ان الله – عز وجل – بحكمته البالغة، وحجته القاطعة، وعلمه المحيط بكل شيء، يبتلي عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، وبالنعم والنقم؛ ليمتحن صبرهم وشكرهم، فمن صبر عند البلاء وشكر عند الرخاء وضرع إلى الله سبحانه عند حصول المصائب يشكو إليه ذنوبه وتقصيره ويسأله رحمته وعفوه أفلح كل الفلاح وفاز بالعاقبة الحميدة. قال الله – جل وعلا – في كتابه العظيم: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [1].
والمقصود بالفتنة في هذه الآية الاختبار والامتحان حتى يتبين الصادق من الكاذب والصابر والشاكر. كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [2] وقال -عز وجل-: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [3] وقال سبحانه: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [4] والحسنات هنا هي النِّعَم من الخصب والرخاء والصحة والعزة، والنصر على الأعداء ونحو ذلك والسيئات هنا هي المصائب.
كالأمراض وتسليط الأعداء والزلازل والرياح العاصفة والسيول الجارفة المدمرة نحو ذلك، وقال – عز وجل -: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [5] والمعنى أنه سبحانه قدر ما قدر من الحسنات والسيئات وما ظهر من الفساد ليرجع الناس إلى الحق ويبادروا بالتوبة مما حرم الله عليهم ويسارعوا إلى طاعة الله ورسوله؛ لأن الكفر والمعاصي هما سبب كل بلاء وشر في الدنيا والآخرة وأما توحيد الله والإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله والتمسك بشريعته والدعوة إليها والإنكار على من خالفها فذلك هو سبب كل خير في الدنيا والآخرة وفي الثبات على ذلك والتواصي به والتعاون عليه عز الدنيا والآخرة والنجاة من كل مكروه والعافية من كل فتنة كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [6] وقال سبحانه: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [7] وقال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [8] وقال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [9].
وقد بين سبحانه في آيات كثيرات أن الذين أصاب الأمم السابقة من العذاب والنكال بالطوفان والريح العقيم والصيحة والغرق والخسف وغير ذلك كله بأسباب كفرهم وذنوبهم كما قال -عز وجل-: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [10] وقال -سبحانه وتعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [11] وأمر عباده بالتوبة إليه والضراعة إليه عند وقع المصائب، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [12] وقال سبحانه: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [13] وقال سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [14] وفي هذه الآية الكريمة حث من الله سبحانه لعباده وترغيب لهم غذ حلت بهم المصائب من الأمراض والجراح والقتال والزلازل والريح العاصفة وغير ذلك من المصائب، أن يتضرعوا إليه ويفتقروا إليه فيسألوه العون وهذا هو معنى قوله سبحانه: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) [15] والمعنى هلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا. ثم بين سبحانه أن قسوة قلوبهم وتزين الشيطان لهم أعمالهم السيئة كل ذلك صدهم عن التوبة والضراعة والاستغفار، فقال -عز وجل-: (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [16].
[1] الآيات 1، 2، 3 من سورة العنكبوت.
[2] من الآية 20 من سورة الفرقان.
[3] من الآية 35 من سورة الأنبياء.
[4] من الآية 168 من سورة الأعراف.
[5] الآية 41 من سورة الروم.
[6] الآية 7 من سورة محمد.
[7] من الآية 40 والآية 41 من سورة الحج.
[8] الآية 55 من سورة النور.
[9] الآية 96 من سورة الأعراف.
[10] الآية 40 من سورة العنكبوت.
[11] الآية 30 من سورة الشورى.
[12] من الآية 8 من سورة التحريم.
[13] من الآية 31 من سورة النور.
[14] الآيتان 42، 43 من سورة الأنعام.
[15] من الآية 43 من سورة الأنعام.
[16] من الآية 43 من سورة الأنعام.
[17] من الآية 47 من سورة الروم.
[18] الآيتان 55، 56 من سورة الأعراف.
[19] الآية 3 من سورة هود.
[20] من الآية 55 من سورة النور.
[21] الآية 71 من سورة التوبة.
[22] الآيتان 44، 45 من سورة الأنعام.
[23] من الآية 49 من سورة هود.
[24] الآية 128 من سورة النحل.