في عام 1955، كانت أبوظبي على موعد مع ميلاد من سيصبح واحداً من أوائل أصوات الحداثة الشعرية في دولة الإمارات، بل من سيعطي الإمارات وجهاً جديداً بأبعاد ثقافية وشعرية وصحفية وترجمية وبحثية وتراثية، من تلك التي عزّزت مكانة الدولة على الساحة العربية وجعلتها في قلب صناعة الحدث الثقافي.
البعض يولد وفي فمه ملعقة من ذهب -كما يقولون- لكن، الشاعر والأديب والصحفي الإماراتي حبيب يوسف عبدالله الصايغ، ولد وفي فمه ملعقة من شِعْر، وفي دمه يسري عشق الأدب وسحر البيان وملكات الكتابة، وهو ما أدى به لاحقاً إلى دخول بلاط «صاحبة الجلالة» كاتبَ رأي وتحليل ثقافي، وواحداً من أكثر صحفيي الإمارات المتخصصين في الشأن المحلي والعارفين بشؤونه وشجونه.
كتب عنه خالد عمر بن ققة في صحيفة «العرب» اللندنية (4/12/2016) -بتصرف-، واصفاً إياه بالإنسان الذي «تتداخل لديه، الشاعر والإعلامي، الأزمنة والمعارف ومستويات العرفان، ما يجعله ظاهرة فريدة على المستوى الإبداعي، فهو الشاعر الذي يوظّف الإعلام لخدمة الوجدان، والإعلامي الذي يجعل اللغة طيّعة ومرهفة ومعبّرة وخادمة برونقها الجمالي لكل صنوف الإعلام، بما في ذلك السلبي منها، وتتمّ عملية الفصل بين الحالتين، أو الاندماج الكلي فيهما بوعي تام، ويمكن القول إن الشعر والإعلام لدى الصايغ مثل الماء والهواء، دون تمييز أيهما هذا، وأيهما ذاك. إنه مبدع طوّع الشّعر فعشقتْهُ الصحافة».
أما الكاتب اللبناني المقيم في الكويت، حمزة عليان، فكتب عنه في كتابه «وجوه خليجية» (دار ذات السلاسل/ الكويت/2017/ ص 191) قائلاً: «الشعر في حياته هدف جميل يستحق التعب من أجله ومجابهة قوى ظاهرة وخفية تتعصب لرأيها، ففي الثمانينيات كان وحده من يحاول كتابة القصيدة الجديدة.
يزعم أنه اشتغل على نفسه منذ 1968 (عازماً على تفجير بذرة الشعر، من دمه إلى دم الأشجار والبحر)، والشعر عنده يدربه على الطيران ثم يهبط عنه مستخدماً مظلته. وفي النهاية يقول كلمته (الفاشلون وحدهم يجرؤون على استنساخ الشعر المجاني والقصائد المنتجة حتى تموت)».
بدايات
بدأ الرجل كتابة الشعر صغيراً، حين نظم قصيدة أهداها لأمه، ثم راح ينظم المزيد من القصائد ويكتب النثر عن الوطن وقضاياه وينشرها في الصحافة حينما كان طالباً بمدرسة «جابر بن حيّان» الثانوية في أبوظبي، الأمر الذي شاع معه اسمه كأحد المتفوقين في الكتابة من أبناء الوطن.
ويبدو أن الخبر وصل إلى مسامع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي لم يتردد في اختياره للعمل محرراً في صحيفة «الاتحاد» الناشئة عام 1973 براتب شهري بلغ 3000 درهم، وذلك من منطلق تشجيع الموهوبين من المواطنين والأخذ بيدهم.
عزّز الصايغ ثقافته العامة ومواهبه المتعددة بالحصول على إجازة في الفلسفة عام 1977، ثم نال درجة الماجستير في الترجمة وعلم اللغة المقارن من جامعة لندن سنة 1998، وهو ما مكنه من «طرح جملة من القضايا والأفكار ذات الإشكاليات المعرفية، والتي تحمل أبعاداً وجودية وكونية، منها ما يتعلق، أحياناً، بعالم الغيب تطلعاً وتساؤلاً وتأويلاً وإفضاء للنفس من عبء المساءلة، وترويحاً عنها لتنطلق في عوالم شتى، تتّخذ من الواقع حيناً ومن الخيال حيناً آخر مطية للسفر البعيد»، بحسب تعبير خالد عمر بن ققة (مصدر سابق).
مسيرة مهنية
قلنا إن الصايغ دخل بلاط صاحبة الجلالة محرراً في صحيفة «الاتحاد»، فكان أول ما بدأ به هو تحرير صفحة تحت عنوان «نادي القلم» من أجل استقطاب الأقلام المحلية الواعدة وتشجيعها، وسرعان ما تمت ترقيته فعيِّن عام 1978 نائباً لرئيس تحرير الصحيفة، وكان قبلها بعام قد حصل على منصب مدير الإعلام الداخلي بوزارة الإعلام والثقافة. وفي عام 1980 أسّس أول ملحق ثقافي بالإمارات تحت اسم «الفجر الثقافي»، ثم أسس في عام 1982 مجلة «أوراق نقدية» وترأس تحريرها مذاك وحتى عام 1995.
وما بين هذا وذاك تولّى الصايغ مسؤوليات أخرى ذات صلة بالإعلام والثقافة والتراث مثل: رئيس الهيئة الإدارية لبيت الشعر في أبوظبي، ورئيس الهيئة الإدارية لمسرح أبوظبي، وعضو مجلس إدارة نادي تراث الإمارات، ورئيس لجنة الإعلام والعلاقات العامة فيه والمشرف العام على مجلة النادي الشهرية «التراث»، ومدير عام مركز سلطان بن زايد للثقافة والإعلام، ونائب رئيس لجنة توطين وتنمية الموارد البشرية في القطاع الإعلامي في الدولة، ورئيس اللجنة الوطنية للصحافة الأخلاقية في الإمارات، علاوة على شغله منصب مستشار دار الخليج ورئيس التحرير المسؤول.
إبداع وتأليف
لم تستطع كل مسؤولياته ووظائفه هذه إبعاده عن عشق الكتابة والتأليف. فبينما كان على رأس عمله، تمكن من إثراء المكتبتين الخليجية والعربية بالعديد من الإصدارات.
فالرجل الذي بدأ بديوان شعره الأول الموسوم «هنا بار بني عبس» في عام 1980 والذي قوبل باحتفاء كبير من متذوقي الشعر وكتاب الصحافة الثقافية، تشجع بسبب هذا الإحتفاء وأصدر في العام التالي كتابه الثاني «التصريح الأخير للناطق باسم نفسه».
ثم توالت إصداراته فقدم كتب: قصائد إلى بيروت (1982)، ميارى (1983)، الملامح (1986)، قصائد على بحر البحر (1993)، وردة الكهولة (1995)، غد (1995)، رسم بياني لأسراب الزرافات (2011)، كسر في الوزن (2011).
والحقيقة التي لا بد من التصريح بها أن الصايغ ما كان له أن يبرز كإسم معترف به في دنيا الصحافة والإعلام، وكشاعر تزاحم النقاد على نتاجه الأدبي، وكصاحب قصائد ترجمت إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والأسبانية والصينية لولا أنه حرك قلوبا وجذب إلى عوالمه نفوسا وآسر وجدانا بنصوصه الأدبية والشعرية.
ثراء وألق
شخصية بكل هذا الثراء والدأب والألق والنشاط منذ سنوات صباه وشبابه، لم يكن مستغرباً أن يؤول إليه منصب الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب مع منصب رئيس تحرير مجلة «الكاتب العربي» التي تصدر عن الاتحاد، وذلك منذ ديسمبر 2015 وحتى الآن، خصوصاً في ظل الخبرة التي راكمها من عمله رئيساً لمجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات منذ عام 2009 وحتى اليوم.
كما لم يكن مستغرباً في ظل كل هذه المعطيات أن يحصل صاحبنا على العديد من الجوائز والتكريمات. فقد حصل على جائزة «تريم عمران» عن فئة روّاد الصحافة عام 2004، وكرمته جمعية الصحفيين الإماراتية في عام 2006 كأول صحفي إماراتي قضى 35 عاماً في خدمة الصحافة الوطنية، ونال عام 2007 جائزة الدولة التقديرية في الآداب وكانت تلك هي المرة الأولى التي تمنح فيها الجائزة لشاعر، أما عام 2016 فقد كرّمه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ضمن ملتقى «أوائل الإمارات»، كونه أول إماراتي يشغل منصب الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.
وفي هذا السياق، قال عنه مواطنه ونائبه في الأمانة العامة للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب الأديب والشاعر أحمد عيسى العسم، طبقاً للمنشور في صحيفة «البوابة نيوز» (29/11/2016): «إن الصايغ صاحب تجربة شعرية كبيرة تجاوزت في حضورها الساحة الإماراتية والخليجية إلى الساحة العربية، كما أنه واحد من كبار الإعلاميين العرب، وقد استطاع منذ انتخابه رئيساً لمجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات أول مرة عام 2009 أن يجعل من الاتحاد مؤسسة قوية لها صوتها المسموع داخل منظومة الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، ما أهله في ما بعد لتولي مهمة الأمين العام للاتحاد العام عام 2015، لينقل بذلك اتحاد كتاب وأدباء الإمارات إلى موقع قيادة العمل الثقافي العربي، بما يتلاءم مع موقع دولة الإمارات العربية المتحدة ككل من حيث ريادتها وتصدرها لمشاريع التنمية في المنطقة»، مضيفاً أن الصايغ: «يمثل المبدع الإماراتي الجاد والمخلص والذي يقدم المصلحة الوطنية على سائر الأهداف الأخرى، وهذا ما يمكن تلمسه من خلال سيرته شاعراً وإعلامياً وإدارياً ومتابعاً للشأن السياسي المحلي والعربي والعالمي، فضلاً عن مواقفه المعلنة في الدفاع عن فكر التنوير والتسامح الذي تنادي به دولة الإمارات ونحرص على تطبيقه».
عبقرية شعرية
في مقال له حول سلاسة اللغة وغنائية النصّ عند الصايغ، كتب الروائي الهولندي ذو الأصول العراقية الدكتور ذياب فهد الطائي في صحيفة «المثقف» (26 يونيو 2019)، ما مفاده أن التركيب اللغوي في قصائد الصايغ يتميّز بالعفوية والإيقاع الغنائي وقربه من القلب حتى لو كانت القصيدة تتحدث عن الموت مثل قصيدته الموسومة «أسمّي الردى ولدي» التي اعتبرها الكثيرون من أهم قصائده، ونموذجاً لعبقريته الشعرية، ليس بسبب طولها ولغتها الجميلة الراقية، وإنما أيضاً لطرحها مسائل فلسفية ذات صلة بالموت الذي جسده الصايغ كائناً قابلاً للحوار وللرفض، ناهيك عن أن القصيدة تفيض بالإفصاح عن العالم الداخلي للشاعر بكل ما فيه من روح جيّاشة وعواطف متضادّة موشّحة بالحزن والحكمة، الأمر الذي جعل هذه القصيدة مرجعاً مهماً للدراسات المتعلقة بالشعر الفلسفي.. نقرأ في قصيدة «أسمّي الردى ولدي»:
أسمّي الردى ولدي
وأسمّي الحجارة فلذة كبدي
أجيئك والعمر ينهي مكيدته حيث يبدي
وحيث المنايا معلقة في حوانيت وجدي
.. وحبيبي يغني معي
وحين يجوع أناوله أضلعي
.. أحاول أن أعلن الحرب وحدي
فلا فرق، سوف أدوس على القلب،
.. ومستقبلي يا صديقي
في حريقة صدري
والسراج المعلق في سقف قبري
.. أمي وأجدادي النائمين على حافة البحر
وفي موضع آخر يهزنا المعنى:
ويكفيك ما فيك
فانهض لعلك تقوى على الموت
دفاع مستميت
من زاوية أخرى، عـُرف عن الصايغ ليس اهتمامه بجماليات اللغة في قصائده فحسب، وإنما عـُرف أيضاً بدفاعه المستميت عن اللغة العربية وضرورة أن تتكاثف الجهود العامة والخاصة من أجل حمايتها ومقاومة تهميشها عبر الدفاع عنها في الإعلام والإعلانات وأسماء السلع والمحال التجارية وطريقة استخدامها في وسائط التواصل الاجتماعي، وعبر تطوير مناهج تعليمها بطريقة تتوافق مع التطورات الكبيرة الحادثة في مجالات المعرفة، وذلك من منطلق أن اللغة هي عنوان الهوية وأداة الثقافة ووعاء الفكر وأسلوب لحياة الناطقين بها.
ثقافة تراكمية
والصايغ، صاحب المواقف الناقدة لغياب الكتّاب والأدباء الإماراتيين عن المشاركة في الفعل الثقافي وتطوير وتنشيط علاقتهم مع صحافتهم الثقافية، هو الذي أجاب عن سؤال طرحته عليه صحيفة «البيان» (16/9/2018)، بـُعيد انتخابات اتحاد كتاب الإمارات واختياره رئيساً له للمرة التاسعة، حول الحراك الثقافي المستقبلي في الإمارات، بالقول: «في العمل الثقافي لا يمكن أن تكون هناك قطيعة مع الماضي، لأنه عمل تأسيسي وتراكمي، وفي يقيني أننا يجب أن نستفيد من التجربة، أعني تجربة أول يوم تنادينا فيه لتأسيس اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في سنة 1984، هذا البيت، الذي سيستمر إن شاء الله.
وعلينا كذلك أن نعي أنها تجربة، ولكل تجربة سلبياتها وإيجابياتها، سواء كانت في الماضي أم الحاضر غير أن المهم هو هذا الوعي»، مضيفاً: «مفهوم الثقافة يفرض علينا هذا الوعي بالتأكيد.
الثقافة باعتبارها جامعة للفكر، للتراث، للمعاصرة، للحرص على تطوير قدرات أفرادها على موضوعات كالشباب.. إلى آخره، كذلك أضيف الحرص في الجانب الذي يتعلق بالظروف المحيطة، إن استحقاق سنة 2021 بات قريباً جداً، إن أمامنا في الواقع ثلاث سنوات من العمل الشاق، ما يتطلب أن نكون إيجابيين ثقافياً، ونحن نعلم أن حكومتنا تريد أن تكون متميزة باستمرار ومن بين أول خمس حكومات في العالم».
وحينما ووجه باستغراب البعض من وجود العديد من العناصر الرجالية والنسائية الشابّة في القيادة الجديدة لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وعما يمكنهم تقديمه للاتحاد والثقافة في ظل محدودية خبرتهم، أجاب متسائلاً: «هل يذكر هؤلاء كم كانت أعمارنا عندما ذهبنا إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وطالبنا بأن يكون هناك اتحاد لكتّاب وأدباء الإمارات؟ كنّا في العشرينات وبعضنا حتى أقل من هذه السن، وأذكر أن بعضنا كان قد نشر أعماله في كتب، أذكر أنه كان قد صدر لي دواوين «هنا بار بني عبس»، و«الناطق الرسمي باسم نفسه»، و«قصائد إلى بيروت»، و«الملامح»، وكنت في الـ25 وأباً لطفلين، لقد مضى على ذلك نحو 34 عاماً».
ثم أضاف: «الحقيقة أن من حضر انتخابات اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات ثم تناسى هذه الحقائق عن نفسه، لا يحق له أن يعترض على وصول هؤلاء الشباب إلى مجلس الإدارة. لا أحد يمكنه أن يقف في وجه الزمن.
الزمن يتقدم إلى الأمام، والأكيد بالنسبة إليّ أن هذا الجيل هو جيل أفضل من جيلنا، وهناك ظروف موضوعية تفرض ذلك. لقد أتيحت لهؤلاء الشباب أجواء أفضل، مناخات أفضل، بنية تحتية وتقنية أفضل، هو جيل الوسائل الجديدة.
وعندما بدأنا بالكتابة والإبداع قبل الثمانينيات لم تكن هناك جامعة في الإمارات، ثم افتتحت جامعة «الإمارات»، والآن لدينا ما يزيد على 60 جامعة، ولا تنسوا البعثات والتغيير الهائل الذي حصل في العالم، وحتى الحروب، الانتصارات والانكسارات، كل ذلك يضيف إلى هذا الجيل. والواقع أن رهاننا الكبير ينبغي أنْ يكون على الشباب، كما أن من هم أكبر ينبغي أنْ يشاركوا لا أن يجلسوا في بيوتهم».
تكريم دولي
حظي حبيب الصايغ بعدة تكريمات على المستويات المحلية والعربية والدولية؛ تقديراً لجهوده في خدمة الثقافة الإماراتية والعربية، ومن أبرزها تكريمه في يناير 2019 من قبل معرض «نيودلهي» الدولي للكتاب الذي شارك فيه ضمن وفد الشارقة بناء على تكليف من الرئيس الفخري لاتحاد كتاب الإمارات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة.
وبالمناسبة وجّه الصايغ كلمة بالإنجليزية للمثقفين الهنود، نوَّه فيها بالعلاقة الأزلية بين الإمارات والهند، والتي تعود لأعماق التاريخ، قبل أن يستطرد ويقول: «الهند تضيء ذاكرتنا الفردية والجمعية في الإمارات بذلك الشعاع البهيِّ منذ كانت كلمة (السفر) عند آبائنا وأجدادنا مرادفة لكلمة (الهند)، كما لو كانت الهند كل عالمنا الخارجي، وكما لو كانت مومباي ودلهي وغيرهما من مدن ومناطق الهند بوابتنا إلى اللقاء والانفتاح والسلام والحرية».