بالنسبة للبعض قد يبدو هذا سؤالٌ سهل وإجابته في منتهى البداهة والوضوح. فهي شعارٌ مرفوع ومعروف، وهُناك العديد من الكُتب التي حملت الأصالة كعنوان وكغاية ينبغي أن تتحقق في واقع الأُمة، على أساس أن ماهية الأصالة هي من المعلوم بالضرورة، وإنما السؤال فقط هو كيفية المحافظة عليها أو تحقيقها في هذا العصر، أي كيف يُمكن أن تكون الأصالة مُعاصرة. إن هدف هذا المقال هو تصحيح هذا الخطأ.
إن الأصالة ليست شيئاً بديهياً، وليست من المعلوم بالضرورة. ولكنها بلا شك شيءٌ جديرٌ بهذا التمجيد، فما هي إذن هذه الأصالة الجديرة بالتمجيد؟
إنها في الحقيقة نقيض ما يتم تمجيده باسم “الأصالة” كثيراً، وأعني بذلك التُراث. ليس لأن التراث يفتقر الى الأصالة، وإنما لأنه يؤخذ على أنه هو في ذاته الأصالة، أو كمعيار لها، وهذا من أكبر وأطول الأخطاء التي نعيشها. لأن الأصيل إنما يستمد أصالته من ذاته، وليس من سُلطة الماضي.. الأصيل هو الذي يؤكد ذاته ويؤسسها من تلقاء ذاته.. هو الذي لا يستمد طبيعته ولا حقيقته ومشروعيته إلا من نفسه.
الأُمة المبدعة هي أُمة أصيلة بهذا المعنى. وفي التُراث -كما في كل تُراث آخر- قد وُجدت وعُرفت الأصالة بهذا المعنى، ولكنها أصالة زمانها وتاريخها وليست أصالتنا نحن الذين نعيش هُنا في هذا العصر. في الفكر على سبيل المثال، قد عرف العقل الإسلامي أن “الحق هو حقٌ في ذاته” أي أن الفكرة الحقيقية هي التي تحمل حجيتها في يدها، أو لنقل في ذاتها، ولا تستند الى سُلطة الماضي ولا سُلطة الشخصيات العظيمة، أو لا تستند الى سُلطة “الأصالة” بالمعنى الخاطئ والذي ينتقده المقال لهذه الكلمة.
لقد عرف التراث الإسلامي الأصالة وحققها حينما كان معاصراً، أي حينما كان يمتلك وعياً بالذات وبالزمان وبالتاريخ. بكلمة معاصرة: حينما كان حداثيّاً في زمانه، فهذا هو جوهر الحداثة. خلق الأصالة وليس استجلابها من أي مكان، لأن الأصيل هو النسخة الأولى والأخيرة من ذاته، وليس من شيء آخر.
إننا نفتقر إلى هذا النوع من الأصالة لأننا لم نعرف ذاتنا الحقيقية بعد، والتي تتحدد باللحظة التاريخية التي نعيشها وبالمكان والشروط الموضوعية التي تحدد وجودنا، بل تصنعه كما أوضحت ذلك في مقال سابق بعنوان “الوعي بالوجود”. فالذي يمنحنا هويتنا وذاتيتنا هو الشروط التاريخية الموضوعية التي تشكل واقعنا كشعوب أو كأُمة، هو التحديات والأقدار والمصائر التي تصنعنا ونصنعها هنا في هذه اللحظة، نحن الأحياء النائمون في هذه اللحظة، والذين عليهم أن يستيقظوا من سُبات القرون، ويدركوا أن الذي يُوجد هُنا هو ذات أُخرى فريدة ومختلفة تماماً عمّا نعتقد. هي نحن ولا أحد سوانا، فأسلافنا عليهم الرحمة يرقدون بسلام ونحن الذين نواجه هذه الحياة، ونواجه الموت أيضاً.
إن المشكلة الكبيرة التي نعانيها هي أن الإنسان المعاصر والأصيل لم يتجذّر فينا بعد. الإنسان فينا لم يقف بعد على قدميه منتصباً مستقيماً واثقاً من نفسه كما ينبغي له أن يكون.. أن يكون ذلك الإنسان الذي لا يبحث عن الانتماء إلى مكان ما، لا في الشرق ولا في الغرب.. لا في الحداثة كمنجز جاهز، ولا في التُراث كحل مجرّب وحصري للخلاص.. الإنسان مُبدع الأصالة التي تُخضع كلّ شيء لمعيارها هي، معيار الإنسان الحقيقي، صانع المعايير، بل هو بذاته معيار كل شيء.
بهذا المعنى يُمكن أن نضفي بمعاييرنا نحن، القيمة على “الحقائق” والأفكار، وأن نمنحها صلاحية أن تنتمي هي لنا، لا أن ننتمي لها نحن. فعندما نأخذ مفاهيم وقيَم ومنتجات الحداثة المعاصرة فهذا يجب أن يكون لأننا منحناها مشروعية أن تكون جزءاً منا. وكذلك عندما نتعاطى مع التُراث، نحن الذين نقيِّم ونحكُم ونختار، وهكذا يصبح التراث هو جزءٌ منّا، جزءٌ من أصالتنا الراهنة، ينتمي لنا ولا ننتمي نحن له، ببساطة لأننا نحن الفاعلون، فهو تراثنا بهذا المعنى.
أن ينسى الإنسان نفسه وموقعه ومركزتيه، يعني أن ينسى أن كل الأشياء والأفكار توجد بالنسبة له هو في النهاية.. شاء الإنسان ذلك أم لم يشأ فهو مركز الرؤية.. وأن ينسى هذه الحقيقة أو يُنكرها معناه أن يلغي نفسه باستمرار، ولكنه قد يعني أيضاً أن يضعها موضع الألوهية، لأن الأشياء والأفكار والحقائق إذا لم تكن توجد بالنسبة لك، فهذا يعني أنك تحيط بها من كل الاتجاهات والزوايا والمنظورات، وهذا غير ممكن بالنسبة للإنسان. ما يعني أن لا مفر للإنسان من مركزية الإنسان وإن نسي وإن أنكر، ومهمتنا دائماً هي أن نذكِّره بذلك.