في الوقت الذي ينظر فيه المجتمع الى الفتاة التي تبحث عن عريس عبر الإنترنت، أو تعرض نفسها للزواج عبر مواقع التواصل الاجتماعي، على أنها ترخص بذلك من نفسها، تؤكد الدكتورة سعاد صالح الشهيرة بمفتية النساء، أن الأمر جائز شرعاً ومن حق الفتاة أن تفعل ذلك. فما هي أسانيد مفتية النساء؟ وماذا يقول علماء الدين عن تلك الفتوى؟
بدأت القضية عندما تلقت الدكتورة سعاد صالح، اتصالاً من إحدى مشاهدات برنامجها «فقه النساء» عبر إحدى الفضائيات الشهيرة، ترغب في معرفة حكم الشرع في قيامها بالبحث عن عريس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد انتقدها البعض من أقاربها وصديقاتها، مؤكدين أن هذا نوع من الترخّص المرفوض شرعاً.
ردت الدكتورة سعاد قائلة: «الزواج من طريق مواقع التواصل الاجتماعي حلال، ولا شيء فيه طالما لم يتم ارتكاب أي مخالفة شرعية في سبيل ذلك، ولهذا يظل الحكم الشرعي مرتبطاً بممارسات بعد التعارف، فإذا تمت انحرافات انقلب الحكم الشرعي من الحلال إلى الحرام».
وأوضحت الدكتورة سعاد أن العادات والتقاليد التي تحرم المرأة من الحقوق المكفولة للرجل، وراء الاعتقاد بأن طلب المرأة الزواج عبر مواقع التواصل الاجتماعي حرام، رغم أنها تطلب مقصداً شرعياً، وهو الزواج الصحيح من الرجل الصالح على سنّة الله ورسوله (صلّى الله عليه وسلّم)، ولهذا فهو ليس حراماً كما يروّج البعض، وبالتالي ليس من حق أحد الاعتراض على هذه الرغبة بهذه الطريقة، طالما أن ليس فيها ما يغضب الله.
وأضافت الدكتورة سعاد صالح، أن المشكلة في زواج الإنترنت أنه قد تشوبه انزلاقات غير محسوبة العواقب، نظراً الى عدم معرفة الطرفين أصل أو عيوب بعضهما بعضاً. ومع هذا، يحق للمرأة أن تعرض نفسها للزواج على الرجال الصالحين الذين يعادلون كفاءتها، وننصح بضرورة الصدق والصراحة بين الطرفين، وليكن قدوتهما في ذلك ما قامت به أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد، التي عرضت نفسها على الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) لكي يتزوجها، وكانت من أحبّ زوجاته إليه في حياتها وبعد مماتها، وفاءً لها.
دليل شرعي
أوضحت الدكتورة سهير الفيل، وكيلة كلية الدراسات الإسلامية، أن ليس من الحرام ولا من العيب، أن تعرض المرأة العفيفة نفسها على صاحب الخلق والدِّين ليتزوجها، سواء من طريق العرض المباشر أو من خلال وسائل الاتصال الحديثة مثل الإنترنت.
وأضافت الدكتورة سهير: «إن من ينكر قيام المرأة بذلك إنما ينكره بميزان العادات والتقاليد والأعراف لا بميزان الشرع، وأحياناً تنكره النساء على بعضهن بسبب الجهل بأحكام الشرع، مثلما فعلت ابنة انس، خادم الرسول (صلّى الله عليه وسلّم)، حيث قال الصحابي ثابت البناني: «كنت عند أنس، وعنده ابنة له، وقال أنس: جاءت امرأة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله ألك بي حاجة، فقالت ابنة أنس: ما أقل حيائها، واسوأتاه واسوأتاه. قال لها أنس: هي خير منك، رغبت في النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، فعرضت عليه نفسها» قول أنس لابنته «هي خير منكِ».
وأشارت الدكتورة سهير إلى أن هذه القصة السابقة دليل شرعي عملي على جواز بحث المرأة لنفسها عن الرجل الصالح، وتعريفه رغبتها فيه لصلاحه وفضله، أو لعلمه وشرفه، أو لخصلة من خصال الدين، وأنه لا عار عليها في ذلك، بل يدل على فضلها، وبنت أنس نظرت إلى ظاهر الصورة، ولم تدرك هذا المعنى حتى قال أنس «هي خير منكِ»، وأما التي تعرض نفسها على الرجل لأجل غرض من الأغراض الدنيوية فهذا أمر مرفوض طبعاً.
قصة
وتشير الدكتورة أماني عبدالقادر، الأستاذ في كلية الدراسات الإسلامية للبنات في جامعة الأزهر، إلى أنه بلغ من أهمية هذا الموضوع الهام أن الإمام البخاري قام بتسمية باب في صحيحه «عرْض المرأة نفسَها على الرجل الصالح».
واستدلت الدكتورة أماني عبدالقادر، على جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح عبر وسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا، بما فعلت المرأة الصالحة ابنة نبي الله شعيب للتعبير عن رغبتها في التزوج من موسى عليه السلام، بقولها كما جاء في القرآن، وقول الله تعالى عنها: «قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» (آية 26) سورة «القصص»، ثم تجاوب أبوها مع رغبتها فعرضها على نبي الله موسى عليه السلام، وقد سجل القرآن ذلك حيث قال الله تعالى: «قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إحدى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ على أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ» (آية 27) سورة «القصص».
وطالبت الدكتورة أماني أولياء أمور البنات بأن يتقوا الله تعالى فيهن، ويتركوا العصبية القبلية ويبحثوا لهن عن الرجال الصالحين، ولا يرفضوا أحداً من أهل الخلُق والدين، فهم ليسوا أكثر ديناً وخلقاً من نبي الله شعيب، حين عرض ابنته على نبي الله موسى عليه السلام، بعدما وجد لديها رغبة في الزواج منه لقوته وأمانته.
الموسوعة الفقهية
تؤكد الدكتورة فايزة خاطر، رئيسة قسم العقيدة في كلية الدراسات الإسلامية في الزقازيق- جامعة الأزهر، جواز قيام المرأة بعرض نفسها للزواج بمن تحب، سواء استجاب أم لم يستجب، مثلما المرأة الصالحة التي عرضت نفسها على النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، صراحة من دون تعريض، وكل هذا لا ينافي الحياء، بل إنه يدل على دين متين ورجاحة عقل عند المرأة، في ضوء معطيات عصرها، والتي تقابلها إلى حد ما مواقع التواصل الاجتماعي اليوم.
واستدلت الدكتورة فايزة على تأييدها قيام المرأة بعرض نفسها للزواج بما جاء في «الموسوعة الفقهية»، التي جاء فيها بالنص: «يجوز عرض المرأة نفسها على الرجل وتعريفه رغبتها فيه، لصلاحه وفضله أو لعلمه وشرفه أو لخصلة من خصال الدِّين، ولا غضاضة عليها في ذلك، بل ذلك يدل على فضلها».
وتنصح الدكتورة فايزة خاطر، بتجنب الفتاة العرض الفج لنفسها، بحيث يمكنها توصيل رغبتها في الزواج من طريق غير مباشر، أو تكون هذه الرسالة من طريق شخص أمين يعرف الطرفين كأن ينصحه بعدم التفريط بها، فهذا أفضل من المواجهة المباشرة، لأن الأمور قد لا تسير وفق مراد المرأة، فيتسبب لها ذلك في الإحراج، فلا تتم معايرتها بذلك إذا لم تكن تضمن أن يبقى من ترغب في الارتباط به على تدينه واستقامته، أو يُخشى منه. ولذلك اشترط العلماء «الرجل الصالح»، وليس بالصلاح هنا مجرد «العلم» أو حفظ القرآن وحده، بل الصلاح هو القيام بالعلم والقرآن والتخلق بأخلاقهما.
وتنهي الدكتور فايزة كلامها مؤكدة أن عرض المرأة نفسها للزواج عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو بحثها عن عريس، يشبه إلى حد ما، ما ينشر في الصحف منذ فترة طويلة تحت عنوان «أريد عريساً»، وكذلك ما يتم حالياً عبر مكاتب التزويج التي تقوم المرأة من خلالها بعرض مواصفاتها ومواصفات من ترغب الزواج به، وتكون مهمة المكتب محاولة التوفيق بين الرغبات من الجنسين، وبالتالي ليس من حق أحد الاعتراض على قيام المرأة بذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بشرط أن يتم بأسلوب كريم يحفظ لها كرامتها وعفتها.
مباح بضوابط
توضح الدكتورة آمنة نصير، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية في الإسكندرية، أنه ليس عيباً أن تسعى المرأة إلى الزواج الشرعي، كما يسعى إليه الرجل، لإعفاف نفسها، لكن يجب أن يتم ذلك وفق ضوابط وليس بانفلات وترخص، كما قد تفعل المراهقات، لافتقادهن الحكمة وسيطرة المشاعر والعواطف الساذجة عليهن، وكذلك قد تترخص العوانس بحثاً عن الفرصة الأخيرة للحاق بقطار الزواج، حتى وإن تم ذلك من طريق تقديم المزيد من التنازلات لمن تتواصل معه على مواقع التواصل الاجتماعي.
وأشارت الدكتورة آمنة إلى أنه في ظل الظروف المادية الصعبة، وحياة المدنية التي قلّ فيها التعارف المباشر بين الأقارب والجيران، وحلت محله وسائل التواصل الحديثة، مثل مواقع التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، التي أصبحت من أهم وسائل التعارف بين الجنسين، لا مانع للمرأة من استعمالها في التعارف والزواج، لكن يشترط أن يكون ذلك على النهج الشرعي، ولهذا قال الله تعالى:»يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (آية 7) سورة «الحجرات».
وتنهي الدكتورة آمنة كلامها، مؤكدة أنه ينبغي لمن تعرض نفسها للزواج عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أن تتصف بالتأني والحكمة قدر الإمكان، وأن توقن أنه لن يكون في ملك الله إلا ما كتبه الله، ولهذا قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، ولهذا لا داعي للتعجل حتى لا تسيء الاختيار.
لا تنازلات
أشار الدكتور جمال فاروق، عميد كلية الدعوة الإسلامية في جامعة الأزهر، إلى أنه ينبغي لمن تريد الزواج عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تعيين الطرف المرغوب فيه، وعدم تجاوز ذلك إلى التعارف المحرم، مثل الخروج معاً من دون محرم، أو التساهل وتقديم تنازلات لإغراء الرجل الذي تعرفت إليه باستكمال إجراءات الزواج، حتى لو كان الثمن الوقوع في الإثم.
وأكد الدكتور جمال فاروق، أنه يجب شرعاً عدم تجاوز الحدود الشرعية في ما يحصل به التعارف للزواج، لأن ما زاد على قدر الحاجة في التعارف ينقل الأمر من الحلال إلى الحرام. ولهذا، على الفتاة أن تحذر هتك الأستار وإفشاء الأسرار بلا حاجة شرعية، وليست العنوسة مبرراً لجعل الفتيات يبحثن بأنفسهن عن الزوج المناسب، بعدما فشلت الأسرة في هذا الأمر، حتى لو كان الثمن تقديم تنازلات قد تصل إلى التفريط في عفّتها، مع العلم أن الرجل لا يحترم من تفرّط في نفسها، وإنما بالفطرة يتمسك في الزواج بمن تحمي نفسها وتحافظ على شرفها، ولهذا لا يليق بالفتاة أن تعرض نفسها على الرجال بصورة غير كريمة قد تؤدي بها إلى السقوط في الرذيلة.
وأنهى الدكتور جمال كلامه، محذراً الفتيات من اللجوء الى عرض أنفسهن بصورة مبتذلة، والأفضل لأولياء أمورهن أن يعملوا على تيسير الزواج وتسهيله، بدلاً من المبالغة فيه، وأن يضع أهل الفتاة نصب أعينهم قول رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، ألا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم»، وهذا ما نعاني منه الآن في ظل مبالغة أهالي الفتيات في تكاليف الزواج.
خداع
أما الدكتور محمد المنسي، أستاذ الشريعة في كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، فيعارض قيام المرأة بعرض نفسها للزواج عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكداً أن هذا نوع من الترخّص في عصرنا، حيث تعرض نفسها على الجميع، سواء من الصالحين أو الطالحين، وما قد يتبع ذلك من التساهل منها في مخاطبة أي متواصل معها، وقد يكون صاحب غرض سيئ فيستغل هذا العرض منها في الوصول إلى بعض أغراضه الدنيئة.
ويؤكد الدكتور المنسي، أن من المتفق عليه في شريعتنا الإسلامية، أن الزواج سنّة من سنن المرسلين، ولهذا قال الله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ» (آية 38) سورة «الرعد»، بل هو آية من آيات الله في خلقه، فقال الله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (آية21) سورة «الروم». ولهذا لا بد من أن يتم بناؤه على أسس سليمة وقوية، لضمان استقراره وليس لمجرد التعارف على وسائل التواصل الاجتماعي التي يتعامل معها الجميع، ومن السهل خداع المرأة وبعد الزواج تندم عندما تتكشف حقيقة زوجها، ووقتها لا ينفع الندم وتكون هي وأولادها ضحية سوء الاختيار عبر الإنترنت.
احذري المشاعر
يحذّر الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر، المرأة الراغبة في عرض نفسها على من تحب أو على غيره من الرجال بوجه عام من طريق الإنترنت، من أن تطلق العنان للكلمات المعسولة أو المراسلات غير المنضبطة، لأنها سلاح مدمر قد يؤدي إلى الفتنة، وهنا ينقلب الأمر عليها بالضرر، وقد تصبح فريسة وضحية لمن لا يتّقون الله إذا زاد عرض المرأة نفسها للزواج عن الحد.
وأشار الدكتور هاشم، إلى أنه من حيث المبدأ، لا يناقض عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحياء، بشرط أن يكون من تختاره موثوقاً بدينه وخلقه، ولهذا قام الفاروق عمر بن الخطاب بعرض ابنته حفصة على أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، فاعتذرا بذكاء، ولم يؤثر ذلك في علاقات الاحترام والحب المتبادل بين الفاروق وكل من أبي بكر وعثمان.
وأكد الدكتور أحمد عمر هاشم، أنه لا ينبغي للمرأة التعلق كثيراً بعرض نفسها للزواج على الإنترنت، لأن في هذا مخاطر كبيرة في ظل احتراف بعض الرجال صيد بنات حواء والتلاعب بهن وخداعهن بأنهم من الصالحين، خاصةً أننا في عصر خربت فيه الذمم والضمائر وكثرت النفوس البعيدة عن طاعة الله.
وينصح الدكتور هاشم كل فتاة تريد أن تتزوج عبر الإنترنت بأن تستخير الله من طريق «صلاة الاستخارة»، قبل الإقدام على هذه الخطوة، لأن المسلمة لا تدرك أين هو خيرها في الدنيا والآخرة، ولهذا عليها أن تطلب من ربها أن يختاره لها وأن ييسر لها الأمر إن كان فيه خير، أو يصرفها عنه إن كان فيه شرّ لها، ولتكن على يقين بأن الله سيقدر لها الخير، وما دامت سلكت طريقاً شرعيّاً في البحث عن عريس، ولتكن على ثقة في اختيار الله ورأفته بها.