في الوقت الذي تعلن فيه وزارة التربية والتعليم عن نتائج الثانوية العامة، تبدأ معها مرحلة جديدة من الضغوط النفسية والاجتماعية التي لا تقل أهمية عن فترة الامتحانات نفسها، ففي كل منزل أردني، تتحول ورقة النتائج إلى أكثر من مجرد علامات، فهي بوابة للمستقبل، ومصدر للفخر أو الإحباط، وعلى الرغم من أن النجاح يُمثّل نهاية لمسيرة دراسية شاقة، إلا أنه غالباً ما يكون بداية قلق من نوعٍ آخر: قلق الاختيار، وقلق التوقعات.
قصص من قلب الحدث: أحلام مؤجلة وقلق لا ينتهي
تقول سارة، طالبة ناجحة بمعدل 90%، وعيناها مليئة بالدموع: “والدي يريدني أن أدرس الهندسة مثل أخي، لكنني أحلم دائمًا بالفنون الجميلة، أشعر أنني إذا اخترت ما أحبه، فسأخيب ظنه.”
ويقول أبو محمد، والد طالب ناجح: “بصراحة، النجاح بحد ذاته ليس كافياً. نحن نتوقع منه أن يدخل الطب، ونشعر بضغط من العائلة والأقارب، كل شيء حولنا يشير إلى أن الطب هو الطريق الوحيد المضمون.”
هذه القصص ليست استثناءً، بل هي جزء من نسيج اجتماعي يضع توقعات عالية على أبنائه، متجاهلاً أحيانًا شغفهم وطموحاتهم الفردية؛ ليكون هذا الضغط، ممزوجاً بالمقارنات مع الأصدقاء والأقارب، ليصبح من الممكن أن يؤدي إلى شعورٍ بالعزلة والاكتئاب حتى بين الناجحين.
وفي قصة أخرى، يجد “علي” نفسه أمام حيرة بعد أن حقق معدلاً مرتفعاً لم يتوقعه، حيث كانت خطته تقتصر على الالتحاق بكلية المجتمع، لكن المعدل الجديد فتح أمامه أبواب الجامعات، ليواجه ضغوطاً جديدة للاختيار بين رغبته السابقة والتوقعات المتزايدة من حوله.
ثقافة المقارنة الرقمية ودور المرشدين:
في زمن التواصل الاجتماعي، تتضخم الضغوط بشكل أكبر. حيث تصبح منصات مثل فيسبوك وإنستغرام مسرحاً لاستعراض النتائج والنجاحات، مما يزيد من الشعور بالضغط على الطلاب الذين لم يحققوا معدلات عالية، وهنا يبرز دور المرشدين التربويين في المدارس، فهم الحلقة الأهم في توجيه الطلاب وإرشادهم لاختيار تخصصاتهم بناءً على قدراتهم وميولهم الحقيقية، لا على توقعات المجتمع أو صيحات الموضة.
رأي الخبراء: منظور علمي ونفسي
يؤكد أستاذ علم الاجتماع الدكتور فواز الخالدي، أن “ثقافة المعدل المرتفع والجامعة المرموقة تحولت إلى قيمة اجتماعية لا إلى هدف تعليمي، وهذا بالتالي يضع عبئاً كبيراً على الأسر والشباب، ويدفعهم لاتخاذ قرارات لا تناسبهم.”
من جانبها، تشير الأخصائية النفسية الدكتورة لينا مراد إلى أن “التركيز المبالغ فيه على النتيجة النهائية قد يسبب اضطرابات نفسية وقلقاً حاداً لدى الطلاب، في حين يجب أن يدرك الأهل أن دورهم هو الدعم العاطفي، وليس وضع معايير صارمة للنجاح.”
أما الخبير التربوي الأستاذ يوسف القاسم، فيرى أن “المؤسسات التعليمية مطالبة بتطوير برامج التوجيه المهني، وتقديم خيارات بديلة للطلاب، وإبراز أهمية التعليم التقني والمهني كمسار حقيقي ومثمر للمستقبل.”
رؤية ملكية للتعليم: من التحدي إلى الفرصة
لطالما أكد جلالة الملك عبد الله الثاني المعظّم في خطاباته وورقاته النقاشية أن التعليم هو الأولوية الأولى والأساس المتين للنهوض بالأردن، فجلالته يرى أن الاستثمار في الموارد البشرية هو الاستثمار الحقيقي للمستقبل، وأن التعليم ليس مجرد شهادة، بل هو أداة لبناء الشخصية القادرة على التفكير الناقد والابتكار، في حين تتجاوز الرؤية الملكية مفهوم التعليم التقليدي إلى التركيز على جودة المخرجات، وتطوير المناهج لتواكب المتغيرات العالمية، وتقديم خيارات بديلة كالتدريب المهني والتقني، مما يفتح آفاقاً جديدة للشباب الأردني ويحررهم من ضغوط المسارات الأكاديمية النمطية، كما أنَّ هذه الرؤية تؤكد أن لكل شاب وشابة الفرصة للإبداع والنجاح، وأن المستقبل يُصنع بالشغف والمثابرة، لا بالمعدلات فقط.
قلق عالمي وتوقعات متشابهة: دراسات تؤكد الظاهرة
الضغوط النفسية والاجتماعية المرتبطة بالتحصيل الأكاديمي ليست ظاهرة محلية في الأردن فقط، فوفقاً لدراسات منظمة الصحة العالمية، فإن واحداً من بين كل سبعة مراهقين أي ما تُشكّل نسبته (14%) بين عمر 10 و 19 عاماً يعاني من اضطراب نفسي، ويعتبر القلق والاكتئاب من أكثر الاضطرابات شيوعًا، كما كشفت دراسات أخرى أن ما يصل إلى (68%) من المراهقين يشعرون بضغط كبير للحصول على درجات عالية، بينما يعتقد (3) من كل (10) مراهقين أن القلق والاكتئاب منتشران بشكل واسع في مدارسهم، في الوقت الذي تؤكد فيه هذه الأرقام أنَّ ما يمر به طلابنا في الأردن هو جزء من تحدٍ عالمي، يتطلب من المجتمع إيجاد حلول أكثر إنسانية ووعياً.
مستقبل ما بعد النتائج: أكثر من مجرد جامعة
الخيار ليس محصوراً في الدراسة الجامعية التقليدية فقط، هناك كليات تقنية ومؤسسات مهنية تقدم فرصاً واعدة في سوق العمل، على المجتمع أن يغير نظرته النمطية بأن “الجامعة هي المسار الوحيد للنجاح”، حيث تأتي هذه المؤسسات على أرض الواقع لتُترجم رؤية جلالة الملك عبد الله الثاني في تطوير التعليم والتركيز على التعليم المهني، ليسد احتياجات المجتمع الفعليّة، وإيجاد حلول عمليّة حديثة لمشكلة البطالة.
ولعل قصة “خالد” خير مثال على ذلك؛ فقد حصل خالد على معدل 95% في التوجيهي، وهو ما كان يؤهله لدراسة تخصصات مرموقة؛ لكنه، وشغفه بعالم البرمجة وتطبيقات الهواتف الذكية، دفعه للالتحاق بمركز تدريب متخصص لمدة عامين، ليحقق بعد تخرجه نجاحاً باهراً ويؤسس شركته الخاصة، هذه التجارب من قصص مثل قصة خالد تثبت أن الشغف والمثابرة هما الطريق الحقيقي للنجاح، بغض النظر عن المسار الأكاديمي المتبع.
وفي نهاية المطاف، لا يمثل النجاح في الثانوية العامة سوى محطة أولى في رحلة طويلة مستمرة، فالتحدي الحقيقي الذي يواجه مجتمعنا يكمن في كيفية تحويل هذا النجاح إلى مسيرة مهنية وشخصية ناجحة ومُرضية، فيما يتطلب ذلك تغييراً جوهريّاً في نظرة المجتمع للنجاح، ودعماً أكبر من الأهل والمؤسسات التعليمية التي يجب أن تحتضن شغف الطلاب وطموحاتهم الفردية، عندها فقط يمكننا أن نؤمن لأجيالنا القادمة مستقبلاً لا يحكمه المعدل، بل يزدهر فيه الإبداع والشغف الحقيقي.