يقدّم مالك صقور في كتاب الجيب «حكيم الدهر»، أبا العلاء المعري، في سلسلة الثقافة للجميع، فيذكر ولادته، وكيف أصيب بالمرض في الرابعة من عمره، ولم يذهب عنه إلا بعد أن أذهب بصره، وجعله يعيش في ليل دامس بقية حياته.عكف الوالد على تلقين ولده الدروس الأولى، فتلا على مسامعه القرآن الكريم، ودروس اللغة العربية، ثم أخذه إلى المسجد فتعمق في دروس اللغة العربية والدين. حُرم الطفل نعمة البصر، لكن الله عوضه نور البصيرة، وقوّة الفطنة، وحدّة الذكاء والذاكرة. ونظم الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة.بعد مضي عشرة أعوام من ذهاب بصره، فجع بموت والده القاضي المحبّ الذي يحدب عليه، فحزن أبو العلاء عليه حزناً شديداً.تابع الفتى تعليمه واحتضنه أخواله في مدينة حلب، وكانوا ذوي حسب ونسب وشرف وعلم وفضل. وهناك تعمق بدراسة أصول الدين والسنة النبوية، ودرس ديوان المتنبي فبهره وتأثر به واطلع على فلسفة الفارابي، وقرأ من مكتبات حلب ونفائس الفارابي الشيء الكثير.رحل أبو العلاء إلى أنطاكية، وكانت حاضرة من حواضر العلم، وفيها مكتبة تشتمل على أهم الكتب، فحفظ منها ما شاء أن يحفظ، واطلع على فلسفة الإغريق، ومنها اتجه إلى اللاذقية ونزل في دير للنصارى، واطلع على دينهم، ومنها رحل جنوباً إلى طرابلس الشام، وكانت بها مكتبة ضخمة، فاطلع عليها.استقر أبو العلاء في المعرة، وعاش زهاء خمسة عشر عاماً يقرض الشعر، ويجالس أبناء قومه وكانت أمّه ترعاه وتحدب عليه، وكانت له ثروة ضئيلة تقوم بحاجاته، ورثها من وقف لأبيه، نصفها لخادمه، وبقي خمسة عشر ديناراً يقضي بها حاجاته، مؤثراً الزهد والتقشف عن قناعة.وعزم السفر إلى بغداد وتاقت نفسه إلى زيارتها ومعرفة علمائها وشعرائها والاطلاع على معاهدها العلمية ومكتباتها الهائلة، لكن أمّه عارضت سفره وأشفقت عليه، واستطاع أن يقنع والدته ويسافر، واستعانت بأخويها في حلب لمساعدته وتسهيل مهمته، وتكفل خاله، أبو طاهر، بإيصاله إلى سفينة انحدر بها في نهر الفرات، وربما كانت تلك الساعات التي قضاها على ظهر السفينة من أسعد لحظات حياته. لكن النحس كان يتبعه كظلّه، فما إن بلغت السفينة موقع القادسية حتى هجم قطاع الطرق على السفينة واغتصبوها فاضطر إلى أن يسلك طريقاً وعرة إلى بغداد.وجاءته رسالة وهو في بغداد، تفيد بأن أمّه أثقلها المرض وقد تموت في غيابه، فغادر بغداد حزيناً، وعندما وصل إلى المعرّة، وجد أمّه قد ماتت ودفنوها وهو غائب، فبكاها ورثاها طويلاً، وازداد سخطه على الدنيا، وقرّر أن يعتزل الناس، وحبس نفسه في جسده، وسمّي «رهين المحبسين».ضاع أكثر مؤلفاته أثناء الحروب الصليبية، وبقي منها: «سقط الزند – اللزوميات – الدرعيات – رسالة الغفراء – رسالة الملائكة – الأيك والغصون – الفصول والغايات – وشرح ديوان المتنبي تحت عنوان «معجز أحمد»، وشرح ديوان أبي تمام وسمّاه «ذكرى حبيب» – وشرح ديوان البحتري وأطلق عليه «عبث الوليد».كان أبو العلاء تلميذ المتنبي في الشعر والحكمة والفلسفة، وصديق الجاحظ في هزئه المتلبس بالجد والسخرية المتعالية، وبقي حياته كلها زاهداً، متواضعاً، متقشفاً، واشتهر بضبط النفس والصدق والعفة وعزة النفس، وكره الكذب والنفاق، والمرأة والخمر، ولم يتزوج كلّ حياته.كبر أبو العلاء، وصار شيخاً كبيراً، ولم يفقد شيئاً من ملكاته العقلية إلى أن مات، مرض ثلاثة أيام، ثم توفي. 1007 مدخل أبو العلاء إلى بغداد عام 398 هجرية، المصادف 1007 ميلادية، فاستقبل استقبالاً حسناً من قبل أهل العلم، ورحبوا به بعد أن جالسوه وجادلوه وسألوه. وبهرهم بعلمه الغزير، فازداد ترحيبهم به. أخذوه إلى مكتبة «بيت الحكمة» ولما انتهى منها زار مكتبة «سابور أردشير» وصار يحضر المجامع العلمية والأدبية والفلسفية.