه دون أن يُحفظ أولاً، يخاطر بفقدان جوهره الأصلي. وكذلك فإن فكرة الاستغناء عن بعض عناصر التراث تعني إيجاد طرق لجعله أكثر استدامة، من خلال إعادة تقديم التراث بطريقة تجعل منه مادة قابلة للتفاعل مع الجمهور الحديث. فمثلاً قد نرى اليوم تصاميم عصرية مستلهمة من «العمارة الإماراتية التقليدية»، حيث تم دمج «البراجيل» القديمة في تصاميم الأبراج الحديثة في دبي وأبوظبي. وهذا الأسلوب يُجسد فكرة «دولوز» حول «التكرار المختلف»، حيث يتم إعادة استخدام الرموز والعناصر التقليدية في طروحات وأشكال فنية تمنحها حياة ومعنى جديداً. وبدلاً من النظر إلى التراث كشيء يجب الاحتفاظ به في المتاحف، يمكن اعتباره مصدراً للإلهام والإبداع.
هوامش:
- بنية: تصغير كلمة بنت
- جلبتيه: تصغير كلمة «الكلبة»
- اجرتني: تجاهلتني
- پارتیه: تصغير كلمة «جارتي»
- جام: وقّف
6.اشهير: تصغير الكلمة شهر
7.حداه: جانبه