لماذا نقرأ الأدب؟ يبدو هذا سؤالًا كبيرًا. لماذا نقرأ القصص القصيرة؟ هل لهذا نختار عالمًا صغيرًا للإجابة على ذلك السؤال؟ أليست القراءة هي تحويل العالم الكبير إلى آخر صغير؟ والقصص القصيرة هي محاولة لتقديم إجابة قريبة، يبدو أبطال القصص القصيرة مختلفين قليلًا عن أبطال الروايات، ليس لأن عالمهم صغير؛ ولكن لأن انغماسهم في هذا العالم المحدد يكون أكثر بؤسًا. في قصص محمد فرج يتحوّل العالم إلى عالم عنيف ومشوه، ويتمّ تقسيمه إلى مجموعة من العوالم الصغيرة يعيش فيها بطل يحكي عن نفسه، قد تكون هذه العوالم متشابهة؛ فهي في النهاية تشير إلى عالم واحد كبير. القصة القصيرة عالم صغير ومؤلم وموحش. عالم كامل؛ «عالم يعج بالهواجس والرغبات، بالعنف والجنون». هكذا قدم هيثم الوردانى المجموعة، لكن من مَسْؤول عن هذا التشويه والعنف؟ هل هو نفس الشخص الذي يحلم؟ قد نستطيع أن نفهم ذلك إذا تتبعنا شخصية البطل في قصص «خطط طويلة الأجل».
من خلال 15 قصة قصيرة يقدم لنا محمد فرج في مجموعته القصصية الأولى «خطط طويلة الأجل» الصادرة مؤخرًا عن دار «العين» شخصية البطل في قصصه التي تبدو متشابهة في عالمها في كثير من قصص المجموعة. نستطيع أن نرى بدايتها من قصة «أثر المنديل»: الطالب الهادئ المرشح من زملاء الدراسة لأن يكون ممارسًا للعنف، لكنه يرفض ذلك بحجة أن حجم جسده الضخم يجب أن يسيطر عليه بهدوء كي لا يتحوّل إلى جبروت. ويتمّ تقسيم العالم إلى صلب؛ كالنظارة التي تساعد في إدراك العالم الصلب وبفقدها يتحوّل لعالم شبحي، وهش؛ كالمنديل. تتحرك هذه الشخصية وهي تحمل هذا التناقض الكبير: رغبتها في الهدوء، وعالم يدعوها للعنف أو عالم عنيف بطبيعته. تبدأ الشخصية باختبار العنف تجاه الذات كما في قصة «أثر المنديل» بمحاولة الانتحار، لكنها تحجم عنه. تزيد معرفتنا بهذه الشخصية عبر القصص التي يحمل بعضها عناوين قريبة من معنى واحد: (ترتيبات للمشهد النهائي- بدون تخطيط -رغبة محتملة- خطط طويلة الأجل) ما يدلنا على أن العالم الذي يعاينه البطل ليس عالمًا مستقرًا ولا متحققًا؛ فهو شاب يفكر في انهيار العالم، ربما لأنه عالم عنيف مما يؤهله للانهيار، ولا يتسم بالهدوء اللازم للحفاظ على وجوده، كما تطرح تأملات شخصية قصة «مهمة عمل» هذه الفكرة: «غالبًا حال يكون الواحد شابًا، يتصور أن العالم إما أن يسير كما يرى، وإما سينهار ويزول».
يمرّ البطل بلحظات تأمّل قليلة عبر القصص لكنها لحظات موحية ودالة؛ كتأمّله لطريقة السيطرة على مكان؛ عندما يحاول أشخاص إصدار ضوضاء لفرض سيطرتهم على مكان جديد بينما يحاول آخرون السيطرة على المكان بالتزام الهدوء.. كما يقول بطل قصة «رغبة محتملة».
الصخب أو الهدوء، تبدو كلمة الهدوء كلمة مكررة في تلك التأملات. الهدوء أيضًا هي الكلمة التي يسعى إليها بطل قصة «نوستالجيا» بقتل جارته، ثم نكتشف أن القتل وليس مجرد العنف لعبة قديمة ومستمرة لدى شخصيات كثيرة ارتبط بها البطل من البداية كإخوته، ليتحوّل العنف العارض إلى قتل عادي.
تقول بطلة قصة «بدون تخطيط»: «لا أعرف من أين جاءني هذا الهدوء؟» تقول ذلك وهي تتحدث عن عنف تمارسه ضد زوجها الخائن.
عندما لا تجد الشخصية التزام الهدوء طريقًا كافيًا للحياة تمارس العنف كطريق للوصول إلى الهدوء.
ترتبط الشخصية بفكرة العمل والوظيفة. تحمل قصتان عنوانين يتعلقان بالعمل: «مهمة عمل» و«أعمال حكومية» وصورتها عن العمل أنه عمل روتيني، وأن كل الأعمال هي روتينية. في أكثر من قصة يُطلب من البطل عن طريق العمل أن يعود إلى مكانه القديم: مدينته أو بلدته؛ فيكون الرجوع هنا إلى الماضي بحكم الضرورة لا بدافع الحنين، لكنه لا يعني ألا يعاين الماضي.
الصورة التي يراها البطل لمدينته أنها تمرّ بمشروعات ضخمة ترغب في تكوين بنية جديدة للمدينة لكنها لا تتحدد ولا تستقر وتعاني أيضًا من العنف.
يبدو أن بطل قصة «أثر المنديل» الذي فقد نظارته في البداية أو نساها متعمدًا استمر في الحركة متأثرًا بضعف نظره؛ فكانت الرؤية مشوشة والعالم يبدو خياليًا وشبحيًا. قد يكون البطل تعمد ذلك.. أي تعمد الاستمرار في الحركة بتلك الرؤية لأنها تناسب عالمًا لم تتحدد ملامحه بعد، كمدينته التي لم يصبح لها شكل محدد؛ فهي لم تتخلص من عالمها القديم ولم تحصل على ثوب جديد.
كما في معظم قصص المجموعة لا يهتم البطل بالمستقبل الوظيفي ولا يرى العمل كفعل مهم في الحياة. في المقابل أيضًا لا يكون الجنس فعل وجود إنساني، إذ تغلب على القصص التي يكون الجنس فيها عاملًا أساسيًا صيغة الحلم، وفي هذه القصص يتحوّل البطل من شخص يرى العالم مشوشًا في القصص القريبة من الواقع إلى شخص يقع تحت سيطرة الحلم، أو كشخص في حلم مبتور الإرادة. يحضر الجنس والرغبة الملحة في التبول كفعلين طبيعيين وغريزيين يحاول البطل من خلالهما أن يعلن عن وجوده في عالم لا يراه بوضوح، عالم غير محدد المعالم ويتعمد إفقاده هويته. مثلًا عندما يذهب لتغيير اسم ابنه فى قصة «أعمال حكومية» يشك أن الموظف سمعه جيدًا، أو كتب الاسم الذي يريده، وقد يخطىء نطق اسمه هو أيضًا فتضيع هويته في عالم خيالي.
في النهاية تعصف ببطل قصص المجموعة رغبة قوية في أن يتحوّل إلى غراب! تبدو هذه نتيجة كما في القصة الأخيرة «جاذبية». نتيجة التشوه والعنف في العالم. لا يستطيع بطل القصص النجاة من هذا العالم إلا عبر تحوّله لغراب، وهو ما يُذكرنا بنهاية رواية «صوت الغراب» للكاتب عادل عصمت.