لطالما كان الحي المالي للعاصمة البريطانية “سيتي أوف لندن” (City of London) فخر العاصمة وفخر المملكة المتحدة، باعتباره المركز المالي الأكبر في العالم، والذي يضم بين شوارعه التي تحافظ على طابعها العتيق أكبر المؤسسات المالية العالمية.
وظل الحي مزار كل رجال الأعمال من مختلف مناطق العالم، وكذلك السياح الذين يلتقطون صورا للذكرى في هذه المنطقة التي تعبر عن عراقة الحياة البريطانية.
لكن سرعان ما تحول هذا الحي إلى مدينة أشباح، حيث خلا من تلك الحركة الدؤوبة التي كانت تنطلق مع ساعات الصباح الأولى، ولا تهدأ إلا في ساعات متأخرة في الليل، فمنذ بداية جائحة كورونا، اختارت جل المؤسسات التي تتوفر على مكاتب عملاقة وضخمة في الحي المالي، اعتماد نمط العمل من المنازل.
وبعد مرور أشهر الإغلاق المريرة، ومطالبة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون صراحة، العمال بالعودة للمكاتب، حدثت المفاجأة التي لم يتوقعها كثيرون.
وكانت المفاجأة في تفضيل أغلب الشركات والمؤسسات المالية والبنكية العمل عن بُعد، وعدم العودة للمكاتب، ما جعل من شوارع الحي المالي، فارغة على عروشها إلا من مارّة، أو زوار يغتنمون فرصة خلو المنطقة للاستمتاع بمبانيها العتيقة.
وأظهرت دراسة لبنك “ستانلي مورغان” (Morgan Stanley) أن 34% فقط من العاملين عادوا لمكاتبهم، رغم رفع الحكومة كل القيود على العودة إلى المكاتب، وتعتبر النسبة المسجلة في العاصمة لندن، الأقل في أوروبا، ففي ألمانيا تم تسجيل عودة للمكاتب بنسبة 83%، وفي فرنسا بلغت النسبة 70%.
وتضيف الدراسة نفسها أن حوالي 50% من العاملين في الحي المالي في لندن، لا يزورون مكاتبهم أبدا ويداومون بشكل كامل تماما من المنازل، بينما تنخفض هذه النسبة إلى ما بين 20 و33% في الأحياء المالية لكل من باريس وفرانكفورت.
ويبرر هاري كيفن -وهو محلل مالي في بورصة لندن- خلال حديثه مع الجزيرة نت، عدم حماسة العمال للعودة للمكاتب بعاملين، الأول مرتبط بالعمال، الذين ما زالوا غير واثقين من سلامة استعمال مترو الأنفاق، فهو الوسيلة الوحيدة تقريبا للوصول للحي المالي، أما العامل الثاني فمرتبط بأرباب العمل، الذين سجلوا ارتفاعا في إنتاجية الموظفين خلال مرحلة الإغلاق والعمل عن بُعد.
ويشير الخبير البريطاني إلى أن هذا الأمر شجّع مديري الشركات الكبرى على الاستمرار على النمط نفسه خصوصا أن نفقات المكاتب في الحي المالي تساوي ثروات طائلة.
حوالي 50% من العاملين بالحي المالي في لندن لا يزورون مكاتبهم أبدا ويداومون بشكل كامل من المنازل (الجزيرة)
المكاتب من الماضي
لا تنظر الحكومة البريطانية بعين الرضا لعدم عودة العمال لمكاتبهم، خصوصا في مركز المدينة الذي يعتبر قلبها النابض، ولهذا أكد رئيس الوزراء البريطاني أكثر من مرة أن حكومته تعتقد أن العودة للمكتب يعتبر آمنا مع التزام إجراءات التباعد مناشدا العاملين “بالتحلي بالثقة والعودة للمكاتب”.
دعوة لم تجد آذانا مصغية، فجولة بين الشوارع المحيطة ببورصة لندن، التي تقع في القلب من الحي المالي، تظهر أن الحياة لن تعود لهذه المنطقة كما كانت، وهو ما يثير جدلا بين كبار مديري المؤسسات المالية البريطانية، فبينما يعبر جيمس ستانلي مدير بنك “باركليز” عن غضبه من عدم عودة الموظفين للمكاتب، أعلن مصرف “نات ويست” (NatWest) أن 50 ألفا من موظفيه سوف يعملون من منازلهم حتى العام المقبل على الأقل.
الوضعية غير المسبوقة التي يعيشها الحي المالي دفعت مدير مصرف “باركليز” (Barclays) لتغيير موقفه من العمل من البيت والتأكيد أن “المكاتب أصبحت شيئا من الماضي” والدعوة لعودة العمال دون إلزامية الحضور.
وتحدثت ليزا وهي عاملة استقبال في بوابة بورصة لندن بحسرة قائلة “مشاهدة الشوارع خالية يثير الحزن”، مؤكدة أن الحي المالي فقد صخبه، “كان الأمر متوقعا في فترة الإغلاق الوطني لكن توقعنا أن تعود الحياة تدريجيا هنا وهو ما لم يحدث لحد الآن للأسف”.
وتشير الموظفة في بورصة لندن إلى أن هذا الوضع قتل الحركة الاقتصادية في المنطقة برمتها، وأن هناك محلات تجارية كثيرة أغلقت أبوابها، لأنها كانت تعتمد بشكل كبير في تجارتها على موظفي الحي المالي.
من المتوقع أن تلجأ الحكومة البريطانية لإجراءات جديدة لتشجيع الموظفين على العودة لمكاتبهم (الجزيرة)
نهاية العصر الذهبي
يعتبر الحي المالي مدينة مصغرة، يتركز فيها الكثير من الأنشطة التجارية، التي تعتمد بالأساس على زوار الحي من موظفين ومستثمرين ورجال أعمال، ولهذا تنتشر وبشكل كبير مطاعم الوجبات السريعة، والمطاعم الفاخرة والمقاهي، على امتداد شوارع “السيتي”، وفي العادة كان حجز معقد في هذه المقاهي يتطلب انتظارا طويلا، إلا أن كل مرافق الأكل والترفيه فقدت زبائنها.
وأعلنت سلسلة مطاعم “بريت أ مونجيه” الشهيرة (Pret A Manger) عن تراجع مداخيلها بنسبة 85%، وهو ما دفعها للإعلان عن خطة لتسريح المئات من العمال، كما أن لافتة “مغلق حتى إشعار آخر” باتت تغطي بوابات الكثير من محلات الأزياء والعطور المنتشرة في الحي.
“لقد تراجعت مداخيل المطعم بنسبة 85% مقارنة بهذه الفترة نفسها من العام الماضي لكن يبدو أن ذلك الزمن الذهبي لن يعود بسبب كورونا”، يقول جيري وهو مسير مطعم يحاذي محطة “بانك” الواقعة في قلب المركز المالي.
ويضيف جيري في حديثه مع الجزيرة نت أن “الخسائر تقدر بحوالي ألفي دولار يوميا”، معبرا عن تخوفه من أن يلجأ صاحب المطعم، لإغلاقه بالنظر للتكاليف الباهظة لتسيير محل في تلك المنطقة الراقية.
ومن المتوقع أن تلجأ الحكومة البريطانية، لإجراءات جديدة لتشجيع الموظفين على العودة لمكاتبهم، خصوصا بعد تسجيل شركة نقل لندن تراجعا كبيرا في مداخيلها.
وقد حصلت الشركة على قرض من الحكومة بقيمة ملياري جنيه إسترليني لتغطية خسائرها خلال مرحلة الإغلاق، وقررت رفع أسعار التذاكر، ومع ذلك فالإقبال على مترو الأنفاق ما زال يسجل أرقاما سلبية بنسبة اشتغال 24% من قدرته الاستيعابية.