ما إن استقرّ النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في المدينة المنورة، مُكوّنا الهيكل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة الناشئة حتى هبّت رياح الأعداء، يريدون أن يُطفئوا نور الله تعالى، فجُيّشت الجيوش، وحُزّبت الأحزاب، وتكالب الأعداء من كل حدب وصوب، ولقد مرَّت على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه لحظات حرجة عصيبة.
ولكنّ تعامل مع هذه الأزمات والمعضلات بأسلوب عظيم، يجدر بنا جميعا أن نتتبع هديه صلى الله عليه وسلم في إدارة الأزمات، مستخلصين الدروس والعِبَر، مُحاولين الوصول إلى شيء مما تميّز به هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأزمات.
الأحداث كثيرة في سيرته صلى الله عليه وسلم، ولكننا سنتاول في هذا المقال غزوة الخندق؛ لما كان فيها من أحداث عظام حاقت بالمدينة المنورة، فلقد عَظم فيها الخطب، واستفحل الخطر، وعمّ الخوف قلوب المنافقين، وكثرت الأقاويل وانتشرت الشائعات.
لقد كانت غزوة الأحزاب في شوال من السنة الخامسة للهجرة النبوية من أشد اللحظات التي مرَّت على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد كانت أياماً عصيبة ظن الظانون من المنافقين وضعاف الإيمان أن جموع الأحزاب ومن حالفهم من يهود سيستأصلون شأفة الإسلام، ولن تقوم للمسلمين بعد ذلك قائمة. فقد أحاط العدو بالمسلمين وحصروهم في مدينتهم، وتبع ذلك نقض يهود بني قريظة عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، واشتدّ الخطب وبلغت القلوب الحناجر، حتى أن القران الكريم صوّر تلك الحالة تصويراً دقيقاً فقال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً}.
دروس وعبر
ومع اشتداد وطأة هذا الأزمة نرى النبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع الأحداث بكل حكمة، حتى غدت هذه الإجراءات والسياسات النبوية المتبعة إنموذجاً تستقى منه الدروس والعبر.
وسنتناول بعضاً من هذه الإجراءات النبوية:
1. تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأزمة بواقعية تامة ليس فيها استهانة أو استخفاف، لذا نراه صلى الله عليه وسلم قد حشد الصحابة كلهم في مواجهة جموع الأحزاب، وجعل النساء والذراري في الآطام.
2. إستشارة الصحابة ومعرفة آرائهم وأفكارهم في كيفية مواجهة الأحزاب وخطرهم، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم مأمورٌ من الله تعالى بالمشورة في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} لذلك نرى أن استشارته صلى الله عليه وسلم لأصحابه تمخضت عن فكرة حفر خندق في الشمال الغربي للمدينة، وهي فكرة أشار بها سلمان الفارسي رضي الله عنه، ولقد استهجنت الأحزاب ذلك وشكّلت عنصر مفاجأة لم يخطر لهم على بال، فلم تكن العرب تعرف ذلك في جزيرتهم، ولقد كان لهذا الخندق الدور الكبير في صد الأحزاب ومنعهم من دخول المدينة المنورة.
كما جال في خاطر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان على ثلث تمر المدينة ويرجعوا عن قتال المسلمين، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك إلا أن يشاور سيدي الأوس والخزرج في ذلك فهما أصحاب النخيل أصلاً فبعث إلى سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج رضي الله عنهما ولما عرفا أن ذلك ليس وحياً من الله تعالى بل هو رأي منه صلى الله عليه وسلم دفعاً لخطر الأحزاب عنهم قالا له: والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
3. العمل على بث الأمل في النفوس ومحاربة اليأس، ولقد كان الشعار المرفوع في تلك الفترة كما قال ابن هشام في سيرته قال: وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبني قريظة: «حم لا ينصرون».
4. التحكم بنشر الأخبار، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع معنويات أصحابه ويثير فيهم الحماس، وأن النصر مع الصبر، وأن هذه الغمّة إلى زوال، ولم يكن يسمح لخبر أو شائعة أن تفت في عضد المسلمين، أو أن تنال من معنوياتهم، ومن خير الأمثلة على ذلك أن حيي بن أخطب زعيم يهود خيبر جاء إلى كعب بن أسد القرظي زعيم بني قريظة وما زال به حتى جعله ينقض عهده مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل خبر ذلك إلى النبي رغب في التأكّد من صحة ذلك فبعث بسعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم إلى حصون بني قريظة ليتأكدوا من صحة الخبر، وقال لهم: إن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كان الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس، هكذا ينبغي للقيادة أن تضبط وقع الأخبار، وأن لا تسمح للأخبار السيئة والإشاعات أن تمرّ بين الناس، ذلك أن للإشاعات والأخبار السيئة وقعٌ على الناس أشد من وقع الحسام، وأن الخوف والرعب يفعل ما لا يفعله العدو.
5. استغلال نقاط ضعف العدو، فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدم هذا التحالف الذي نشأ بين الأحزاب وبين بني قريظة، وذلك أن نُعيم بن مسعود رضي الله عنه أسلم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أسلمت يا رسول الله وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرْني بما شئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خُدعة، فخرج نُعيم إلى بني قريظة وأشار عليهم أن يأخذوا عدداً من أشراف قريش وغطفان حتى تطمئن بنو قريظة أن الأحزاب لن يتخلوا عنهم ويتركوهم والمسلمين بعد ذلك إذا رحلوا إلى بلادهم، ثم جاء إلى الأحزاب وقال لهم: إنّ بني قريظة قد ندموا على نقضهم العهد مع محمد صلى الله عليه وسلم ويريدون أن يأخذوا عدداً من رجالكم ليسلموهم لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبهذه الخدعة العظيمة فتت النبي صلى الله عليه وسلم الحلف الناشئ بين الأحزاب وبين يهود بني قريظة، وألقى بينهم الشك.
6. بث روح المشاركة بين المسلمين في طعامهم وشرابهم، وجميع شأنهم، وأن لا يؤثر أحدٌ نفسه على غيره فكلهم سواء. ومن ذلك ما رواه ابن هشام في سيرته حيث قال: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مِينَا أَنَّهُ حُدِّثَ: أَنَّ ابْنَةً لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، أُخْتِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَتْ: دَعَتْنِي أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ، فَأَعْطَتْنِي حَفْنَةً مِنْ تَمْرٍ فِي ثَوْبِي، ثُمَّ قَالَتْ: أَيْ بُنَيَّةُ، اذْهَبِي إلَى أَبِيكَ وَخَالِكَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا، قَالَتْ: فَأَخَذْتهَا، فَانْطَلَقْتُ بِهَا، فَمَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَلْتَمِسُ أَبِي وَخَالِي، فَقَالَ: تَعَالَيْ يَا بُنَيَّةُ، مَا هَذَا مَعَكَ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا تَمْرٌ، بَعَثَتْنِي بِهِ أُمِّي إلَى أَبِي بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، وَخَالِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَتَغَدَّيَانِهِ، قَالَ: هَاتِيهِ، قَالَتْ: فَصَبَبْتُهُ فِي كَفَّيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا مَلَأَتْهُمَا، ثُمَّ أَمَرَ بِثَوْبِ فَبُسِطَ لَهُ، ثُمَّ دَحَا بِالتَّمْرِ عَلَيْهِ، فَتَبَدَّدَ فَوْقَ الثَّوْبِ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانِ عِنْدَهُ: اُصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ: أَنْ هَلُمَّ إلَى الْغَدَاءِ. فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ، فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَجَعَلَ يَزِيدُ، حَتَّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ أَطْرَافِ الثَّوْبِ.