إشكالية الجمال والفن وفن الجمال، والجمال فناً، تضعنا في مطبات صعوبة التفريق ما بين طرفي معادلتهما افتراقاً واقتراباً ذهنياً وذوقياً والإجراءات التنفيذية العملية ومصادرها المتوسعة حد إدهاش معقوليتها ولا معقولها وتراكم الإرث القريب والبعيد والهاجس المستقبلي المحكوم بأدوات تفوق الخيال والإدراك الآني المباشر وسط تضارب الرؤى وفلسفة الجمال الما بعد حداثي وتشتت فعلها ومناطقها ومحاولة الالتفات عليها بحذر مجدداً لإنبات نظريات جديدة تتعدى فعل التفكيك والتشظي والتفتت وسياسات السوق وما بعد الإيديولوجيا وأنماط الاستهلاك للرؤى والأفعال الفنية المتسارعة والمتقلبة والتجاوز المتعمد لما قبل وحتى القريب الزمني، لهاث لا ينضب معينه ولا عرابيه كأننا في قاطرة سحاب تقود قطعاننا للمجهول الفضائي لا لمعلومه. فهل بات فن الآن لغزاً أم فعلاً إبداعياً متشظياً؟
نحن وكشعوب متوسطية لا وسطية تقود وسائطنا، هل تبنى (نقاد الفن التشكيلي) وجهات نظر أو حتى إشارات معمقة تدلنا على الفعل الجمالي في نتاجاتنا التشكيلية أو نتاجات جيراننا الأقربين أو العالم الأبعد ونحن جزء من هذا وذاك نظرياً إن لم نكن عملياً. وهل تم فرز أفعال الجمال المختلفة وإرجاعها الى مصادرها البيئية الأثرية المحيطية السسيولوجية الذائقة العامة أو الخاصة أو المستقبلية. هل توفرت نتاجاتنا على بعض من هذه أو تلك ولو انتقاءً لا تعميماً، هل هم (النقاد) مؤهلون لذلك لا كثرثرة غير منتجة للفعل المولد للمعاني والرؤى وإفراز الذائقة أو الذائقات الجمالية، ليس بإطلاق الألغاز وتجريح وإدانة الذات الخاصة والجمعية والنبش في العيوب الخلقية (فعل الخلق) وحدها من تفصح عن مكنونات أو مكونات أو محركات الفعل الجمالي.
لننظر بتمعن أو لنجرد مناطق أداءات فناني دول آسيا وحتى اختراقاتهم أو تأثرهم بالأداءات الغربية المركزية، كذلك فناني دول جنوب أمريكا واللاتينيين ومن قاربهم. اليسوا هم بعض منا بمشتركات بيئية وعاطفية وأثرية، اليست هناك مقاربات أدائية بين القلة المقتدرة فنياً والكثرة الهواة وللهواة حصة كبيرة في الدول الغربية نفسها كثقافة بصرية شعبية أو فطرية، فالإنسان بطبعه ميال للجمال والفن أحد أشهر السبل لإشهاره. فأيّ جمال اقترحته الذائقة الخاصة أو العامة وأيّ جمال تقترحه وسائل الميديا القاهرة. أن كان بعضنا يذهب بعيداً في اعتماد المفهوم الصوفي أو الإشارة المتكررة اليه بأداءات تلصيقية هي بالأساس لا تمت لعمق فنتازيا التصوف نظرياً وإجرائياً ما دام التصوف سلوكاً خارقاً يقارع الذات الخالقة لا الأشياء المادية الملموسة كما أصطلح عليها (المتشيئة) اقحاماً لما لا طاقة لنا به وأطلقنا العنان لفنتازيا موازية لكنها غير دالة إجرائياً. ربما قائل يستشهد بغزل إبن عربي الحسي بتأويل إلهي، فالأمر أعتقده صوتياً باطنياً أكثر منه تراكم حزوز رسوم وطبقات لونية هي أصلاً تابعة لمرجعية غربية رغم بعض عناصرها المحلية أو الأثرية.
لننظر الى العمل الفني كشكل فيزيائي (المظهر)، حجمه ولونه وملمسه وغيرها، إن لم تكن تضمن أو تمتلك الخصائص الجمالية (وهي أيضاً إشكالية الفنان والمتلقي) أو تظمرها بينتها الداخلية المطمورة خلف قشرتها أو على السطح. فبالتأكيد سوف لا يوصل اشاراته الجمالية في وسطه الحاضن. لكن ربما يكون له شأن أخر في وسط آخر. فللجمال أيضاً مرسلاته ومستقبلاته كما هو إرشيفه الماضوي وسلسلة تقلباته الذوقية وشؤونه وشجونه الخاصة والعامة. لذلك فالجمال (الفني) يبقى نسبياً سواء كان ذاتياً أو جمعياً للحد الذي باتت أحكامه الآن تشوبها الكثير من اختراقات المجتمع الاستهلاكي، بل باتت أحياناً مصدراً للكسب وآلاعيبه الميديوية المشتتة وباختلاط الخاص عاماً والعام شأناً بصرياً خاصاً.
لما بعد المعاصرة الفنية شؤونها المحيرة. فما الجمال في عمل علبة تحتوي برازاً أو دماً أو بولاً أو لحماً مقدداً أو مفصلاً على شكل أردية، علب معلبات غذائية، أسماك قرش وعجول وخراف، أنقاض أبنية وأزبال ونفايات، مقذوفة جميعها وما يشابهها بوجه المتلقي. ربما تكمن المعجزة التي ايقظتها ما بعد الحداثة في مزحة مقعد مرحاض (دوشامب) الدادائية الأولى في بداية القرن العشرين أن لم تكن هي بالذات. ان صنع اليأس مزحة دوشامب السوداء، فما بعد الحداثة كفرت بالقيم الثابتة للحداثة وصنميتها تشظياً يقود الى ما خلف المعقول والمنقول والأسطورة. لقد خلقت من الحطام والتشتت ايقونات جديدة تسوقها حسب مقاساتها فعلاً معقولاً من أجل أن يتجاوز لا معقوليته وبات الجمال مخفياً خلف فكرة مراوغة مصاغة بغرابة فعلها وردة أفعالها.
ما بعد الحداثة التي تأسست في فضاءات الفن الشعبي وسطوع أضوية النيون وانتقلت للهامش الاجتماعي: فنون الأقليات والجنس المختلف والنسوية والسود والزائل والعابر في عدم ثباته، لتأسس لجماليات عابرة محكومة بفترات زمنية قصيرة جعلت نتاجات معظم الفنانين موسمية للحد الذي بات فيه غالبيتهم يسعى للمتحرك والمختلف في بحثه ونتاجه الفني. لقد تحول الفنان (العالمي) الى سوبرمان استعراضي يعوم وسط جوقة مريديه من صناع الذائقة المتحركة ومزاج العصر المتقلب متسلحاً بفلسفة ما بعد الحداثة التفكيكية وما بعدها. فعل التشتت هذا لا بد أن تصاحبه ذائقة جمالية مشتتة أيضاً ولتتحول العناصر الجمالية للعمل الفني الى هامش ذوقي. وسط هذا اللجّة، هل يحق لنا أن نحاسب العمل الفني المعاصر لبعض تشكيليينا بنفس أحكام الحداثة السابقة وجمالياتها المعروفة. أعتقد أن الأمر التبس على العديد منا أحكاماً لا تخضع لبنية العمل المعاصر وغالباً لفكرته التي تراوغ الأحكام الجمالية المألوفة.
للحداثة مكتشفاتها الفنية التي استقتها من الموروث الغربي والافريقي والشرقي مناطق أو مدارس تصور وأداء معروفة وحتى الفنتازية أو اللا معقولة منها كانت متجذرة في ثقافة ما قبل زمنها، لذلك حافظت بشكل ما على عناصر القيمة الجمالية، ولو بتفاوت مناطق أداءاتها، بالوقت الذي سعى فيه مثلاً (جاكسون بولوك) لإلغاء عمل الدماغ وتفعيل ميكانيك الأداء غير المقصود و(روبرت سمثسون) لتفعيل فكرة أداء الطبيعة، جيف جونز والاشتغال على اللقى والجاهز معملياً، ماريا ابراموفش وأداءاتها التخاطرية والمازوشية، روبرت بمخازن انقاض الحديد وغير ذلك من استبدال فعل اليد بالمكننة وصولاً للديجتال وعوالمه للحد الذي فقدنا بوصلة الفعل الجمالي أو أضعنا خيوط الكثير من معالمه المألوف، غرابة جمالية بالتأكيد نحن نعوم وسط حواضنها، بالتوازي وغرابة سلوكية غير مألوفة بالنسبة لنا وحتى للمتلقي الغربي أحياناً أو غالباً. فللعمل الفني أيضاً تاريخه السلوكي وعلينا إن أردنا العوم في وسطنا الفني الحالي أن نتجنب ردة فعل الغرابة لأفعالها الإدراكية وغير المدركة لكي نكون جزءاً لا يتجزأ من محيطنا الاغترابي الجديد شئنا أم أبينا، في انتظار أفعال جديدة لا بد أن تتحقق بعد هذه (الفوضى الخلاقة) وعلامة استفهاماتها الكبيرة، وهو ما تشير اليه بوادر فلسفة جديدة لعصر جديد.