منذ قديم الأزل ويحاول الإنسان أن يبحث عن غاياته المنشودة في تحقيق السعادة والرخاء والأمن والاستقرار، وعبثًا يحاول أن يصل إلى الكمال، فالكمال لله وحده. كان أفلاطون عرّاب ما أطلق عليه “اليوتوبيا” أي المدينة الفاضلة والتي سيجد فيها الإنسان كل احتياجاته دون نقص. لكن ما لا نعلمه أن هذه المدينة تمنع وجود المرضى أو المعاقين. فأين المثالية التي يتحدث عنها؟! وهل المثالية تقتصر على الشكل مع إهمال المضمون؟
كانت مدينة أفلاطون نقطة انطلاق لمجموعة من أغرب المجتمعات التي نشأت في العالم باحثة عن الكمال، لكنها فشلت وانتهت، فلم يدرك صنّاعها أن المثالية غير موجودة إلا في الأحلام البعيدة، لأننا بشر يعترينا النقص. فمهما ظننا أننا بلغنا مراتب من الكمال، فالله وحده جل جلاله هو جامع الكمالات كلها ذاتًا ووصفًا وفعلًا.
كان من المفترض أن تكون مدينة مثالية في صحراء أريزونا، لكن أمرها انتهى. المهندس المعماري “باولو سوليري” والذي يقوم مجتمعه على منظومة فريدة تجمع بين الهندسة المعمارية والنظم البيئية والتي تسعى لخلق هياكل مكتفية ذاتيًا ومنسجمة مع محيطها الطبيعي. مدينة سوليري كانت مصممة لتستوعب 5 آلاف مواطن. يجمع التصميم المعماري للمدينة بين مزيج من الخيال العلمي وما يشبه مواقع تصوير أفلام للمخرج أنطونيوني. لا تزال مدينة أركوسانتي موجودة إلى اليوم، لكنها لم تحقق حلمها في إسكان 5 آلاف شخص، فهي لا تعدو أكثر من كونها بناء معماريًا!
وهو مجتمع نشأ في المملكة المتحدة في القرن الثامن عشر الميلادي. “Shakers” تعني المجموعة التي تؤمن بظهور المسيح مرة أخرى. وقد بدأ المجتمع في ماونت ليبانون في نيويورك عام 1784م. وبحلول القرن التاسع عشر كان هناك أكثر من 20 مجتمعًا من “Shaker” في أمريكا، وقد جذبت هذه المجموعات حوالي 20 ألف شخص. واتبعت هذه المجتمعات البساطة في الحياة، والعزوبة، والمسالمة، والملكية الجماعية للسلع. كما أن للرجال والنساء أدوارًا متساوية في الطائفة الدينية. ومع بداية القرن العشرين تضاءل عدد مجتمعاتهم، إلى أن أصبحت 12 مجتمعًا في الولايات المتحدة. وقد تحولت معظم مستوطنات “Shakers” إلى متاحف فيما بعد.
في عام 1895م، بدأ كل من أوليفر فريتي، وجورج ألين، و بي إف أوديل مجتمع “Home Colony” في فون جيلدرون كوف في واشنطن. جذب المجتمع مجموعة كبيرة من الاشتراكيين، والمتشددين، والمفكرين الأحرار، وغيرهم من غريبي الأطوار والفوضويين الذين لا ينسجمون مع المجتمع. في أوج ازدهار هوم كولوني عام 1910م كان يضم 200 شخص، كما كانت له صحفه الخاصة. لكن بدأت مشاكل المجتمع بالظهور حين تغيرت مخططات حصة الأراضي الخاص به، كما زادت الرقابة المشددة عليه بعد اغتيال الرئيس الأمريكي ماكينلي على يد أحد الفوضويين وهو “ليون كولغوش”.
أنشأها وزير الموحدين “جورج ريبلي” في ويستر وكسباري في ولاية ماساشوستس عام 1841م. والتوحيدية “Unitarianism” هي عقيدة مسيحية تؤمن بوحدانية الله وترفض التثليث، تؤمن أن المسيح هو بشكل من الأشكال ابن الله –معاذ الله-، لكنه ليس الإله الواحد. مفهوم هذا المجتمع يقوم على عمل الأعضاء في المزرعة، ومحلات التصنيع التابع لها، وأداء الأعمال المنزلية. وفي المقابل يحصل الأعضاء على المأكل والمشرب والتعليم المجاني في مدارس المجتمع، حيث عليهم إكمال 300 يوم من العمل. وقد تم تصميم هذا النهج الطائفي، لجعل الأعضاء يتابعون مساعيهم العملية. وقد ازدهرت المستوطنة في البداية، لكن مع بدء الخلاف والاقتتال عام 1844م حيث لم يستمر تقديم احتياجات الأعضاء من اللحوم والزبدة والشاي والقهوة، ما اضطر الناس لتركها، وقد أُغلقت المزرعة عام 1847م.
أسس جون همفري نويس مجتمع أونيدا عام 1848م والذي يقوم على الزواج المركّب، حيث يعتبر العضو نفسه متزوجًا من كل عضو في المجتمع، لكن العلاقة يجب أن تكون فردية مع الله. استند نويس بفكرته على تعاليم مسيحية تقول أن لا زواج في الجنة، وأن كل الرجال في الأرض متزوجون من جميع النساء، كما أنه يجب أن تكون لدى النساء مجموعة من الشركاء الجنسيين. رفض مجتمع أونيدا الزواج الفردي، وكان يؤمن بالحب الحر. فرّ نويس من مجتمعه عام 1879م بعد تنبيهات له بإمكانية إلقاء القبض عليه بتهمة الاغتصاب.
عُرفت بمدينة النباتيين أيضًا، أسستها شركة “Vegetarian Kansas Emigration Company” عام 1856م، وكانت تهدف لإنشاء مدينة مثالية في هامبولديت في كنساس مخصصة للنباتيين فقط. تأثرت المدينة بـ “أورسون سكوير فاولر” والذي كان يؤمن أن المنازل ثمانية الأضلاع هي الأفضل لأنها تسمح بدخول الضوء. لكن المدينة فشلت، فقد انضم لها 100 شخص فقط. وبحلول 1857م لم تبقَ بها إلا أربع عائلات.
تأسس مجتمع فروت لاندز عام 1843م على يد برونسون آلكوت وتشارلز لين، وقد استمر لستة أشهر فقط. فروت لاتدز كانت بلدية زراعية في هارفارد في ولاية ماساشوستس. كانت تسعى للاكتفاء الذاتي والحرية الكاملة. كان أعضاؤها يشربون الماء فقط، وكان من المحظور تناول اللحوم، أو استخدام المنتجات الحيوانية. كما كان لديهم نظام غذائي قاسٍ بالحبوب والفواكه. وكان يُمنع عمل الحيوانات، حيث كان التحدي بالاعتماد على اليد البشرية بالعمل. لكن المزرعة لم توفر الطعام الكافي لأبنائها.
في العشرينيات كان إمبراطور السيارات “هنري فورد” لديه المئات من السيارات التي تحتاج إلى إطارات جديدة لكن أقطاب المطاط في هولندا وإنجلترا كانوا يسيطرون على السوق. لذلك عمل فورد على تأسيس فوردلانديا وهي مزرعة مطاط وسط غابات الأمازون. كان في المزرعة مستشفى حديث، وملعب جولف، ومحطة كهرباء، وفندق، ومنازل. أراد فورد أن ينقل الحلم الأمريكي إلى الغابة، لكنه أثبت فشله. فلم يرغب العاملون في العمل من التاسعة إلى الخامسة بسبب الحر الشديد. فالأوضاع الفقيرة للعاملين أدت لإضرابهم. كما أن زراعة أشجار المطاط كانت أصعب مما يُتوقع.
هو مشروع تصورّه هتلر عام 1938م، وقام بتصميمه المهندس الناري ألبرت سبير. وكان الهدف هو تنشيط العاصمة الألمانية لما يسمى بالإمبراطورية العالمية. وهو مصطلح يدل على مخطط بناء ومجسم للعاصمة برلين. انتهى الحلم بهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية.
سبق وأن تناولنا الحديث عن تأسيس كنيسة معبد الشعوب على يد القس جيم جونز، وحادثة الانتحار الجماعي في غيانا عام 1978م. فقد بدأ جونز بتأسيس كنيسته معبد الشعوب عام 1956م في إنديانا، وبدأت تتوسع فروع هذه الكنيسة في لوس أنجيلوس وسان فرانسيسكو، وأصبح عدد الأعضاء إلى 1000 عضو. وفي بداية السبعينيات بدأ جونز العمل على تأسيس مدينة جونز تاون في غيانا، وحاول إقناع أتباعه بالانتقال إلى المدينة التي ستكون جنة اشتراكية وملاذًا آمنًا لهم. وحين انتقل الأتباع إلى المدينة بدأ جونز يتغير ويتحول إلى شخص سيء فاشتكوا من سوء المعاملة. أصبح جونز يعاني من جنون العظمة والسيطرة. حينها بدأ عدد من الأعضاء بطلب المغادرة. لكن الكارثة قد حلّت، ففي الثامن عشر من نوفمبر عام 1978م أجبر جونز أكثر من 900 شخص على الانتحار الجماعي بمشروبات مسمومة بالسيانيد. لينتهي حينها حلم المدينة الفاضلة!