أُطلق استبيان إلكتروني بعنوان “اختبار الراحة”، للبحث في معنى الراحة بالنسبة للأفراد، وكيف يحبون الوصول إليها، وما إذا كان هناك رابط بين الراحة والحالة الصحية. وجمع القائمون على البحث النتائج، وبدأت عملية تحليلها.
قد يبدو تعريف الراحة أمرا سهلا، لكن تبين أن الأمر أبعد ما يكون عن البساطة. هل هي راحة العقل أم الجسد؟ في الواقع، الأمر يختلف، فبالنسبة للبعض لا يرتاح العقل بدون راحة الجسد، والعكس بالنسبة لآخرين. وقد يكون إنهاك الجسد من خلال تمرينات قاسية هو السبيل لراحة العقل، إذ قال 16 في المئة من المشاركين إنهم يعتبرون التمرينات الرياضية مريحة.
وشارك في البحث 18 ألف شخص، من 134، وهو استبيان مطول تقوم عليه مجموعة دولية من الأكاديميين والفنانين والشعراء وخبراء الصحة العقلية، الأمر الذي يظهر الأهمية الملحة للراحة وقال ما يزيد على ثلثي المشاركين إنهم بحاجة للمزيد من الراحة. كما قال حوالي ثلث المشاركين إنهم بحاجة للراحة أكثر من الأفراد العاديين، في حين يرى عشرة في المئة أنهم بحاجة إلى راحة أقل من المتوسط.
واختبر أحد الأسئلة مقدار الراحة التي حصل عليها المشاركون في اليوم السابق على الاستبيان، مع حرية تعريف معنى الراحة بالطريقة التي يريدونها. وتباينت الإجابات ما بين ثلاثة ساعات وستة دقائق.
وتضمن سؤال آخر قائمة من الأنشطة، وطُلب من المشاركين اختيار الثلاثة الأكثر راحة. وجاءت النتيجة غير متوقعة، ففي المركز الأول كانت القراءة، ويليها التواجُد في بيئة طبيعية، ثم الوحدة، ثم الاستماع للموسيقى، وأخيرا عدم القيام بأي نشاط محدد.
والأمر المدهش في هذه النتائج هو أن كل هذه الأنشطة تكون فردية. فهل يكون اعتزال الناس هو كل ما نريده حقا لنرتاح؟
وجاءت كل الأنشطة الاجتماعية، مثل الالتقاء بالأصدقاء والعائلة، والتحدث مع الناس، أو احتساء المشروبات مع الآخرين، في ذيل قائمة الأنشطة المريحة. ولا يعني ذلك بالضرورة أن المشاركين ليسوا اجتماعيين، ولكنهم لا يعتبرون أن الأنشطة الاجتماعية على وجه التحديد مريحة.
والمدهش أن هذه النتائج يتساوى فيها الاجتماعيون، الذين يُعرفهم العلم بأنهم يستمدون الطاقة من الاختلاط بالآخرين، والانطوائيون، الذين يعتبرون الاختلاط بالآخرين أمر مجهد. الفارق الوحيد هو أنه رغم أن الأشخاص الاجتماعيين وضعوا المحادثات والأنشطة الاجتماعية في مرتبة أعلى، إلا أنهم يقبلون أيضا على الأنشطة المنفردة.
وبالطبع يجب الأخذ في الاعتبار أن اختيار الوحدة يختلف عن الإجبار عليها.
ويمكن تفسير اختيار الناس للوحدة من خلال الإجابات الواردة في الاستبيان عما يجول بخاطر المشاركين وهم يقومون بالأنشطة المختلفة.
ويقول بِن ألدرسون-داي، أخصائي نفسي بجامعة دورام الإنجليزية، وأحد المشاركين في كتابة البحث، إن “المشاركين قالوا إنهم يركزون على ما يشعرون به، وأجسامهم، مشاعرهم عندما يكونوا وحدهم”.
ويبدو أن فرضية تواصل الناس مع أذهانهم وأفكارهم وهم منفردون ليست صحيحة بشكل مطلق، فبحسب ألدرسون-داي “يقول المشاركون إنهم يتحدثون إلى أنفسهم 30 في المئة فقط من الوقت. وهي إشارة إلى أن الوحدة لا تعني فقط قطع الاتصال بالناس، ولكن أن يتسني لهم قطع الحوار الداخلي أيضا”.
لكن الوحدة وعدم القيام بأي نشاط لا تعني بالضرورة أن المخ يكون في حالة راحة. وافترض علماء الأعصاب أن المخ يكون أقل نشاطا في حالة عدم التركيز على إنجاز أية مهام. لكن الأبحاث التي أُجريت في نهاية القرن العشرين، والتي شملت عمليات مسح المخ، خرجت بنتائج مذهلة أثبتت خطأ الفرضية السابقة.
وفي أوقات الراحة، والتي يُفترض عدم القيام بأية أنشطة أثناءها، تميل عقولنا للتساؤل والتفكير. ويكون المخ أكثر نشاطا في فترات عدم التركيز على إنجاز مهام، عنه أثناء القيام بمهام محددة.
وتتكرر شكوى عدم القدرة على إيجاد وقت للراحة مؤخرا. فماذا لو لم نجد الوقت الكافي للقيام بالأنشطة الباعثة على الراحة، هل يهم الأمر؟
وأظهر الاختبار أن من حصلوا على ساعات قليلة للراحة في اليوم السابق للاستبيان سجلوا مستويات أقل في الجزء الخاص بالصحة العامة.
وتتضاعف مستويات الصحة العامة لدى من لا يشعرون بالحاجة للمزيد من الراحة، في مقابل من يشعرون بالحاجة للمزيد منها، مما يعني أن فكرة الأشخاص عن الراحة بنفس أهميتها في الحقيقة. فإذا لم نشعر بالراحة، تقل الصحة العامة.
والأفراد الذين سجلوا أعلى درجات الصحة العامة حصلوا على ما بين خمس وست ساعات من الراحة في اليوم السابق لإجراء الاستبيان. وحال حصولهم على المزيد من الراحة، بدأت نتائج الصحة العامة في الهبوط. فهل تشير هذه النتائج إلى أن الراحة الإجبارية، مثل حالات البطالة أو المرض، لها تأثير مشابه لغياب الراحة على الصحة العامة؟ ربما يكون خمس إلى ست ساعات هو المعدل المثالي للراحة.
ورغم العينة الكبيرة التي يشملها هذا البحث، إلا أنه يظل محدودا بفترة معينة. ولا يمكن الجزم بأن الراحة أو غيابها لها تأثير على الصحة العامة. فهل يمكن مثلا القول بأن النتائج المرتفعة للصحة العامة تجعلنا نشعر بالراحة؟ لكن تظل العلاقة بين الراحة والصحة العامة مدهشة.
وتجدر الإشارة إلى أنه بالسؤال على الكلمات المرتبطة بالراحة، اختار تسعة في المئة من المشاركين كلمات “الذنب” أو “باعثة على التوتر”. بالفعل تبدو الراحة سببا لقلق البعض بشأن الأشياء التي لا يفعلونها.
وتقول فيليسيتي كالارد، الأستاذة بجامعة دورام: “نحتاج بشدة لمقاومة فرضية أن الحصول على قدر أكبر من الراحة يكون مرادفا للمزيد من الكسل. فحقيقة أن من يحصلون على المزيد من الراحة تكون صحتهم العامة أفضل، دليل قوي على الحاجة إلى الراحة.”