كل صباح يجول في باحة المسجد حيث صناديق الموتى الفارغة وهي تستعد لحمل مُرْتَحِلٍ تُقْرَأُ عليه فاتحة الآخرة عند الظهيرة
..
مع أن للنعوش أثرا آخر يتضور مع برد كل فجر ..!!
طفل أو طفلة في أخلاق إنسان تضمُّهم زوايا هذا النعش أوذاك ، يُسْتَدَل عليهم بالصراخ حينا ،أو بفيح الدم المتعفن من أقمشتهم الملوثة أحيانا أخرى !!
عمله المعهود أن يحملهم إلى إمام المسجد لاتخاذ الإجراءات الرسمية والتي دائما ما تكون : تقييد القضية ضد مجهول !!
في البدء كان يتعجب من هدوء الشيخ أمام مشهد طفل يصرع الحياة أو تصرعه ، ولكن تداول الأيام و تعود الجرائر؛ أيقظ في فكره فهما مهترئا للوجود : فبعض حياة جديدة في الصباح تسبق كل حياة ستنتهي في المساء !!
سأل الشيخ مرة :
– لماذا يولد الأطفال في النعش ؟
فاجاب الشيخ
– القدر يسوقهم حيث يشاء !!
حينها ينعطف السؤال في نفسه طقسا من طقوس الغيب ، وينطفئ الأمل في وعيه فلا يناوش كثير استفهام ..!!
ذات أصيل علا صوت زوجة الشيخ ، فوصل فحيحه إلى كوته المنزوية على سطح المسجد الطيني ..
– يا شيخ ! البنات كَبِرْنَ ولا يصح دخول هذا الولد عليهنّ ؟ ابحث له عن مرفأ آخر بعيدا عن سفينتنا؟؟
فتعجب في نفسه : مرفأ آخر .. ؟؟ وهل نحن في بحر هائج إننا على الأرض ؟؟
المرفأ في قاموس خياله محدود في باحة المسجد وغرفة الصفيح على سطحه ، فهناك منتهى الأفق ومبلغ الكون لديه …
ترامى إلى ذاكرته سؤاله لأمه المصطنعة يوما :
– .. من أنا ؟؟
فأجابته بمقت السخرية :
– أنت ضربة حظ عاثر …!!
ضربة حظ : كلمة جديدة تضاف إلى معجمه الفَتِيِّ من مكر البشر …!!
حمل الكلمة ببراءة إلى صديقه المخضرم ذي الشارب الأنيق ، ومنه إلى آخر وآخر حتى صار اسمه الحركي : ضربة حظ !!
جرّب أن يبحث هو عن سر الضربة :
هل يولد كل الأطفال في النعوش مثله ومثل أطفال المسجد ؟؟
ذهب إلى مستشفى الولادة في المدينة فتقنَّع السور ، وجعل يراقب الداخل إليه والخارج ،
فرأى عجبا من الخيال وضربا من الهذيان !!
– في كل مرة يخرج ثلاثة : رجل وامرأة وبينهما طفل على ذراع الرجل !! لماذا ألا يوجد لديهم نعوش؟!!
استرق الدخول إلى المستشفى حيث هداه ذكاؤه الفطري إلى حاضنة الأطفال ، وفيها زاغ بصره بين نعوش جميلة تحتضن أطفالا وشَّاهم الحرير وفاخر القماش!!
قال في نفسه : إنها لا تشبه الأقمشة المهترئة التي يلفُّ بها أطفال النعوش !!
اختلس الخطوات ودخل إلى الحاضنة … تأجج في وعيه شارد ما ؟… انتقام أم براءة ؟؟ لا يدري كل ما أدركته يداه أنه أخذ يغيِّر ويبدِّل في أسماء الأطفال المثبتة على الأسرة وعلى أيديهم ، و صوت زوجة الشيخ يتردد في سمعه عارما ضربة حظ .. ضربة حظ .. ضربة حظ
صرخت إحدى الممرضات لما رأت وجهه المرتسم على هامش الإنسانية ، كانت بشاعة منظره توحي أن للألم أكثر من وسم في هذه الدنيا ..وأن للغول نطفة تائهة بين البشر ..!!
هرب سريعا تاركا خلفه غصصا من الحيرة تلوك أذهان الآباء ، وضجيج من رفض يتصادح في أرجاء المكان …
رمى بجسده في أحد توابيت المسجد وهو يصرخ جذلا :
لست وحدي ضربة الحظ .. العاثر !!