قصة حب رائعة نقلتها من كتاب (المستجاد من فعلات الأجواد) للقاضي التنوخي ، وقد نقلها عنه الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) .
قال عبد الله بن معمر القيسي : حججت سنة ، ثم دخلت ذات ليلة مسجد المدينة لزيارة قبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فبينما أنا جالس بين القبر والمنبر ، إذ سمعت أنيناُ فأصغيت إليه . فإذا هو يقول :
شجاك نوح حمائم السدر …. فأهجن منك بلابل الصدر
أم عز نومك ذكر غانية ….. أهدت إليك وساوس الفكر
في ليلة نام الخلي بها …….. وخلوت بالأحزان والفكر
يا ليلة طالت على دنف ….. يشكو السهاد وقلة الصبر
أسلمت من تهوى لحر جوى …… متوقد كتوقد الجمر
فالبدر يشهد أنني كلف ……..مغرم بحب شبيهة البدر
ما كنت أحسبني أهيم بها .. حتى بليت وكنت لا أدري
ثم أنقطع الصوت ، فلم أدر من أين جاء ، وإذا قد عاد البكاء والأنين ، وأنشد :
أشجاك من (ريا) خيـــــــــــــــال زائر
والليل مسود الذوائب عــــاكـــــــــــر
واغتال مهجتك الهوى برسيســــــه
واهتاج مقلتك الخيــــــــــــــال الزائر
ناديت ريا والظــــــــــــــــــــل ام كأنه
بحر تلاطم فيه موج زاخـــــــــــــــر
والبدر يسري في السمــــــــــاء كأنه
ملك ترجل والنجوم عســـــــــــــــاكر
فإذا تعرضت الثريا خلــــتـهــــــــــا
كأساً به حبب الســـــــــــــــلافة دائر
وأرى به الجوزاء ترقص في الدجى
رقص الحبيب علاه سكر ظـــــــــاهر
يا ليل ، طلت على محـــــــــــب ماله
إلا الصباح مساعد ومــــــــــــــؤازر
فأجابني : مت حتف أنفك واعلــمن
أن الهوى لهو الهوان الحــــــــاشر
قال : وكنت ذهبت عند ابتدائه بالأبيات فلم ينتبه إلا وأنا عنده ، فرأيت شاباً مقتبلاُ شبابه قد خرق الدمع في خده خرقين ، فسلمت عليه ، فقال : اجلس من أنت؟ قلت : عبد الله بن معمر القيسي ، قال : ألك حاجة؟ قلت : نعم ، كنت جالساً في الروضة فما راعني إلا صوتك ، فبنفسي . أفديك ، فما الذي تجد؟ فقال : أنا عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري ، غدوت يوماً إلى مسجد الأحزاب فصليت فيه ، ثم اعتزلت غير بعيد ، فإذا أنا بنسوة قد أقبلن يتهادين مثل القطا ، وإذا في وسطهن جارية بديعة الجمال، كاملة الملاحة ، فوقفت علي وقالت :
يا عتبة : ما تقول في وصل من تطلب وصلك ؟ ثم تركتني وذهبت فلم أسمع لها خبراً ، ولا قفوت لها أثراً ، وأنا حيران أنتقل من مكان إلى آخر ، ثم صرخ وأكب مغشياً عليه ، ثم أفاق ، كأنما سبغت وجنتاه بورس ، ثم أنشد :
أراكم بقلبي .. مـــن بــلاد بعـــــــــيدة
فياهل تروني بالفؤاد على بعـــــــــدي
فؤادي وطرفي يأسفان عليــــــــــــكمُ
وعندكم روحي وذكركم عـــــــــــندي
ولست ألذ العيش حتى أراكـــــــــــــمُ
ولو كنت في الفردوس في جنة الخلد (أعوذ بالله)
فقلت : يا عتبة ! يا ابن أخي! تب إلى ربك واستغفره من ذنبك ، فبين يديك هول المطلع ، فقال : ما أنا بسال حتى يؤوب القارضان (يقصد الليل والنهار فإنهما يقرضان العمر)، قال عبد الله : ولم أزل معه إلى أ ن طلع الصبح ، فقلت : قم بنا إلى مسجد الأحزاب ، فلعل الله أن يكشف كربتك فقال : أرجو ذلك إن شاء الله ببركة طاعتك ، فذهبنا حتى أتينا مسجد الأحزاب فسمعته يقول :
يا للرجال ليوم الأربعاء ، أما ** ينفك يُحدث لي بعد النهى طـربا
ما إن يزال غزال منه يقتلني ** يأتي إلى مسجد الأحزاب منتقـبا
يخبر الناس أن الأجر همته ***** وما أتى طالباً للخير محتسبا
لو كان يبغى ثواباُ ما أتى ظهراً * مضخماً بفتيت المسك مختضبا ثم جلسنا حتى صلينا الظهر ، وإذا بالنسوة قد أقبلن وليست الجارية فيهن ، فوقفن عليه ، وقلن له : يا عتبة ما ظنك بطالبة وصلك وكاسفة بالك ؟ قال : وما بالها ؟ قلن : أخذها أبوها وارتحل بها إلى أرض السماوة ، فسألتهن عن الجارية ، فقلن : هي ريا بنت الغطريف السلمي ، فرفع عتبة رأسه إليهن وقال :
خليلي ، ريا قد أجد بكورها ** وسارت إلى أرض السماوة عيرها
خليلي ما تقضي به أم مالك *******علي فما يعدو علي أميرها
خليلي ، إني قد عشيت من البكا * فهل عند غيري مقلة أستعيرها؟
فقلت له : إني قد وردت بمال جزيل أريد به أهل الستر ، ووالله لأبذلنه أمامك حتى تبلغ رضاك وفوق الرضا ، فقم بنا إلى مسجد الأنصار ، فقمنا وسرنا حتى أشرفنا على ملأ منهم ، فسلمت فأحسنوا الرد ، فقلت : ِأيها الملأ ، ما تقولون في عتبة وأبيه ؟ قالوا : من سادات العرب ، قلت : فإنه قد رمي بداهية الهوى ، وما أريد منكم إلا المساعدة إلى السماوة ، فقالوا : سمعاً وطاعة , فركبنا وركب القوم معنا حتى أشرفنا على منازل بني سليم ، فأعلم الغطريف بنا فخرج مبادراًًَ فاستقبلنا ، وقال : حييتم يا كرام ، فقلنا : وأنت فحياك . إنا لك أضياف ، فقال : نزلتم أكرم منزل ، ثم نادى : يا معشر العبيد ، أنزلوا القوم ، ففرشت الأنطاع والنمارق وذبحت الذبائح فقلنا : لسنا بذائقي طعامك حتى تقضي حاجتنا ، فقال : وما حاجتكم ؟ قلنا : نخطب عقيلتك الكريمة لعتبة بن الحباب بن المنذر ، فقال : إن التي تخطبونها أمرها إلى نفسها ، وأنا أدخل أخبرها ، ثم دخل مغضباً على ابنته ، فقالت : يا أبت مالي أرى الغضب في وجهك ؟ فقال : قد ورد الأنصار يخطبونك مني ، فقالت : سادات كرام ، استغفر لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم) ، فلمن الخطبة منهم ؟ فقال : لعتبة بن الحباب ، قالت : والله لقد سمعت عن عتبة هذا : أنه يفي بما وعد ، ويدرك إذا قصد . فقال : أقسمت لا أزوجنك به أبدا ً ، ولقد نمى إلي بعض حديثك معه ، فقالت : ما كان ذلك يا أبت ، ولكن إذ أقسمت ، فإن الأنصار لا يردون رداُ قبيحاُ . حسن لهم الرد . فقال . بأي شيء ؟ قالت : أغلظ لهم المهر . فإنهم يرجعون ولا يجيبون . فقال : ما أحسن ما قلت . ثم خرج مبادراً . فقال : إن فتاة الحي قد أجابت . ولكن أريد لها مهر مثلها . فمن القائم به ؟ فقال عبد الله بن معمر : أنا ، فقل ما شئت . فقال : ألف مثقال من الذهب ومائة ثوب من الأبراد . وخمسة أكرشة عنبر . فقال عبد الله : لك ذلك كله . فهل أجبت ؟ قال أجل ، قال عبد الله : فأنفذت نفراً من الأنصار إلى المدينة ، فأتوا بجميع ما طلب ، ثم صنعت الوليمة ، وأقمنا على ذلك أياماُ ، ثم قال : خذوا فتاتكم وانصرفوا مصاحبين ، ثم حملها في هودج وجهزها بثلاثين راحلة من المتاع والتحف . فودعناه وسرنا . حتى إذا بقى بيننا وبين المدينة مرحلة واحدة . خرجت علينا خيل تريد الغارة أحسبها من سليم . فحمل عليها عتبة بن الحباب (العريس) . فقتل منهم رجالاً . وجرح آخرين . ثم رجع وبه طعنة تفور دماً . فسقط إلى الأرض . وانثنى بخده . فطردت عنا الخيل وقد قضى عتبة نحبه (مات) . فقلنا : واعتبتاه . فسمعتنا الجارية وهي عروسه (ريا) . فألقت بنفسها من فوق ظهر البعير . وجعلت تصيح بحرقة . وتنشد وتقول :
تصبرت لا أنى صبرت وإنما **** أعلل نفسي أنها بك لاحقه
فلو أنصفت روحي لكانت إلى الردى* أمامك من دون البرية سابقه
فما أحد بعدي وبعدك منصف **** خليلاً ولا نفس لنفس موافقه ثم شهقت وقضت نحبها (ماتت) ، فاحتفرنا لهما قبراً واحداً ودفناهما فيه ، ثم رجعت إلى المدينة ، فأقمت سبع سنين ، ثم ذهبت إلى الحجاز ووردت المدينة فقلت : والله لآتين قبر عتبة أزوره ، فأتيت القبر ، فإذا عليه شجرة عليها عصائب حمر وصفر (مزينة بقماش ملون) فقلت لأرباب المنزل : ما يقال لهذا الشجرة ؟ قالوا : شجرة العروسين