بعض الأسباب والدوافع المؤدية إلى الانحراف والتطرف، لعل الله أن ينفع بها المشتغلين بالدعوة وغيرهم، وقد جاء هذا البحث في ستة مباحث، وهي على النحو الآتي بعد مقدمة وخاتمة وفهارس:
المبحث الأول: الأسباب الاجتماعية .
المبحث الثاني: الأسباب الفكرية .
المبحث الثالث: الأسباب السياسية .
المبحث الرابع: الأسباب الاقتصادية .
المبحث الخامس: الأسباب التربوية .
المبحث السادس: الأسباب الإعلامية .
الخاتمة.
وفي الختام: أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لصالح القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المبحث الأول
الأسباب الاجتماعية
ذكر عدد من الباحثين في هذا الموضوع أن من أهم الأسباب المؤدية إلى الانحراف والتطرف منها ما هو راجع إلى المجتمع، ولعلي ألخص الأسباب الاجتماعية للانحراف والتطرف في النقاط التالية:
الأولى: ظهور التناقض في حياة الناس .
إن من أسباب نشوء الأفكار الضالة ظهور التناقض في حياة الناس، وما يجدونه من مفارقات عجيبة بين ما يسمعون وما يشاهدون، فهنالك تناقض كبير أحيانًا بين ما يقرؤه المرء وما يراه، وما يتعلمه وما يعيشه، وما يُقال وما يُعمل، وما يدرَّس له وما يراه، مما يحدث اختلالًا في التصورات، وارتباكًا في الأفكار .
الثانية: اختلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم .
إن قيام أمور حياة الناس الدينية والدنيوية معتمد بعد الله على وجود الآمر الناهي المنظم لشؤون الأمة وأمورها .
ومن كمال هذا الدين أنه ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، لأن من شأن ضبط هذه العلاقة انضباط أمور الأمة ، وسيرها في حياتها على السواء .
ومما يلفت النظر هنا أن ضبط هذه العلاقة جاء بأسلوب شرعي بديع هو : توجيه كل من الطرفين : الحاكم والمحكوم إلى القيام بالمهام المنوطة به والواجبات الموكلة إليه بأسلوب قوي ، فإذا نظرت إلى النصوص الواردة في شأن الحاكم وحقوق الرعية عليه والواجبات المنوطة به ظننت أن الشرع مائل إلى جانب الرعية، وإذا نظرت إلى النصوص الواردة في شأن الرعية وحقوق ولي الأمر عليهم من الطاعة والنصرة ونحوها ظننت أن الشرع مائل إلى جانب الحاكم، والموقف كما هو واضح يتشكل من مجمل النظر إلى النصوص الواردة في ذلك . وعلى الإمام إقامة الدين والحكم بشريعة سيد المرسلين وإصلاح أمر المسلمين والرفق بهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى الرعية السمع والطاعة وعليهما التناصح والشورى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”( ) .
الثالثة: التفكك الأسري والاجتماعي .
وهذا الحال تشهدها عديد من البلاد الأجنبية وعدد من البلاد العربية مما يؤدي إلى انتشار الأمراض النفسية ونسبة المجرمين والمنحرفين والشواذ .
وقد أدرك الغرب أن أخلاق كثير من الأطفال تفسد في سن مبكرة بسبب المحيط السيئ والوسط الفاسد الذي يفتقد المراقبة والتوجيه السليم .
وحرمان الطفل من هذه الحاجات ومعاملته بالقسوة منذ صغره سوف يساعده على أن ينشأ قاسياً ناقماً على الناس، يتخذ من الانحراف وسيلة للثورة على مجتمعه وبيئته وما يحمله من مفاهيم ومعايير ومثل متحديا جميع الاعتبارات غير عابئ بها( )، ونستشهد بحادثة عن الرسول عليه الصلاة والسلام ، فقد روي أنه قبّل الحسن فقال له أحد الصحابة : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فقال الرسول الكريم :”من لا يرحم لا يرحم “( ). كما أن تفكك المجتمع وعدم ترابطه لا يشعر الشخص أمام هذا المجتمع المفكك بالمسئولية تجاهه، ولا الحرص عليه، ولا الاهتمام به، ولا مراعاة الآخرين، فهذا يولد حالة من الشعور بالحرص الشديد على اقتناء كل جيد فيه وإن لم يكن حقه وحين يمنع يتذمر ويزداد الأمر سوءًا، لذلك المجتمع المترابط والأسرة المتماسكة تحيط الأشخاص بشعور التماسك، والتعاون ومن شذ منهم استطاعوا استواءه ورده عن الظلم لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-” انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا”( )، فنصرته ظالمًا بمنعه عن ظلمه والأسرة المتماسكة أقدر على ذلك .
الرابعة: الفراغ .
يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-:” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة، والفراغ”( ) ،فهاتان نعمتان كثيرًا ما يغبن فيها الإنسان، فإن الفراغ مفسدة للمرء وداء مهلك ومتلف للدين ونفسك إن لم تشغلها شغلتك، فإن لم تشغل النفس بما ينفع شغلتك هي بما لا ينفع، والفراغ النفسي والعقلي أرض خصبة لقبول كل فكر هدام وغلو وتطرف، فتتغلل الأفكار وتغزو القلوب فتولد جذورًا يصعب قلعها إلا بالانشغال بالعمل الصالح والعلم النافع .
إن الفراغ والشباب والجدَه … مفسدة للمرء أي مفسده .
الفراغ سم قاتل، وداء مهلك، ومرض فتاك، إنه مفسدة للعقل، مهلكة للنفس، متلفة للدين، محضن للإرهاب، من رحم الفراغ تولد الضلالة، وفي أحضانه تنشأ البطالة، وفي كنفه تعيش الشبه .
وهو عدو متربص تجب محاربته باستهلاك طاقات الشباب المتعددة، وأرواحهم المتوقدة، وتسخير مواهبهم لخدمة الحق، وتشجيع طموحاتهم لصالح الأمة( ) .
المبحث الثاني
الأسباب الفكرية
يعد العامل الفكري من أهم الأسباب التي يؤدي إلى الانحراف والتطرف في الأمة، وتجدر الإشارة إلى أهم النقاط التي ذكرها العلماء في هذا الصدد، وهي على التالي:
الأولى: معاناة العالم الإسلامي اليوم من انقسامات فكرية حادة بين تيارات مختلفة .
علماً بأن مرجع هذه المعاناة وما ترتب عنها من مشكلات وانقسامات هو الجهل بالدين والبعد عن التمسك بتوجيهات الإسلام، ومن أبرز التيارات المعاصرة، هي:
1- تيار علماني : يدعو إلى بناء الحياة على أساس دنيوي، وغير مرتبط بالأصول الشرعية، ولا بالتقاليد والعادات والموروثات الاجتماعية الأصيلة، هي من وجهة نظر أصحاب هذا الاتجاه، عوائق في طريق التقدم والانطلاق نحو الحضارة .
2- تيار ديني متطرف : يعارض المدنية الحديثة وكل ما يتصل بالتقدم الحضاري، فهي من وجهة نظرهم ليست إلا فساداً في الأخلاق، وتفككاً في الأسر، وجموداً في العلاقات الاجتماعية، فهم يرون أن الحضارة تجعل الفرد يعيش لنفسه ملبياً لرغباتها، متنكراً للآداب والفضيلة، ولذا فكل جانب يرفض فكر الآخر ويقاومه، وينظر إليه نظرة ريب وشك دون تمحيص وتقويم، ليصل إلى الحق والمبادئ الأساسية فيها، ليقارنها بما عنده من أصول ومبادئ يمكن أن تكون عاملا مشتركا يجمع بينها ويكون فيه الخير لكلا التيارين( ).
الثانية: الجهل بقواعد الإسلام وآدابه وسلوكه .
إن من علامات الساعة أن يتحدث الرويضبة في شأن العامة، والقضايا المصيرية، ومن لا همَّ له إلا شهواته، أو من حُمّل بأفكار غريبة يتولى تربية الشباب فتستغل عواطفهم بتحميلهم أفكارًا تؤدي لتحمسهم بلا ضابط ولا رادع ولا رجوع لأهل العلم الصالحين، الذين خبروا الأمور ودرسوا معالم الإصلاح جيدًا، ولا نجد تعليلاً لذلك إلا الجهل، فالجهل داء عظيم، وشر مستطير تنبعث منه كل فتنة عمياء وشر وبلاء، قال أبو الدرداء- رضي الله عنه- : ” كن عالماً أو متعلماً أو مجالساً ولاتكن الرابعة فتهلك، وهي الجهل”( ) .
ومنه حديث : ” ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما دواء العِيَّ السؤال”( ) ، وحديث : ” من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين “( )، ويندرج في ذلك القول في دين الله بغير علم؛ وذلك أن الجاهل يسعى إلى الإصلاح، فينتهج طرقاً يظنها حسنة فيسيء من حيث أراد الإحسان، فيترتب على ذلك مفاسد عظيمة، كالذي يريد أن ينكر وجود الكفار في الجزيرة فيفجر ديارهم ومساكنهم وفيهم من ليس منهم، بل قد أمرنا أن لا نسيء إليهم للعهد الذي بيننا وبينهم والأمان الذي أخذوه من ولي أمر المسلمين . هذا بالإضافة إلى شموله من ليس منهم، فيضاعف تلك المفاسد الناشئة عن ذلك( ) .
الثالثة: الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت .
إن الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم؛ ألا ترى إلى الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي ؟ لأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-وصفهم بأنهم: ” يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم”( )، يعني – والله أعلم – أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم، لأن الفهم راجع إلى القلب، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال، وهذا يقف عند محل الأصوات والحروف فقط، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم .
وقد وقع لابن عباس- رضي الله عنه- تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه، فروى البيهقي في شعب الإيمان عن إبراهيم التيمي قال: خلا عمر رضي الله عنه ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس- رضي الله عنهما- فقال: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة – زاد سعيد: وكتابها واحد ؟ – قال: فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين: إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيما أنزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان كذلك اختلفوا، وقال سعيد: فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا ! قال: فزجره عمر وانتهره عليّ، فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال، فعرفه، فأرسل إليه وقال: أعد علي ما قلته، فأعاد عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه! ( ) .
وما قاله ابن عباس- رضي الله عنهما- هو الحق، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية والسورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها، فلم يتعد ذلك فيها، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجهًا، فذهب كل إنسان فيها مذهبًا لا يذهب إليه الآخر، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات، فلم يكن بد من الأخذ ببادي الرأي، أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئًا، إذ لا دليل عليه من الشريعة ، فضلّوا وأضلوا .
الرابعة: الغلو في الفكر: وهو مجاوزة الحد .
وهذا الغلو أو ما قد يصطلح عليه ب (التطرف) خطير جدًا في أي مجال من المجالات، والإسلام قد حذر منه حتى ولو كان بلباس الدين يقول النبي صلى الله عليه وسلم:” إياكم
والغلو”( )، ويقول- صلى الله عليه وسلم-:” هلك المتنطعون”( ) .
فمن يتصف بهذا الغلو ويجاوز الحد في فهم النصوص فيعمل ويعتقد في العموميات ويترك النصوص التفصيلية الأخرى، وهذا شعار الخوارج: العمل بالنصوص العامة وإهمال باقي النصوص وعدم استقصاء الأدلة وأحوالها .
ومن دلائل هذه الضحالة الفكرية، وعدم الرسوخ في فقه الدين، والإحاطة بآفاق الشريعة: الميل دائمًا إلى التضييق والتشديد والإسراف في القول بالتحريم، وتوسيع دائرة المحرمات، مع تحذير القرآن والسنة والسلف من ذلك .
وحسبنا قوله تعالى:ﭽ النحل (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)( ) .
وكان السلف لا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزمًا، فإذا لم يجزم بتحريمه قالوا: نكره كذا، أو لا نراه، أو نحو ذلك من العبارات، ولا يصرحون بالتحريم، أما الميالون إلى الغلو، فهم يسارعون إلى التحريم دون تحفظ، بدافع التورع والاحتياط، إن أحسنا الظن، أو بدوافع أخرى، يعلم الله حقيقتها .
فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن أبي نعيم قال:”جاء رجل إلى ابن عمر وأنا جالس ، فسأله عن دم البعوض ؟ – وفي طريق أخرى للحديث أنه سأله عن محرم قتل ذبابًا – فقال له: ممن أنت ؟ قال: من أهل العراق . قال: ها ! انظروا إلى هذا ، يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (يعني الحسين رضي الله عنه) وقد سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول:” هما ريحانتاي من الدنيا”( ) .
ومن دلائل عدم الرسوخ في العلم، ومن مظاهر ضعف البصيرة بالدين: اشتغال عدد من هؤلاء بكثير من المسائل الجزئية والأمور الفرعية، عن القضايا الكبرى التي تتعلق بكينونة الأمة وهويتها ومصيرها .
هذا في الوقت الذي تزحف فيه العلمانية المتجردة من الدين، وتنتشر الماركسية الإلحادية، وترسخ الصهيونية أقدامهم، وتكيد الصليبية كيدها، وتعمل الفرق المنشقة عملها في جسم الأمة الكبرى، وتتعرض الأقطار الإسلامية العريقة في آسيا وأفريقيا لغارات تنصيرية جديدة يراد بها محو شخصيتها التاريخية وسلخها من ذاتيتها الإسلامية، وفي الوقت نفسه يُذبح المسلمون في أنحاء متفرقة من الأرض، ويضطهد الدعاة الصادقون إلى الإسلام في بقاع شتى .
فإذا كان في الفقه رأيان: أحدهما يقول بالإباحة والآخر بالكراهة ، أخذوا بالكراهة ، وإن كان أحدهما بالكراهة ، والآخر بالتحريم ، جنحوا إلى التحريم .
وإذا كان هناك رأيان :(أحدهما ميسر ، والآخر مشدد ، فهم دائمًا مع التشديد ، مع التضييق والدين براء من كل هذه التُرهات . . . جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عن أبي هريرة في البخاري مرفوعًا : ” لن ينجي أحدًا عمله” قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ” ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا”( ) .
الخامسة: تقصير بعض أهل العلم في القيام بواجب النصح والإرشاد والتوجيه: ( )
أهل العلم هم المكلفون بذلك ببيان الحق للناس، وهدايتهم إليه وتلك مسئولية كبرى تقع على أهل العلم والفقه والمعرفة، فإن الله- جل وعلا- حملهم مسئولية عظمى من هداية البشرية، ونشر العلم، وبذل النصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإبلاغ الحق، وتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل، فمتى ما أهمل العلماء هذه المسئولية العظمى فإن البلدان تخرب، والقلوب تظلم، والنفوس تتيه، والأفكار تزيغ، والباطل يصول، والضلال يجول .يقول تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)( ) .
السادسة: اعتماد الشباب بعضهم على بعضٍ دون الرجوع إلى العلماء:
يقول ابن مسعود رضي الله عنه( ) : “لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم وعلمائهم فإذا أخذوه عن صغارهم وشرارهم هلكوا”( ) . قال ابن قتيبة في تفسير ذلك: “لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ ولم يكن علماؤهم الأحداث لأن الشيخ قد زالت عنه حِدَّة الشباب ومتعته وعجلته، واستصحب التجربة في أموره فلا تدخل عليه في علمه الشبه، ولا يستميله الهوى، ولا يستزله الشيطان، والحَدَثُ قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخ” .
كما روى أميمةُ الجمحي عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال:” إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر”( ).
وقال الحجاج بن أرطأة : “كانوا يكرهون أن يحدث الرجل حتى يُرى الشيب في لحيته”( ) ، ويدخل في هذا القيام الاعتماد على الكتب دون القراءة على العلماء . قال الشافعي :” من تفقه في بطون الكتب ضيع الأحكام ومن كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه” ( ) .
وقد أدى ذلك إلى ضعف البصيرة عند هؤلاء: وهذا ما جعلهم لا يسمعون لمن يخالفهم في الرأي ، ولا يقبلون الحوار معه ، ولا يتصورون أن تتعرض آراؤهم للامتحان، بحيث توازن بغيرها، وتقبل المعارضة والترجيح .
وربما كان ثمة معارض أقوى وهو لا يعلم، لأنه لم يجد من يوقفه عليه، وغفل هؤلاء الشباب المخلصون أن علم الشريعة وفقهها لا بد أن يرجعوا فيه إلى أهله الثقات، وأنهم لا يستطيعون أن يخوضوا هذا الخضم الزاخر وحدهم، دون مرشد يأخذ بأيديهم، ويفسر لهم الغوامض والمصطلحات، ويرد الفروع إلى أصولها، والنظائر إلى أشباهها .
وهذا ما جعل علماء السلف يحذرون من تلقي العلم عن هذا النوع من المتعلمين، ويقولون: لا تأخذ القرآن من مصحفي، ولا العلم من صُحُفي، يعنون بالمصْحفي: الذي حفظ القرآن من المصحف فحسب ، دون أن يتلقاه بالرواية والمشافهة من شيوخه وقرائه المتقنين .
والإسلام كاملٌ في عقيدته وشريعته وآدابه وأخلاقهِ وسلوكه ، والدعوةُ إليه دعوة إلى كل ذلك ، فلو كانت تلك الفرقُ والجماعاتُ والأحزاب داعية إلى الإسلام بحق لكانت ناجحة في دعوتها سليمة في طريقتها ، والإسلام جامعٌ غير مفرِّق ، ومؤلف غير ممزِّق ، وموحِّدٌ غير مشتِّت .
فكل من خالف منهج الإسلام في جمع الأمة وتوحيدها وتأليفها ، ففي دعوته انحرافٌ ، وفي سعيه اعتسافٌ . وما ابتليت الأمة ببليةٍ كانت عليها طامة مثل بلية التفرق والتحزب:
الروم (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)( ).
ولهذا كان من الواجب الأعظم على الأمة أن تدرأ عن نفسها خطر أصحاب التفرق والتحزب والتمزق ، بعدم الانخداع بمقولاتهم المعسولة ، وعدم الدخول معهم في جماعاتهم وفرقهم وأحزابهم، وأن يحُذِّر بعضها بعضًا من أخطارهم، وأن تعتصم بحبل الله تعالى، وأن تنهج على طريقةِ سلفها الصالحِ الذي لم يعرفْ إلى التفرقِ والتحزب والتمزق طريقًا!!
فهذا هو النصحُ الواجبُ في دينِ الله تعالى وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو المنهجُ السليمُ الذي يُعيدُ للأمةِ وحدتها وقوتها وعزتها ، فإلى هذا السبيلِ فادعوا . . وعلى هذا الطريق فسيروا( ) أيها المؤمنون!!!
وكان الأولى بهؤلاء أن يصرفوا جهودهم إلى ما يحفظ على المسلمين وناشئتهم أصل عقيدتهم ، ويربطهم بأداء الفرائض ، ويجنبهم اقتراف الكبائر ، ولو نجح المسلمون في تلك الأقطار الأجنبية في هذه الثلاث: حفظ العقيدة ، وأداء الفرائض ، واجتناب الكبائر ، لحققوا بذلك أملًا كبيرًا وكسبًا عظيمًا .
ومن المؤسف حقًا أن من هؤلاء الذين يثيرون الجدل في هذه المسائل الجزئية وينفخون في جمرها باستمرار ، أناسًا يعرف عنهم الكثيرون ممن حولهم ، التفريط في واجبات أساسية مثل: بر الوالدين ، أو تحري الحلال ، أو أداء العمل بإتقان ، أو رعاية حق الزوجة ، أو حق الأولاد ، أو حق الجوار ، ولكنهم غضوا الطرف عن هذا كله ، وسبحوا بل غرقوا في دوامة الجدل الذي أصبح لهم هواية ولذة ، وانتهى بهم إلى اللدد في الخصومة والمماراة المذمومة . وهذا النوع من الجدل هو الذي أشار إليه الحديث :” ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل”( ) .
ومثل هذا الموقف المتناقض – الاجتراء على الكبار والوسوسة في التوافه – هو ما أثار الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، حين سأله من سأله من أهل العراق عن دم البعوض ونحوه بعد قتل السبط الشهيد سيد الشباب: الحسين بن علي رضي الله عنهما( ) .
السابعة: تشويه صورة الإسلام والمسلمين :
إن دين الإسلام هو دين العدالة والكرامة والسماحة والحكمة والوسطية، وهو دين رعاية المصالح ودرء للمفاسد .
إن أفعال الناس المنتسبين إلى الدين ، تنسب عادة إلى الدين ذاته، فإذا غلا امرؤ في دينه فشدد على نفسه وعلى الناس، وجار في الحكم على الخلق، نسب الناس ذلك إلى دينه فصار فعله ذريعة للقدح في الدين .
إن الغلو في الدين في العصر الحديث شوه الدين الإسلامي الحنيف، ونفر الناس منه، وفتح الأبواب للطعن فيه، فتجرأ أناس على أفعال وأقوال لم يكونوا ليجرءوا عليها لولا وجود الغلو والغلاة، فسمع الطاعنون في الشريعة( ) .
و يجدر بالذكر هنا الدراسة الميدانية أعدت، والتي أجمع معظم أفراد عينة البحث على دور العامل الفكري في تكوين السلوك الإرهابي لجميع المنظمات المتطرفة والإرهابية؛ حيث أشاروا إلى أن الإرهابي شخص يرفض الواقع، ويسعى لمحاربة المبادئ، والمعتقدات السائدة، ويرى أفراد العينة أن أصحاب الفكر السوي لا يمكن أن يلجئوا إلى معالجة قضاياهم عن طريق القتل والتدمير أو إلحاق الضرر بالآخرين، مؤكدين أن الفكر السوي هو الذي يعالج قضاياه وفق الطرق الشرعية، وقد أكد أفراد العينة على أن الحماية الفكرية مطلب ضروري في وقاية المجتمعات الإسلامية من التأثر بالتوجهات الفكرية الخطيرة( ) .
المبحث الثالث
الأسباب السياسية
إن من أهم الأسباب التي تؤدي إلى الانحراف والتطرف هي القضايا التي إلى سوء السياسة، وألخص هذه الأسباب السياسية في النقاط التالية:
الأولى: البعد عن شريعة الله .
إن البعد عن شريعة الله هو سبب الضلال والعمى والشقاء الذي نعاني منه الآن في كثير من بلدان الإسلام ، فالله تعالى يقول:(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ). والمعيشة الضنك هي الضيق وهي الشقاء .
إذن فالبعد عن تطبيق القواعد المتوافقة مع الشريعة الإسلامية في شئون الحياة كلها سبب للشقاء ، ومن أنواع الشقاء الإرهاب والعنف والتطرف( ) .
الثانية: التناقض الفاضح بين ما تحض عليه مواثيق النظام السياسي الدولي:
وذلك أنه من مبادئ وما تدعو إليه من قيم إنسانية ومثاليات سياسية رفيعة، وبين ما تنم عنه سلوكياته الفعلية، والتي ترقى به إلى مستوى التنكر العام لكل تلك القيم والمثاليات، هذا التناقض مدعاة لظهور بعض الممارسات الإرهابية الدولية كصرخة احتجاج مدوية على ما يحمله هذا التناقض الصارخ بين القول والفعل من معان( ) .
الثالثة: الإحباط السياسي:
فإن كثيرًا من البلدان العربية والإسلامية لم تكتف بتهميش الجماعات الإسلامية وعدم الاكتراث لها، بل وقفت في وجهها، وتصدت لأربابها، وحصرت نشاطها، وجمدت عطاءها، حتى في بعض البلدان التي تدعي الديمقراطية وحرية الرأي، فإن هذه الأمور إذا جاءت في صالح تيار إسلامي، أو جماعة إصلاحية فسرعان ما يتحول الأمر إلى المنع والقمع والتصدي والتحدي مهما كانت الجماعة معتدلة، والتيار متسامحًا، والحزب متنورًا، وهذا من شأنه أن يولد المنظمات السرية، والتوجهات المناهضة، وردود الأفعال الغاضبة التي لا تجد ما تصب فيه غضبها ، وتفرغ فيه شحنات عواطفها إلا امتطاء صهوة الإرهاب ، وذلك ما تمثل واقعًا حيًا مشاهدًا في كثير من البلدان( ) .
الرابعة: الاعتماد على مصادر مغايرة لمصادر الشريعة الإسلامية في التحاكم إليها.
كالاعتماد على العقول المجردة الفاسدة، والمناطق والفلسفات الكلامية العقيمة التي نُزع ما فيها من خير . واعتبر بحال المعطلة وغلاتهم وأمثالهم .
الخامسة: إهمال الرعية أو التقصير في أمورهم وما يصلحهم .
لا شك بأن إهمال الرعية أو التقصير في أمورهم وما يصلحهم من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى الانحراف والتطرف؛ وذلك أنه يجب على جميع من يلي أمرًا من أمور المسلمين أن يقوم بما أمره الله به بأداء الأمانة، وحفظ الديانة، والنصح للأمة، والصدق مع الرعية، وتلمس حاجات الناس، وتحقيق الحياة الكريمة لهم، والاستفادة من طاقاتهم، وشغل أوقاتهم، وتسهيل أمورهم المادية والمعيشية، وأمورهم المعنوية والإنسانية، وإشاعة التعليم، وتشجيع المعرفة، وصيانة العقول، والحفاظ على الأفكار . . وهكذا من القيام بكل ما من شأنه أن يحفظ الأجسام والأفهام، والقلوب والعقول، والأخلاق والأرزاق، ومتى ما أهمل أرباب المسؤولية رعاياهم، أو قصروا مع شعوبهم، أو تشاغلوا عن محكوميهم، فذلك مفتاح الضياع ، وطريق المهالك ، ومتنفس الضلال ” كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته”( ) .
السادسة: المظالم التي ترتكب من قِبَل منْ شأنهُم أن يعدلوا بين الناس.
ولا شك بأن المظالم يوجد روحًا من السخط تتيح الفرصة للتعبير عن الرأي الذي حكر أو سجن أو عوقب صاحبه وضيق عليه ، حيث لمّا عدل العُمَرَان – عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما- أمنا فناما، ولما طعن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أرسل إلى ناس من المهاجرين فيهم علي- رضي الله عنه- فقال: عن ملأ منكم هذا؟ فقال علي معاذ الله أن يكون هذا عن ملأ منا، ولو استطعنا أن نزيد من أعمارنا في عمرك لفعلنا” ( )، ولما جاء أهل الكوفة وقد رفضوا واليهم: (أبدلهم عمر فورًا بغيره)، وهكذا ، فسلب الحقوق السياسية والمالية والاجتماعية التي هي نتيجة المظالم يوجد احتجاجًا لدى الرأي العام فما خرج الثوار – زاعمين كذبًا – على عثمان بن عفان رضي الله عنه إلا لزعمهم أن هناك مظالم ثلاثًا!! ( ).
ولا شك أن ما كان سياسيًا في داخل أي مجتمع لا يحل بشكل إيجابي بنَّاء ، فلا يصح إعطاء المشروعية لأي حل من الحلول ، يقوم على أساس وسائل القهر والإكراه ، وإثارة القلاقل والفتن .
روى أبو داود في سننه بسنده عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه حين سأل رسول الله ( ما يفعل في حال الفتنة في المجتمع ، فأمره أن يلزم بيته وأن لا يشارك في الفتنة حتى لا يدافع عن نفسه وليكون خيري ابني آدم “وقال قلت فإن دخل عليّ بيتي ، قال: فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه”( ).
فالحديث عند التمعن يثير كثيرًا من الدهشة والتعجب، لأنه يبدو على غير ما وقر في الذهن وجسدته كثير من الأحداث التاريخية في وجوب مقاومة الانحراف والفساد بكل الوسائل المادية والمعنوية ؛ لأن الحديث لا يمنع كل ألوان المبادرة بالعنف فحسب ، بل إنه يمنع أيضًا كل أنواع العنف حتى باسم حق الدفاع عن النفس .
فليتأمل هذا الحديث، وما يحويه من توجيه، يحمل في طياته دلالات بعيدة المدى، لا يصح أن يمر بها المرء دون محاولة جادة لفهمها والغوص إلى أبعادها، خاصة أن تاريخ الأمة الإسلامية، زاخر بالفتن والثورات والصراعات الدامية، مع إخفاق جل محاولات الإصلاح السياسي الإسلامي في بلوغ غاياتها الكبرى حتى اليوم! ( ) .
السابعة: افتقار النظام السياسي الدولي إلى الحزم في الرد على المخالفات .
لا شك بأن النظام السياسي الدولي يفتقر إلى الحزم في الرد على المخالفات والانتهاكات التي تتعرض لها مواثيقه بعقوبات دولية شاملة ورادعة ضد هذا المظهر الأخير من مظاهر العبث؛ حيث أن التسيب الدولي هو الذي يفتح المجال واسعا أمام الإرهاب والتطرف الدولي الذي يجمع في صفوفه بين القتلة والمحترفين والمرتزقة المأجورين وغيرهم من المغرر بهم دينيا أو سياسيا أو عقائديا، وتشجيعه على التمادي في احتقار القانون الدولي، والاعتداء على سيادة الدول والإساءة إلى حقوقها ومصالحها المشروعة بوسائل تدينها الأخلاقيات والأعراف الدولية كالتهديد والتشهير والابتزاز والقتل واختطاف الطائرات وتعذيب الرهائن من المدنيين العزل الأبرياء . إن هذا التخاذل الدولي في رأي أصحاب هذا التفسير قد ينتهي بكارثة دولية لا حدود لها( ) .
الثامنة: التحزبات السرية .
وهي التحزبات التي نتجت عن قراءات خاصة، ومفاهيم خاطئة لا يعرفها أهل العلم، يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله :” إذا رأيت قومًا يتناجون في شيء من الدين دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة” ( ) .
وهذه التحزبات والتجمعات يصدق عليها قول الحسن البصري رحمه الله : “خرج عثمان بن عفان – رضي الله عنه – علينا يومًا يخطبنا فقطعوا عليه كلامه فتراموا بالبطحاء حتى جعلت ما أُبصر أديم السماء قال: وسمعنا صوتًا من بعض حُجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقيل هذا صوت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال سمعتها وهي تقول: “ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب” وتلت: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). (الأنعام: 159)( ) .
إن دراسة فاحصة للجذور الفكرية للجماعات والأحزاب في “حياة المسلمين المعاصرة” تتطلبُ نظرةً عميقةً لهذه الفِرقِ والجماعات والأحزابِ الدّاعيةِ إلى ذواتِها حصرًا ، حيثُ تُصور كل فرقةٍ وجماعةٍ وحزب إلى الناس أنها هي القائمةُ على الإسلام ، وكلَّ من عداها مخالفٌ لها ، وهذا التصور القاصر نراهُ عندَ الجميع مطردًا ومتفقًا عليه .
ولهذا كان الجميع أهل فتنة وبدعةٍ ، وليس هذا الحكمُ صادرًا فيهم عن رأي أو هوىً ، بل هو ما اتفقَ عليه أهلُ العلمِ من المحققين وحكمهم في أولِ فرقةٍ وهي “الخوارج” وحتى آخر فرقةٍ ظهرتْ في هذا الوقت .
فكل تطرف في الدين أو غلو فيه لدى المسلمين فسببه هذه الفرق والجماعات والأحزاب ، وهي بمجموعها مصدر البدع والفتن والأهواء والآراء ، وأصل كل شر معارضةُ الشرع بالرأي ، وتقديم الهوى عليه .
التاسعة: الاستعمار .
إن من أهم أسباب الانحراف والتطرف لدى الشعوب في العالم السيطرة الاستعمارية، وانتهاك حقوق الناس، وأخذ أموالهم بالباطل، واحتلال الأراضي، وانتهاك الحرمات، والقتل، والتدمير، والاغتصاب، وإجبار الناس على النزوح، وترك أراضيهم وأوطانهم هذا يولد الإرهاب والعنف والتطرف( ) .
المبحث الرابع
الأسباب الاقتصادية
يعد سوء الحالة الاقتصادية من أبرز أسباب الانحراف الخلقي والتطرف الفكري، وسألخص ذلك في النقاط التالية:
الأولى: إذا كان الإرهاب السياسي من أكثر صور الإرهاب شيوعًا وأشدها ضراوة وخطرًا وأكثرها دموية، إلا أنه هناك الأسباب الاقتصادية بأخطارها المتراكمة والمتلاحقة لأن الاقتصاد من العوامل الرئيسة في خلق الاستقرار النفسي لدى الإنسان فكلما كان دخل الفرد مثلًا مضطربًا كان رضاه واستقراره غير ثابت بل قد يتحول هذا الاضطراب وعدم الرضا إلى كراهية تقوده إلى نقمة على المجتمع . وهذا الحال من الإحباط يولد شعورًا سلبيًا تجاه المجتمع ، ومن آثاره عدم انتمائه لوطنه ونبذ الشعور بالمسئولية الوطنية ولهذا يتكون لديه شعورًا بالانتقام وقد يستثمر هذا الشعور بعض المغرضين والمثبطين فيزينون له قدرتهم على تحسين وضعه الاقتصادي دون النظر إلى عواقب ذلك وما يترتب عليها من مفاسد وأضرار( ) .
الثانية: البطالة: انتشار البطالة في المجتمع داء وبيل ، وأيما مجتمع تكثر فيه البطالة ويزيد فيه العاطلون ، وتنضب فيه فرص العمل ، فإن ذلك يفتح أبوابًا من الخطر على مصارعها ، من امتهان الإرهاب والجريمة والمخدرات والاعتداء والسرقة ، وما إلى ذلك . فعدم أخذ الحقوق كاملة وعدم توفير فرصة العمل هذا يولد سخطًا عامًا يشمل كل من بيده الأمر قَرُب أو بُعد ، فإن الناس يحركهم الجوع والفقر والعوز ويسكتهم المال لذلك قال عمر بن عبد العزيز لما أمره ولده أن يأخذ الناس على الحق ولا يبالي قال (عِنيَّ أني أتألفهم فأعطيهم وإن حملتهم على الدين جملة تركوه جملة) ( ) فالبطالة من أقوى العوامل المساهمة في نبتة الإرهاب حيث ضيق العيش وصعوبته وغلاء المعيشة وعدم تحسن دخل الفرد أحد العوامل التي تؤثر في إنشاء روح التذمر في الأمة فلأن تتسلط أمة على أمة فتغزوها وتأكل خيراتها فذلك يولد حالة من السخط تجاه من فعل ومن سمح بهذا .
المبحث الخامس
الأسباب التربوية
إن العوامل التربوية ليست من الأسباب المباشرة للانحراف والتطرف والإرهاب، إلا أن النقص والسلبيات في الأنظمة والمناهج الدراسية تؤدي إلى ظهور مشكلة الإرهاب في بعض المجتمعات الإسلامية، ويمكن حصر الأسباب التربوية فيما يأتي :
الأولى: نقص الثقافة الدينية في المناهج التعليمية من الابتدائي وحتى الجامعة في معظم البلاد الإسلامية .
فما يدرس في مراحل التعليم الأساس، لا يؤهل شخصا مثقفا بثقافة مناسبة من الناحية الإسلامية، ليعرف ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهو الحد الأدنى للثقافة الإسلامية، وقد أدى ضعف المقررات الدينية، وعدم تلبيتها لحاجات الطلاب في توعيتهم في أمور دينهم وتنوير فكرهم بما يواجههم من تحديات في هذا العصر؛ إلى نقص الوعي الديني بوجه عام مما يكون له الأثر السلبي على سلوك واتجاهات الأفراد واتجاهاتهم( ).
الثانية: عدم الاهتمام الكافي بإبراز محاسن الدين الإسلامي والأخلاق الإسلامية التي يحث عليها الدين .
ومما يحث عليه الدين الإسلامي ويدعو إليه الرفق، والتسامح، وحب الآخرين ومراعاة حقوق المسلمين منهم وغير المسلمين، والسلام، والتعاون، والرحمة، والبعد عن الظلم والاعتداء والبعد عن الحكم بالأهواء الشخصية، وغير ذلك مما يدعم الأمن والحب والعدالة بالمجتمعات ولاسيما الإسلامية فالإسلام هو دين السلام والعدل والحرية. ولا بد من إظهار هذه المحاسن والأخلاقيات منذ بداية التعليم في الصفوف الأولى مع التركيز عليها في الصفوف الثانوية وبداية الجامعي .
الثالثة: عدم الخضوع للنظام في مرحلة الطفولة في مختلف المراحل التربوية .
والسبب في ذلك إهمال تدريب الإرادة بممارسة أعمال الضبط في ظروف الثورة، والهيجان النفسي وبمقاومة الرغبات النفسية الشهوية، ولا شك أن للإنسان نوازع وانفعالات سلبية لا بد من التحكم فيها وضبطها كالغضب، والشح والبخل عند الضيق والحاجة، والانتقام عند القوة والانتصار، وغيرها، ولهذا كله فإن بعض الأحداث الاجتماعية تحدث نتيجة عدم تكوين مثل هذه الروح الخاضعة للنظام( ) .
المبحث السادس
الأسباب الإعلامية
وسائل الإعلام : تلعب وسائل الإعلام دوراً لا يستهان به في تغذية أو دعم أو ظهور العنف والإرهاب والتطرف فهي بما تقدمه من برامج وأفلام وأخبار وأساليب للإخبار عن الأحداث أو تركيبها وعن الأشخاص وسيط مشارك لدى عديد من الدول، ومن وسائل الإعلام التلفاز أو القنوات الفضائية التي في أغلبها تنتهج منهج التطرف فإما الاستهتار بالعقول والشعائر الدينية والأخلاقية، أو زرع الفتن وإثارتها من خلال بعض البرامج أو الأفكار والتهويل والتضخيم ، ولو كان التناول في القضايا والموضوعات وحتى التحليلات تناولا إيمانيا يقوم على التعامل مع الحقائق والاستناد إليها في التفسير والتحليل ، والتعليق وغيره ، والمعايشة الحية للأحداث والتحري والتثبت من الأخبار وروايتها . . . ومراعاة الحالة النفسية المهيأة لدى المستقبل ، وظروف الزمان والمكان، لكان التأثير إيجابيا بل ولحدت من الآثار السلبية من حيث كونها سلاحا ذا حدين ( ).
وتعد شبكة المعلومات الدولية ( الإنترنت ) اليوم من الوسائط القوية الأثر في خدمة عمليات العنف والإرهاب الدولية ، فهذه الشبكات تنشر الأفكار والمعلومات والتصريحات والأحكام بين الأطراف المشتركين فيها على امتداد العالم كله وهي مفتوحة على مصراعيها للانضمام المطرد إليها يوما بعد يوم ، وهي تضم علاوة على ذلك كل شيء بدءا من الكتب التراثية وانتهاء بالأفلام المحظورة . فمثلا يمكن للمستخدم استعراض محتويات مكتبة الكونجرس الأمريكية الضخمة من خلال الإنترنت ، وهو جالس في بيته أو محله كما يمكنه التعرف على أحوال المجالات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ويزيد عدد مستخدمي شبكة الإنترنت، أو المشتركين فيها على تسعين مليون مستخدم أو مشترك في شتى أنحاء العالم، حيث ينضم إليها ما يقارب سبعة ملايين مشترك سنويا .
كذلك ما تبثه الصحف اليومية من أخبار وصور، بل مقالات تحت الحرية المغلوطة أو الدعم الإرهابي المبطن بالمقابل، كل ذلك يساعد على ظهور السلوكيات التي تخرج عن زمام المعقول والمنطق أو ردة الفعل الإرهابية أو المبالغ فيها( ).
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبي الرحمة الذي كانت بعثته خيراً للعالمين، وعلى من سار على نهجه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن نعم الله تعالى عليّ أن يسّر عليّ إتمام هذا البحث، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وسأعرض هنا أهم النتائج التي اشتمل عليها هذا البحث، وهي على النحو التالي:
1 – أن الأمة الإسلامية تميزت بخاصية منفردة لم تكن لأمة من الأمم السابقة وهي ميزة الوسطية التي جعلها الله – سبحانه وتعالى – خصيصة لأمة محمد- صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا). البقرة 143)( ) .
2- أن أهم أسباب الانحراف والتطرف ستة- الاجتماعية، الفكرية، السياسية، الاقتصادية، التربوية، الإعلامية .