يتخذ الكثيرون منّا قرارات مهمةً وحاسمةً في يناير من كل عام، لكن هناك أسباباً مقنعةً تحدو بك للانتظار إلى شهورٍ تسودها أجواءٌ أكثر دفئاً، وذلك بناء على طبيعة الخيارات التي يتعين عليك الانتقاء من بينها.
عندما نكون بصدد اتخاذ قرارٍ مهمٍ وحاسمٍ، يركز الكثيرون منّا على التفكير في القرار نفسه والخيارات المطروحة أمامنا بشأنه، بل ويمعنون في ذلك إلى حدٍ مفرطٍ.
لكن إذا كنا حقاً ذوي عقلية تحليلية، فربما يتعين علينا كذلك التفكير في عملية صنع القرار ذاتها. فهل يجدر بنا مثلاً وضع قائمتيْن إحداهما للإيجابيات والأخرى للسلبيات الخاصة بكل خيارٍ من الخيارات التي نحن بصددها؟
أو إعداد جدول يتضمن البيانات التي ترجح كفة خيارٍ ما من عدمه؟ هل يتعين علينا البحث والتفكير إلى ما لا نهاية؟ أم يُفضل أن نعزل أنفسنا عن عملية مراكمة البيانات بقدرٍ أكبر من المطلوب؟
لكن بالإضافة إلى التفكير في كيفية اتخاذ قرارٍ ما، ربما نرغب أيضاً في النظر في التوقيت الذي يجب علينا اتخاذه فيه.
فشهر يناير يبدو دائماً الوقت المثالي بالنسبة للمرء إما لإعادة ترتيب أمور حياته جذرياً واتخاذ قرارات حاسمة – تتعلق مثلاً بتغيير مساره المهني أو شرائه منزلاً جديداً – أو على الأقل لاتخاذ قرارٍ بشأن عملية إعادة الترتيب هذه نفسها.
ففي هذه الفترة من كل عام يكون الكثيرون عائدين من عطلاتهم التي حظوا فيها بوقتٍ خالٍ من الانشغالات والهموم، وأجروا خلالها نقاشات مع أحبائهم، وهما عاملان ربما يدفعانهم إلى التفكير في الخيارات الموجودة أمامهم على صعيد مساراتهم الحياتية.
لكن هل شهر يناير هو الشهر الأفضل بالفعل لاتخاذ قرارٍ مهمٍ أو حاسمٍ؟ الإجابة هنا تعتمد على الحالة المزاجية لكل شخص.
بداية، هناك الكثير منّا يشعرون بأن حالتهم المزاجية تسوء قليلاً خلال فصل الشتاء، وربما يكون هذا التغير في المزاج أكثر شدة لدى البعض. وهنا يمكننا التطرق إلى ما يُعرف بـ “الاضطراب العاطفي الموسمي”، الذي يتسم بأن من يعانون منه يُصابون بنوبات اكتئابٍ خلال شهور الشتاء، وهو أمرٌ شائعٌ بشكلٍ خاصٍ في المناطق الشمالية من العالم.
وكشفت إحدى الدراسات أن ما يصل إلى 10% من المقيمين في النصف الشمالي من الأرض – بما في ذلك أمريكا الشمالية – يتأثرون بهذه الحالة، فيما أظهرت دراسةٌ أُجريت مؤخراً في سويسرا، وتابع العلماء فيها الخاضعين للدراسة على مدار أكثر من 20 عامًا، أن 7.5% من السكان عانوا من الاكتئاب الموسمي.
اللافت أن أعراض هذه الحالة قد تستمر لفترةٍ أطول مما تتوقع، فقد أشارت دراسةٌ إلى أن المصابين بها في الولايات المتحدة يعانون من أعراضها لمدة تصل إلى 40% من العام في المتوسط.
لكن حتى أولئك الذين لا يعانون من الأعراض الكاملة لهذه المتلازمة، بما لا يجعلهم يُصنفون على أنهم مصابون بها، يشعرون في أغلب الأحيان بأن حالتهم المزاجية ليست على ما يرام بشكلٍ ما خلال الشتاء.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، كشفت دراسةٌ أُجريت عبر الهاتف بين سكان ولاية ميريلاند الأمريكية، أن 92 في المئة من المشمولين بها لاحظوا حدوث تغيرات مزاجية طرأت عليهم بنسبةٍ ما بفعل تغير الفصول، وبالأساس فيما يتعلق بتبدل حالتهم المزاجية إلى الأسوأ قليلا في فصل الشتاء.
ولا تُخلّف الحالة المزاجية للمرء تأثيراً على طبيعة ما يشعر به فحسب، وإنما يمكن أن تؤثر كذلك في قدراته المتعلقة باتخاذ القرارات أيضاً. لكن الأمر في هذا الشأن أكثر تعقيداً مما تظن، فتدني الحالة المزاجية للمرء لا تعني أنه سيصبح في كل الأحوال أقل قدرةٍ على اتخاذ قراراتٍ سليمة، من نظيره الذي يحظى بمزاجٍ أفضل.
مكافأة من يُقْدِمون على المجازفة
بداية، يجعلنا المزاج المكتئب أكثر نفوراً من الإقدام على خطواتٍ تنطوي على مخاطرة. ويعتقد الباحثون أن ذلك ينبع من أن وجود قدرةٍ محدودةٍ على الإحساس بالسعادة لدى المكتئبين، يعني أنه ليس لديهم القدر ذاته من الدافع العاطفي القوي أو المُفعم بالتفاؤل الموجود عند نظرائهم غير المكتئبين، حيال إمكانية الحصول على مكسبٍ أو مكافأةٍ، وهو الدافع الذي يقود إلى المجازفة من أجل جني هذا المكسب.
فعلى سبيل المثال، عندما أُجريت دراسةٌ من ضمن مكوناتها ممارسة إحدى ألعاب الورق لتقييم مدى استعداد من شملتهم الدراسة للإقدام على خطواتٍ تنطوي على مجازفات، كان المكتئبون أقل قدرة على تذكر الخيارات التي تزيد من فرص حصولهم على مكافأة، وهو ما جعلهم أسوأ أداءً في هذه اللعبة مُقارنةً بغير المكتئبين.
كما كان المشاركون في الدراسة ممن يعانون من أعراض اكتئابٍ أكثر تحفظاً في الإقدام على مخاطراتٍ، مُقارنةً بمن لا يمرون بمثل هذه الأعراض، وهو ما جعلهم يفضلون إيثار الخيارات الآمنة التي تتيح لهم فرصاً أقل لنيل مكافأة، بدلاً من تبني استراتيجياتٍ تنطوي على مجازفةٍ أكبر وتزيد في الوقت نفسه من احتمالية نيلهم مردوداً إيجابياً أكثر.
ما سبق يشكل نتائج لدراساتٍ أُجريت في المختبرات، لكن ذلك لا ينفي أن ثمة أدلةً معتبرةً تفيد بأن هذه الأمور تحدث في الحياة الواقعية أيضاً. فعلى سبيل المثال، من المرجح أن يكون الأشخاص المصابون بـ “الاضطراب العاطفي الموسمي” أكثر تحفظاً في قراراتهم المالية خلال الشتاء، أكثر ممن لا يعانون من ذلك.
المفارقة أن كون المرء أكثر ميلاً للابتعاد عن المجازفات، ليس دائما بالأمر السيء على صعيد عملية اتخاذ القرار.
ويَصْدُقْ ذلك بشكلٍ خاصٍ بالنظر إلى أن لدى غالبية الأشخاص الأصحاء المشكلة المُناقضة لذلك تماماً، والتي يُطلق عليها اسم “الانحياز للتفاؤل أو التفاؤل غير الواقعي”.
فغالبيتنا يعتقدون بأن نسبة تعرضنا لحدثٍ سيءٍ – مثل الإصابة بالسرطان أو أن نكون طرفاً في حادث سيارةٍ – أقل مما تشير إليه الإحصاءات، ويتصورون أن المستقبل سيكون وردياً (كأن نتلقى فرص عملٍ أكثر أو ننعم بعطلةٍ رائعةٍ) بشكلٍ أكبر مما يحدث في نهاية المطاف على أرض الواقع.
كما نميل للظن بأننا قادرون على الإمساك بزمام الأمور بقدرٍ أكبر مما هو حادثٌ بالفعل، خاصةً إذا ما كنا أطرافاً بأنفسنا في هذا الحدث أو ذاك.
وكما يمكن أن تكون قد توقعت، لا يسقط المكتئبون الذين يتبنون نظرةً أكثر تشاؤماً للعالم في هذا الشَرَك. وتعني هذه “الواقعية ذات الطابع الاكتئابي” أن أصحابها أكثر قدرة على التقييم الدقيق للفترات الزمنية الفاصلة بين أحداثٍ بعينها، وعلى توقع كيف ستؤثر قرارات الآخرين عليهم، مُقارنةً بنظرائهم الأكثر تفاؤلاً. كما يتعلم هؤلاء كيف يتجنبون ردود الفعل التي تنطوي على مجازفاتٍ، بشكلٍ أسرعٍ ممن لا يعانون من اكتئاب.
لكن ذلك لا يعني أنهم يتسمون بالدقة في التنبؤ والتوقع بوجه عام. فعلى سبيل المثال، يتفوق غير المكتئبين على المصابين بالاكتئاب، على صعيد التوقع الدقيق لنتائج مباريات كأس العالم لكرة القدم.
لكن المسألة لا تخلو كذلك من أمرٍ محيرٍ قليلاً، يتمثل في أنه بالرغم من أن المتفائلين ربما يكونون ممن ينظرون إلى مستقبلهم من خلال نظارة وردية، فإنهم كذلك أكثر قدرة على تجسيد ذاك المستقبل الإيجابي على أرض الواقع.
فالتحلي بقدرٍ أكبر من التفاؤل يرتبط بتحقيق مستوى أعلى من النجاح الوظيفي وإقامة علاقاتٍ أكثر نجاحاً والتمتع بصحةٍ أفضل.
وكشفت دراساتٌ، أُجريت على مدار فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ، عن أن الرابط بين التفاؤل ومثل هذه الأمور يتجاوز على ما يبدو مجرد وجود علاقة ارتباطٍ متبادلة، من قبيل أن يقول أحدهم مثلاً “أنا متفائل لأنني في صحةٍ جيدةٍ”، إلى كونها علاقةً سبب بمسبب تتجسد في مثالٍ على غرار “تفاؤلي يساعدني على أن أكون في صحةٍ جيدة”.
وبوسعنا أن نضرب مثالاً هنا بدراسةٍ شملت نحو 97 ألف امرأة، لم تكن أيٌ منهن مصابة بالسرطان أو أمراض القلب والأوعية الدموية عند بداية الدراسة. وبعد ثماني سنوات، كان عدد من أصبن بمرض القلب التاجي أو فارقن الحياة لأي سببٍ بين المتفائلات من بين هؤلاء السيدات، أقل من نظيره بين المتشائمات منهن.
فضلاً عن ذلك، فإذا كنت تجد مشقةً في اتخاذ قرارٍ مصيريٍ ما، فربما يجدر بك الانتظار إلى فترةٍ يكون فيها النهار أكثر طولاً ما يجعلك في حالةٍ مزاجيةٍ أفضل، بالنظر إلى أنه من الممكن أن تؤثر أعراض الاكتئاب على عملية اتخاذك للقرار، بما يجعل بلورة أي قرارٍ من الأساس أكثر صعوبة، إذ يشعر المكتئبون بأنهم أكثر تردداً وتضارباً في المشاعر والأفكار من نظرائهم من غير المكتئبين.
من هذا المنطلق يمكن القول إن العلاقة بين الحالة المزاجية وعملية اتخاذ القرار ليست بالبسيطة، وهو ما يعني أنك إذا وضعت مسألة التوقيت في اعتبارك عند اتخاذك لقرارٍ مصيريٍ، فربما يتوجب عليك أولاً أن تحدد طبيعة هذا القرار المصيري نفسه. هل هو من قبيل ذلك الذي قد يؤدي اتخاذه إلى خسائر كارثيةٍ ما يتطلب توخي الحذر وتبني نظرةٍ واقعية؟
إذا كان الحال كذلك فقد يكون الشتاء هو الوقت الأنسب لكي تتخذ فيه قراراً مثل هذا. أما إذا كان القرار من نوعية ذاك الذي تكون فيه كل الاحتمالات مطروحةً، وتكون أنت مستعدٌ بصدده لتقبل قدرٍ معينٍ من الغموض فيما يتعلق بنتيجته، فيمكن لك هنا اغتنام فرصة تمتعك بحالةٍ مزاجيةٍ أفضل قليلاً خلال فصل الصيف.
وهكذا فإذا شعرت بأنك في وضعٍ يجعلك غير قادر تماماً على اتخاذ القرار بأي شكلٍ من الأشكال، فربما سترغب حينها في الانتظار قليلاً إلى أن تعود الشمس الساطعة من جديد. فمن يدري، فربما لن يؤدي ذلك إلى تحسين حالتك المزاجية فحسب، وإنما إلى تبديد حيرتك أيضاً.