خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه(1):
حمد الله وأثنى عليه ثم قال:(إن الرائد(2) لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءاً، وإنها لجنة أبداً أو لنار أبداً).
الشرح والتحليل: حين أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بتبليغ قومه الإسلام، نادى على القبائل فاجتمع منهم نفر، فقام فيهم خطيباً يعلن أنه رسول من عند الله، وعليهم تصديقه من غير تكذيب، ضارباً لهم المثل بالرائد الذي لا يغش قومه ولا يخدعهم، لخطورة ما يترتب على الكذب والخداع والتغرير. فالرائد يصدق أهله لأن في صدقه الحياة والنماء والرغد، وإذا كذب هلك وأهلك قومه معه، وماتوا عطشاً وجوعاً في غياهب الصحراء، وكذلك النبي لا يكذب، وإنما هو الصادق الصدوق، الذى إن كذب وادعى النبوة هلك ومن اتبعه. ومن هنا يقسم صلى الله عليه وسلم لهم أنه لو حدث فرضاً إن كذب على الناس كلهم فإنه لا يمكن أن يكذبهم ولا يغرنهم، وأنه رسول الله لهم خاصة وإلى الناس كافة، وأخذ صلى الله عليه وسلم يبلغهم عن الموت والحساب، والبحث والنشور، وكل مجازي ومحاسب بما اكتسبت يداه، إن خيراً فخيراً. وإن شرا فشراً، ونهاية المطاف بعد وضع الموازين، وفض الجموع إما الجنة أبداً، خالدين فيها، وإما النار أبداً، هم فيها مخلدون.
من جماليات التعبير: إن هذه الخطبة القصيرة الموجزة، قد شملت جملة من الأسس والمبادئ، التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم تبليغها إلى قومه الأقربين انطلاقاً من قول الحق سبحانه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(3)، وتعد هذه أول مواجهة بين الحق والخير، اللذين حملهما الرسول إليهم، والباطل والشر الكائنين في النفوس الجاهلية. ولذلك اعتمد النبي في موقفه على جملة من الأدوات التي تعاضد المقام، وتلائم السياق. وأول تلك التعابير قوله: (إن الرائد لا يكذب أهله) فهو يخاطب العرب ـ وهو منهم – بما اعتادوا وألفوا، في حياتهم المعتمدة على مواطن العيش، وهذا الرائد كانوا يختارونه بعناية، لخطورة ما يترتب على أنبائه التي يحملها لهم، فجاءت عبارة النبي معدة أن يقتحم به نفوس مخاطبيه، يهيئهم للتصديق وقبول ما سيبلغهم به. وهذه العبارة مثل عربي(4)، توارثته الأجيال العربية والنبي أحد الذين توارثوه، واستعماله للمثل إعلان عن هوية العرق والجنس والدم، تمسك بالذات العربية فى عهدها الجديد، ومن الواجب انصهار الذات العربية والذات الإسلامية فى بوتقة واحدة، من أجل هداية وإنقاذ البشرية من سوء المصير. وقد صدرت الجملة بـ (إن) المؤكدة وجاءت كلمة (أهله) معبرة عن أواصر الدم الحميمة بين المثل وما ضرب له وجاءت العبارات التالية بأسلوب القسم والتوكيد إلى آخر الخطبة. وكان المقسم به هو لفظ الجلالة (والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم) وجاءت لو الامتناعية تشير إلى استحالة أن يكذب عليهم أو على غيرهم، وإذا استحال أن يكذب على الناس الآخرين، فكيف يكذب أهله وعشيرته؟ وإذا كان الكذب خداعاً وتغريراً، فإنه يستحيل أن يغرهم أو يغر غيرهم (ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم). ولأن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم أشركوا مع الله آخرين، ومنهم من كفر به وعبد الأصنام والخرافات، من أجل ذلك جاء القسم يواجه من كفر ومن أشرك (والله الذي لا إله إلا هو) عبارة جميلة من حيث أدائها ومن حيث دلالتها في ذاتها. فمن حيث أدائها التعبيري دعوة إلى نبذ الشرك والكفر، وإحلال التوحيد لله الواحد مكان كل ذلك، إنها دعوة لبداية عهد جديد لم يألفوه. وأما من حيث ذاتها فهي حقيقة أزلية، حمل لواءها الأنبياء والمرسلون، وأخذ النبي محمد يبحث عنها في تأملاته في الغار، حتى نزل عليه الوحي وأمره بالتبليغ.ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين التكوين النفسي والطبائع السلوكية في قومه، فقد جاءت عبارته التي يعلن فيها رسالته ونبوته في قالب القسم والتأكيد (والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة) فالعبارة المؤكدة بإن واللام المؤكدة، هي جواب قسم.ويزاوج الرسول صلى الله عليه وسلم بين القسم وأدوات المقاربة والتمثيل، في تبيانه للموت وحقيقته، والبعث وحقيقته (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون).ولأنه صلى الله عليه وسلم فصيح بطبعه ويخاطب أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، حرص على إشباع ملكة التذوق والبيان، لدى المتلقين، فجاءت العبارات قصيرة الفقرات، معتمدة على التراسل الصوتي (السجع) بين نهاياتها، ليحدث تلاؤماً وتلازماً بين جمال العبارات في الدلالة والمضمون، وجمالها في الشكل والمنطوق.